العربي الآن

تجربة ذاتية: عقدة الاضطهاد واحتقار اللغة العربية!

محمد المير إبراهيم – العربي القديم

جرت العادة استخدام كلمة (تنمر) دلالة عن الإضطهاد الذي يُمارس بين الأطفال والمراهقين.

مضطَهَد ومُضطَهِد… أحسست أنها كلمة مخففة لما تحمله من معنى. هو الاضطهاد القائم على استغلال نقاط ضعف الآخر. اضطهادٌ ناعم، سلس، مَرِح ، حتى مقبول في حالات كثيرة.

مثل أيّ إنسان  تعرضت لهذا النوع من الإضطهاد، بل أحيانا مارسته (تناغماً مع الطبيعة البشرية المقرفة). هذا الاضطهاد لم يتعدَّ حدوده (الطفولية الفطرية)، لكنه يبقى في النفس سواءَ كُنت مُضطَهد أو مُضطَهِد. المُدهش في الأمر هو الزمن. مع مرور الزمن يزداد إحساسك به، بأثره سلباً كان أم إيجاباً.  تتفتح عيناك على مشاهد جديدة .. أو الأدق رؤيتك تصبح أكثر حِدة واتساع.

مُنذ مدة قُمتُ بتجربة اجتماعية خاطفة، شملت محيطي الإجتماعي البسيط، المقرب والمباشر.قُلت  : لقد أخذتُ عهداً على نفسي أن لا أكتب في وسائل التواصل الإجتماعي إلا باللغة العربية الفصحى. أطلقتُ هذه العبارة متعمداً وحباً باللغة العربية ورغبة في ملاحظة تفاعل  الناس مع هذا الأمر.

لم يخب ظني في كائننا البشري للأسف. تراوحت ردات الفعل بين مازح ومستهزئ

قُلت: من الطبيعي أن ألقى ردة الفعل هذه…   فهذا عصرٌ نسبي افتراضي، من يملك الوقت والرغبة والجلد لقراءة جملة مكتوبة على جدار ليقرأ رسالة؟

إذاً موضوعياً أنا مُدرِك للواقع الذي نحياه. لكن تابعت. أصررت على المُضي في الأمر حتى لحظة كتابة هذا المقال.

سجلتُ  ما لقيته  من رد فعل.. هنا أحدهم يمزجُ بين الكلمات ليُنتج كلاماً عربياً دون معنى.

هُناك من تلقف طرحي كبداية ارتدادي نحو الدين.. أو إحدى تمظهرات هذه الردِة.

آخر ارتبطت اللغة العربية الفصيحة  في وجدانه بالدين الإسلامي، على قاعدة أن غالبية المتكلمين بها هم إسلاميون ودعاة وشيوخ فنفر كالملدوغ.

آخر اعتبر أن في كلامي نزعةً نرجسية متعالية وكأني ولي أمر وهو من الرعية.

الأدهى والأخطر حين بُرر تململ الناس بأني أكتب بلغة عربية فصيحة،  لكنها مليئة بالأخطاء النحوية والإملائية.

لملمتُ هذه الأفكار وحاولت التغاضي عنها وإبقاءها في خانة من التململ المبرر والتنمر (الاضطهاد) المُحبب والطفولي.. لكن:

كانَ لا بد من التَّفَكُرِ في ما بين يدي من معلومات.

لا بُد من التجني المضبوط بعدسة المجهر، استشفافاً للمستقبل أو على أقل تقدير معرفة الحاضر من خلال أحدِ تفاصيله البسيطة.

١- لم نتعلم أن نُحبَّ شيئاً فينا، بل اشتُغِلَ على تعزيز احتقارنا لذاتنا ولكياننا حتى وصلنا لاحتقار لُغتنا.

٢- هذه المعضلة التي عصت كُل محاولة لفهمها، التي تشمل الحالتين الثانية والثالثة معاً.

