بين حيدر وحيدر... هناك فرق!
العربي القديم – إيمان الجابر
ولم يكن كل سكان البيت قد عادوا إلى النوم، بعد وجبة السحور. هناك من يصلي ومن يلملم بقايا الطعام. صوت قرقعة الصحون والملاعق، خلال الجلي لم يتوقف بعد. كنت مع من عادوا إلى النوم مع آخر لقمة مازالت في فمي، وأنا نصف نائمة، كان والدي يلح على إيقاظي، حتى آخر الوقت؛ كي لا أصوم بدون سحور مثل العادة.
خطوات قوية هبطت، فوق سطح البيت العربي المؤلف من طابقين، مع طرق عنيف على باب الدار الحديدي، صراخ وشتائم، كلام متداخل غير مفهوم، يأمر بفتح الأبواب في الحارة. تسابق أبي وجدّي لفتح الباب، في تلك اللحظة وجدت نفسي أمام باب الغرفة، رأيت عدداً من الجنود بأسلحتهم قادمين من السطح، وكأنهم هبطوا من السماء، ومثلهم من دفعوا الباب، ومن خلفه لينفتح على مصراعيه، وهم يصرخون: كل شباب البيت تطلع لبرّا.
بدؤوا بحملة تفتيش عنيفة لغرف الدار جميعها. كان أخوتي الصغار يرتجفون تحت الأغطية، ربما يبكون بأصوات مخنوقة، كنت أسمعها في قلبي. كان العسكر يرمون كل شيء، ويدوسون على كل شيء، حتى ظننت أنهم ربما داسوا على أحد أخوتي، وهو في فراشه فاختنق. الأفكار المرعبة سيطرت على عقلي الصغير، وبدأت أبكيه بحرقة، أحسست أن هذه الدقائق القليلة التي جعلت الغرفة بمنظر رهيب من الفوضى، زمن أبدي لا ينتهي.
ابني مصطفى مثلكم (يوب) كان عسكرياً، لا تأخذوه معكم، قالت جدتي. تابع أبي موضحاً: كنت متطوعاً في البحرية، وأجريت عملية جراحية جعلتني عاجزاً عن متابعة الحياة العسكرية، جئت إلى حلب؛ لأعيش بين أهلي. علّق جدي: (يا ابني نحن فلاحون، مالنا شغل في السياسة، غرباء هنا، تركنا قريتنا وأراضينا؛ لأن أولادي أرادوا العمل والعيش في حلب). انتبه جدي لوجود أمي، فأضاف مستدركاً: (هذه كنتي سميرة، من اللاذقية، اسألها، تعيش بيننا، لا ندخل بيت أحد، ولا أحد يدخل علينا). التفت أحدهم إلى أمي سائلاً: أين هويتك؟
الهوية في يده، وكل العيون معلقة فيها، (سميرة حيدر، مواليد اللاذقية). دبلوماسية جدي، وسرعة بديهيته جعلت العسكر يبدون لي أنهم بشر مثلنا، فهدأت ضربات قلبي.
جدي الذي كان مختاراً في قريته (حور النهر) مشهور بشخصيته القوية! غالباً ما كان يستعيد ذكرياته، كمتحدث بارع بفخر. (قلت له: يا حضرة القائم مقام أنا معك…)، أو عندما كان ضمن وفد من الفلاحين؛ من أجل اللقاء بجمال عبد الناصر مثلاً.. ظن أنه أحدث فرقاً خلال المقابلة معه. جدي الذي عرفته لم يكن هو نفسه في تلك اللحظة، كان يتحدث بصوت منخفض، وشديد اللطف: (تفضلوا استريحوا والفطور سيكون جاهزاً خلال دقائق).
وتناول حُماة الديار فطورهم في دارنا، ونحن جميعاً صيام.
أما أعمامي الشباب، ومعهم أخي ابن الخامسة عشرة، كان قد تم اقتيادهم إلى ساحة المدارس؛ لينضموا إلى شباب الحي ورجاله هناك.
الرؤوس مطرقة، الرقاب ذليلة، الظهور محنية، لأجساد تجلس القرفصاء على الأرض، الحر شديد يجعل مرور الساعات في انتظار القادم المجهول مهيناً بكل المقاييس الإنسانية. جثة بشرية معلقة بدبابة، تُسحل أمامهم، لتستعرض مواتها على مراحل، حتى اختفت ملامحها. العديد من مركبات وناقلات الجنود، يغص فيها المكان، يصعد الضابط الكبير فوق ظهر الدبابة؛ ليلقي محاضرة، ويعطي درساً في الوطنية، مستخدماً ميكروفون المدرسة، ويعلمهم كيف يكون المواطن واشياً، ومخبراً صالحاً، عن أهل بيته قبل جيرانه، عن أخيه قبل صديقه، عن أي شخص يعرف، أو يظن أنه قد فكّر، بينه وبين نفسه بألا يكون معجباً بسيد الوطن، فما بالك بالتعامل مع أعدائه!
الهتافات في الحواري، لرب الوطن كانت تخترق الجدران الحجرية الصلبة للدور الكبيرة، وتسمع من كان به صمم. زلزال هز أرواح الناس، وأعاد صياغة أخلاقياتهم، بما ينسجم مع الواقع الجديد. فقدان الثقة والخوف المتبادل بين الناس جعلهم يتبارون، في إتقان دور المخبر الوطني الحريص، على أمن الوطن، وكلمة (إخونجي) هي المفتاح السحري؛ لحل أي خلاف بين شخصين، قرر أحدهما التخلص من الآخر.
توفي جدي، ثم والدي، بعد أشهر من ذاك اليوم الرهيب الذي مازال محفوراً بكل تفاصيله، في تجاويف دماغي: أصواتهم، روائحهم، وجوههم الغاضبة، بساطنا، فرشاتنا، مخداتنا، والأغطية البيضاء النظيفة، الأنفاس الخائفة المخنوقة تحتها، البوط العسكري القذر فوقها، داس على كل شيء فينا، حتى مناماتنا وأحلامنا، صورة بالغة الكثافة عن الوطن وسيده لا تمحى ولا تموت.
حملت خوفي معي سنوات طويلة، لم أكن أجرؤ على النظر، إلى صور القائد الذي يعبده جنوده، وكان علينا كلنا أن نكون عبيداً.
في بداية المرحلة الجامعية، وكنا قد انتقلنا من حلب إلى السلمية، حصلت على عمل في مدينة حماة (إستديو للتصوير يحتاج لفتاة، من أجل الزبائن من النساء، وكل ما يتعلق بهنّ من تحميض أفلام وتلوين الصور وتسليمها)، في منطقة الحاضر، من موقف باصات سلمية- حماة، باتجاه الحواري والأزقة، أمشي الى مكان عملي. الوقت صباحاً، تبدو خالية هذه الأمكنة، وكأنها غير مسكونة، أسمع وقع أقدامي، وأتلفت حولي خائفة، لا أعرف ممن، ربما من رؤية بيت مهدم، أو جدار تخلى عن سقفه، نصف السقف أرهقته كثرة الشقوق فيه، بدت أجزاؤه متمسكة بأسياخ الحديد، فلا تعرف مَن يحمل مَن، ويحميه من السقوط. كل ذلك يعيد لذاكرتي ذلك البيت المرمي على عجل، وعلق بزاوية إحدى الحواري المؤدية لدارنا. ألمح بداخله براداً فقد بابه، أركض بسرعة كلما عبرت من أمامه، في الذهاب والإياب من مدرسة الفارابي الابتدائية، قيل لي من رفاق المدرسة همساً: غيري طريقك، لا تمري من أمام بيت (إبراهيم اليوسف)، انتبهي… وماذا عن البيوت الأخرى؟
لا تهدم بيتاً واحداً، إن كنت قادراً على هدم ستة بيوت أخرى بجانبه.
ربّ الوطن أوصى بسابع جار، تلك هي فلسفة العقاب الجماعي، التي كنت شاهدة عليها، وأنا طفلة وحتى لا أضبط متلبسة بسرقة النظر إلى هذه البيوت، قررت أن أؤمن بأن هذه البيوت مسكونة بالأشباح والعفاريت، وهم من جعلوها بهذه البشاعة المرعبة، وأن كل ما يقال همساً عن الفاعل هو كذب في كذب، غيرت طريقي ومضيت.
لا أعرف إن كانت حواري حماة هي من أعادتني إلى حلب، أم حلب هي من أرسلتني إلى حماة؛ لأعيد نبش الصور من ذاكرتي، وأقرر مواجهة الحقيقة، وأن ما حدث في حلب لم يكن، سوى بروفة لما حدث في حماة، وها أنا اليوم أعلن: إنه لم تكن العفاريت والأشباح هي المسؤولة، عن كل ذلك الدمار الذي حدث في حلب، وحماة، وما سيحدث بعد ذلك في كل سوريا.
ملاحظة: هؤلاء العسكر، لو علموا أن قبلهم لم يكن هناك فرق بين حيدر سلمية، وحيدر اللاذقية، لنجونا جميعاً.
_____________________________________________
من مقالات العدد الثامن من مجلة (العربي القديم) شباط/ فبراير 2024