فنون وآداب

الفلسفة وخصومها: العلاقة بين النهضة والفلسفة في حضور أحمد برقاوي

إيمان أبو عساف – العربي القديم

أحمد برقاوي فيلسوف غزير النشر ومتعدد المواهب، بمعنى امتلاكه مواهب نقدية وشعرية وطيف واسع من الاهتمامات التي تنشغل بقضايا الحياة والفكر والأدب.

وعندما أقول غزير الإنتاج يعني ذلك حضوره الكثير، المنتشر عبر وسائل التواصل ومنابر النشر والمنتديات والملتقيات، وهو حضور على كثرته نوعي، زاد من هيبة الفلسفه ووقارها المعرفي، وأحضرها بين الناس، دون أن تنحدر إلى (مستوى اللاهوت) أو الإيديولوجيا.

فكلما زاد برقاوي في شروحه ونقده واستقصائه كلما فتح الأبواب على معارف جديدة، أصبحت الأسئله الفلسفية مفتوحه على ممكنات غير محدودة. فالفلسفة لا تحتمل الغموض والإرباك، لانها سعي دائم نحو الوضوح. وهنا عندما يقول برقاوي أن واقعنا المتردي في التجزئه والسلطة والتبعية والاحتلال، والوقوع في قبضة الهيمنة، هو واقع لامعقول، أو هو اللامعقول في تعيّنه الواقعي. والنقيض الممكن خلف هذا الواقع قيام الأمة، الدولة، التحرر.

إذن الفلسفة ساعية أبدا لكشف الممكن، وكلما أوغلت عند برقاوي في صعوبة ومشاق السؤال، كلما زاد سعيه بغواية المعرفة لكشف الممكن (خلف الحجب المتعددة)، بما يجعل الإرادة فاعلة في تغيير العالم.

اقرأ أيضاً:

الكتابة والناس في فكر أحمد برقاوي

الفلسفة وخصومها

الفلسفة مرامها الحقيقه والحقيقة فحسب، ولما كانت الفلسفة سخية وتقدم موائد عامرة بلا حساب، تبقي أبوابها مشرعة، فتستزيد وتزيد أشكال وعيها، وكلما كانت حرة في الارتباط، حررت نفسها من كل اشكال الوعي (المفسد). وهكذا يبقى زاد المعرفة، زوادة السير لامتلاك العالم فلسفيا (هو العالم الإنساني حصرا بوصفه محددا يتعين بعلاقات اجتماعيه، بتاريخ، بفن.).

والفلسفة لها قدر وجلال، ووحدها تملك مشروعية الكلام بلا حدود، ومنذ أن بدأت لا يمكن أن نوقف  عجلتها، لأنها انطلقت واتسعت وامتدت، وتتسع وتتمدد الى ما لانهايه، وتجاهر أم العلوم بخصميها الإيديولوجي واللاهوتي، ولأنها تنشأ وسط الأسئلة، وتحرضها الأسئلة فهي حتما متجاوزة للوعي العادي.

الفلسفية تصارع بين وعيين إذاَ: وعي عادي شعبي لا يبالي بها، ووعي ديني يبقى خصما شرسا بل عدو لا يعرف المهادنه معها، وهنا تأتي عظمة الفلسفة لأنها لا تصمت ولأن رحمها  الذي تولد منه هو القلق، وهي تكره الموت، وتريد اقتسام كل شيء مع الجميع، وتدعو للشك وهو أساسها الثابت (لا انفصال أبدا بين فهم العالم وتغييره).

وعندما يسأل برقاوي لماذا تنهض الفلسفة بهذه المهمة؟ يجيب الفيلسوف بما معناه، أن الفلسفة تنتزع القداسة وتعيد الأمور إلى دنيويتها. والفلسفة عند برقاوي تجدد نفسها وتحدد مكانتها وقيمتها عبر استثمارها في العقول، العقول الحيوية التي لا تخاف ولاتتردد ولا تلوذ بالقطيع، مداها الحريه والحرية فحسب.

وكلما قامت السلطة بإحكام الاقفاص عليها، أطلقت قدرتها على الهدم والتحطيم والإنطلاق. (السلطة مغتربة عن التاريخ في الوطن العربي، وتوقف انتصار الأمة بفعل تكون السلطة القطرية، التي أتت بشروط خارجية).

الفلسفة هنا تتجاهل خصومها بترفع، تتحسس الأسئلة بمهارة، لا تغفل، متيقظة ابدا، لاتهدأ نارها حتى تعود لتستعر. وهنا تتحدد وظيفة الفلسفة التنويرية، وتمايزها عن اشكال الوعي الأخرى.

الفلسفة والأيديولوجيا

 وبالنسبة للإيديولوجية، يوضح الفيلسوف حاجتها للفلسفة (لتعطي نفسها طابعا كليا عاما)، ويعطي مثلا على ذلك، مفهوم الدولة في الأحزاب الفاشية التي غيرت المفاهيم وحولتها إلى إيديولوجيا.وأما يقظة الفلسفة عند برقاوي تظهر عبر سؤال.. هل تنطوي الفلسفة على إمكانية الإيديولوجيا؟.

يجيب، نعم، وهذه مهمة الفيلسوف المتجاوز الذي يستطيع كشف هذه العلاقه، ويعطي مثلا على فيلسوف البرجوازيه جان جاك روسو، وكيف حولت البرجوازية أفكاره حول العقد الإجتماعي وجعلتها متطابقة مع نزوعها للسلطة السياسية، وهكذا تحولت أفكاره إلى جزء من منظومة البرجوازية الإيديولوجية، وكذا الامر عند نيتشه الذي تحول الى الآري الألماني المتميز بالعبقريه، وهكذا تقتلع مفاهيم الفلسفة من سياقها الفلسفي ، وتحشر في منظومات الإيديولوجيا.

حولت البرجوازية أفكار روسو حول العقد الإجتماعي وجعلتها متطابقة مع نزوعها للسلطة

وبيقظته المتوثبة يفض العلاقة بين الفلسفة والدين، وتستطيع الأصولية نقل الدين عبر تأويلات وترسيمات لتحقيق (مملكة الله على الأرض)، وما الأصوليه الإسلامية عند سيد قطب بفكرتها الحاكمية لله، إلا أساس في كل الإيديولوجيات الدينية، وحدث ذلك أيضا مع المسيحية التي كانت إيديولوجيا الطبقة الحاكمة.

وبمهارته المعهوده وتيقظه المشهود، يسأل البرقاوي: هل نجد في الدين إمكانية فلسفية؟ يجيب بشكل قطعي.. مستعرضا تاريخ السؤال عند العرب وفي الغرب.. قائلا: “أن إله الفلسفة غير إله الدين في الوظيفة، والمنزلة والفاعلية”.

وأما الميتافيزيقا في كل منهما، فاللاهوت يسعى للتدليل عليها عقليا عبر الترسيمات الدينية، لكن الفيلسوف، مرجعيته العقل أولا وأخيرا.

فكرة الحاكمية لله عند سيد قطب أساس في كل الإيديولوجيات الدينية

اللاهوت يؤمن بمسلمة حاصلة ومطلقة، وتبقى الحقيقة فحسب (هي انشغال العقل في الحقيقة والفلسفه تحول موضوعات الدين إلى مشكلات وأسئلة، وتظهر هنا إمكانية ان يكون الدين ايديولوجيا وفلسفة ، لكن الفلسفة لاتؤمن باقتصاد المعرفة، ولها حصانة ضد النهب واللصوصيه والاعتداء على انشغالاتها ، وتجدد مكانتها دائما من خلال العقل الحيوي الذي يحرر نفسه من الوعي الزائف للايديولوجيا ، وأما الفرق بيننا وبين الغرب فيكمن أن فلسفة الغرب خلصت ثأرها من الدين، عبر نقده مطولا، ولدينا مازال مفهوم الفلسفة يعني الإلحاد.

 وتبقى التجربة الدينية والإيديولوجية تجربتا وعي قابلتان للتحليل والفهم، أما الفلسفة فهي حرة في كل ارتياداتها إذا صح التعبير، ولن تتحول الفلسفة خادمة للاهوت أو الايديولوجيا وإلا فقدت وظيفتها النظرية والمعرفية. وهكذا مهمتها الأولى هو امتلاك العالم على نحو حقيقي، وعندها نصنع المستقبل، وستبقى الفلسفة ذات حصانة وحدها تستأثر بهذا الكشف.

يضعنا أحمد نسيم برقاوي في قلب الفلسفة دائماً، ويدحض تهمة الغرب لنا بالوقوف على الحدود، يقف برقاوي مع قلة نادرة، في ميدان محفوف بوعورة المسلك وازدحام الأسئلة ومشقة الإجابة.. ليكشف لنا الاتساع الأفق وطول الدرب.

زر الذهاب إلى الأعلى