ماذنب الدين إن ارتبط الناس به لدرجةٍ تمنع حتى مَن تحرر من هذا الارتباط، أن يفصل بين الناس والدين؟  ما ذنب اللغة العربية والدين نفسه إن لم يستطع ذات الشخص أن يفصل بينهما؟

ما فاعلية محاولة فصل الدين عن المجتمع ، مجتمعنا العربي والسوري كمثال، إن كان من حرر نفسه وحمل لواء تحرر المجتمع وادعى امتلاكه الحجة الواضحة والأداة الصحيحة (عقلياً) لم يستطع الفكاك من التنميط وصور الحالات الاجتماعية التي تعرض لها، إذ لم  يرَ في شخص يكتب بالعربية الفصحى سوى ذقن وأحاديث نبوية وقرآن؟

ما هو الفصلُ إذاً ؟ وأين موضعه؟

٣- كم أحسست بأننا كأفراد بعيدون عن أنفسنا وبعيدون عن الآخر. بعيدون عن المعرفة المبنية على الثقة، ثقةٌ بأن الناس حُكماً متغيرون، ثقة بأن التغيير لا يَمس ثوابتاً اشتركنا معهم فيها.

٤- تذكرت نقاشات الملحدين والمؤمنين والأجوبة المعهودة: إذا أردتَ الكلام في الدين أو الإلحاد يجب عليكَ أن تكون (عالماً) متبحراً في صنوف الفقه والسنة والحديث من جهة وفيزياء الكم وفلسفة كانط وماركس وهيجل من جهة أُخرى .

تأسيساً، هذه الفكرة دقيقة جداً. لكن من قال أن كُل الناس يجب عليهم مراجعة الإرث الفكري البشري، حتى يستطيعوا تكوين وجهة نظر خاصة بهم في هذا الوجود وهذه الحياة؟

أن تنقُض أو تنتقد وجهة نظر ما في شيء ما شيء، وأن تنفي وجهة نظر ما انطلاقاً من عيوب صاحبها شيءٌ آخر. أما بما يخص اللغة وكأحد المهجرين قسراً من بلادي، وأحد المُجبرين قسراً على تعلم لغة ليست لغتي أقول: كأننا لا نرى وإن رأينا لا نفهم، وإن فهمنا لا نُحس. أقسى أنواع الإضطهاد الذي تعرضت له ومازلت أتعرض له هو اللغة.

أن يتطاول عليك أحد سكان البلاد الأصليين ويختزل كيانك في جملة من الكلمات التي لم تستطع ترتيبها بشكل دقيق وينطلق من هذه الحقيقة إلى التعالي عليك وتنميطك بشتى الطرق هو قمة الاضطهاد القائم على القوة. (يبدو أنها نزعةٌ بشرية فطرية لا فكاك منها) كيفَ إذا بابن جلدتك والمتحدث بلسانك؟

المشكلة أن تُخطئ أم أن تنسى كيف تكتب كلمة بلغتك الأُم؟

*الحق في أن تكتب لُغتك دون شرط من الآخر هو كالحق في الإيمان أو الإلحاد* .

٥- المحصلة النهائية أننا مأزومون  كلٌ على حدة فضّل التكوّرَ على ذاته وإحاطتها بغلافٍ من الكلام (المُسلي) والحديثِ المُريح واعتمادِ قاعدة سطحية بسيطة: يُفضل أن أتناول الطعام مع مجموعة من الناس على أن أتناوله وحدي. لا الطعام مهم، لا طعمه ولا رائحته، لا المائدة مهمة، شكلها لونها، لا الكُرسي مهم، المهم هو ألا أبقى وحدي.

حالة قهرية من الوحدة والتقوقع المستور بوجه الآخر وكلماته. وآخر انقض على كُلِّ ما يمكن جمعه من تفاصيل بسيطة تعيدُ له أجزاءً من هويته المفتتة وكيانه المسلوب.. حتى لو بقي وحيداً.

جمّعتُ هذه الكلمات العربية البسيطة في هذه السطور، متأكداً أنها ستبقى بِكر دون تلقيح من عين أو عقل ولذلك كتبتها. من ثم أطلقتها..صرخةً واضحةً وذكرى لتبقى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى