أرشيف المجلة الشهرية

فصول من المذكرات | يوم حضر حافظ الأسد التحقيق مع الأسير الإسرائيلي

مأمون البني – العربي القديم

٥ حزيران 1967

لقد بدأت معركة المصير، معركة حرب حزيران التي كنا ننتظرها بفارغ الصبر؛ للقضاء على الأقزام الصهاينة الذين اغتصبوا أرضنا، أرض فلسطين، والحرب عبارة عن ساعات، وتكون إسرائيل مرمية بالبحر، إذ سبق لأمين عام الجامعة العربية عبد الخالق حسونة أن صرّح [ذلك، وأكدها الريس عبد الناصر، أنه سيتم القضاء على إسرائيل في ظرف أربع وعشرين ساعة، أو في ظرف ثلاث ساعات، وعلل الفرق: إما أن يقصف إسرائيل كاملاً، وهذا يحتاج لساعات، أو يقصف الأماكن الإستراتيجية والحساسة، وهذا سيحتاج ليوم أو ثلاثة أيام…!

أكد ذلك الرفاق في سوريا، فهم ثوريون مناضلون قوميون وطنيون إلخ من جمل صفات النضال والمقاومة.

 كنت متأكداً أن النصر حليفنا، خاصة أن جبهتنا الجنوبية معززة بكامل الأسلحة والعتاد، فقد كنت من بين الفريق التلفزيوني الذي رافق رئيس الوزراء يوسف زعيّن، والقادة الأمراء من الجيش العربي السوري، وبصحبتهم ضيوف من الاتحاد السوفييتي إلى الجبهة الجنوبية بتاريخ 3 حزيران 1967، أي قبل يومين من الحرب. أجرت فصائل قوى الجيش بعض المناورات، وكنت فخوراً بما شاهدته لخط (ماجينو)، شاهدت عن قرب كيف أن الهضاب في جبل الشيخ ترتفع، من خلال طبقاتها الأرضية الخضراء بلحظة واحدة، ويخرج منها مركبات لأسلحة ثقيلة من كل الأنواع، وكانت حسب ما سمعت من الشرح، أن كل هذه المواقع محمية من نيران العدو، التي من المستحيل الوصول إليها. وكانت الجبهة محمية أيضاً بالملاجئ، ومنها ملاجئ تقي نسبياً من القصف الذري والكيماوي لرابع دور تحت الأرض.

أردت أن أُنفّذ الواجب، وألتحق بعملي في أول أيام الحرب، (كنت حينها أعمل مساعد مصور قبل دراستي في فرنسا). وصلت قريباً من المسرح العسكري في شارع القوتلي بطريقي إلى مبنى التلفزيون في ساحة الأمويين، عندما انطلقت أصوات القصف الإسرائيلي، وأصوات الدفاعات السورية عند الساعة 13,45، فاضطررت للزحف حيناً، وللركض حيناً آخر، حسب قوة قصف قاذفات العدو التي تهيّأ لي أنها كانت تستهدفني شخصياً.

وصلت أخيراً إلى مبنى التلفزيون، وإذ ببعض الموظفين البعثيين، قد استلموا حراسة المبنى عوضاً عن عناصر الجيش، لمغادرتهم بدورهم والتحاقهم بقطعاتهم. دخلت وشاهدت أحد البعثيين القومجيين م. ص، وهو مصور سينمائي، كان يحمل كلاشينكوف بيد، وبندقية باليد الأخرى، وقطعة من دالية عنب على رأسه للتمويه، والعرق يصب من على جبينه؛ لأنه مشغول جداً، حاولت أن أعرف ماهية انشغاله، فهو لا يتوانى عن الركض بين الاستعلامات الخارجية والداخلية، ولا يتوقف عن البربرة، ولمّا شاهدني قال لي: “لازم تعرف من الآن ممنوع الخروج من المبنى إلاً بمهمة رسمية”، وأكمل سرعته إلى الاستعلامات التي كان المسؤول عنها طارق حريب، الذي أصبح في ما بعد أحد أهم المحللين السياسيين في إذاعة الشعب.

وصلت الطابق الثالث، والتحقت بدائرتي، وجاء تحسين الجزائري رئيس الدائرة، يطلب من المصور محي الدين سكحل أن يتجهّز، ليذهب مع مصور آخر، يختاره هو للجبهة من أجل تغطية المعارك هناك. وافق محي الدين فوراً وبدأ يفكر بمن سيختار…! فقلت له عليك بالمصور م.ص (البعثي القومجي)، فوافق رئيس الدائرة مباشرة، وطلب مني أن أستدعيه من مهمته التي تبنّاها وحده على مدخل المبنى. ذهبت لإخباره بنفسي لرصد مدى مزاودته ونفاقه، لأقيّم مقدار مصداقيته ووطنيته.

فقد كان بعضهم يتستّر وراء أفكار القوميين، وكانوا لا ينفكون عن إعطاء دروس في الوطنية والنضال، وإنهم دون الآخرين يسهرون على راحة البلد وصمودها ضدّ أعداء الوطن، والبعثي هو الوحيد الذي يؤمن أن العرب أمة، حقها الطبيعي في أن تحيا كأمة واحدة، ويؤمن بأن القومية حقيقة حية خالدة، وبأن الشعور القومي الواعي الذي يربط الفرد بأمته هو شعو نضالي مقاوم…! الآن جاء دورك يا سيد م. ص أن تذهب، وتناضل من أجل الدفاع عن هذه المبادئ التي طالما ثقبت آذاننا بتردادها.

وصلت إليه، وأخبرته أن الأستاذ تحسين يريدك على الفور…! قال مستغرباً: ألا يعرف هذا التحسين أني في مهمة وطنية، ولا يمكن أن أتركها…! قلت له: إن المهمة التي تنتظرك أهم بكثير من وقوفك حارساً على الباب، وليس لها بديل عنك. سأل بالطبع عن طبيعتها، فأخبرته بالتفصيل، جفّت شفاهه، واصفرّ وجهه، وبدأ بالتلعثم، وقال لي: أرجوك، قل له إني غير موجود…! قلت له إنه شاهدك من شبّاك المبنى، وقد استصدر لك، وللسيد محي الدين مهمة فورية.

اضطرّ للمثول على مضض، وسافرا للجبهة عند الساعة الرابعة والنصف بعد الظهر، وفي الوقت نفسه وصلنا استدعاء فوري من وزارة الدفاع، لتنفيذ مهمة سرية في مكتب الأركان بالصوت والصورة. سارعت لوضع اسمي مع المصورَين أحمد أبو سعدة، وأحمد تركاوي، وكان رئيس المهمة مدير التلفزيون آنذاك (خضر الشعار).

كنا أربعة فقط، وصلنا الأركان بعد عشر دقائق، لقربها من مبنى التلفزيون، لنفاجا أن أسيراً إسرائيلياً برتبة ملازم طيار، اسمه أبرهام أُسقطت طائرته، واقتيد للأركان للتحقيق معه، وطلبوا منا تسجيل التحقيق صوتاً وصورة. كان الأسير قد اُقتيد للتو، ويقوم أحد الضباط بالتحقيق معه بلغة إنكليزية ركيكة وغير مفهومة، ممّا أثار حفيظة مدير التلفزيون، واستلم التحقيق بدلاً عنه، ووافق الضابط بعد أخذ موافقة ضباط قادة، كانوا متخفين في غرفة مظلمة ملاصقة يراقبون التحقيق. لم أستطع التعرف على سحنتهم، فقد كانت وجوههم تبدو لي كوجوه القطط المختبئة للانقضاض على الفريسة. أثناء تثبيت الإضاءة في الغرفة، تعمدت أن أمرر البروجكتور بشكل سريع على شق الباب، لأكتشف الوجوه، كان أحدهم حافظ الأسد.

كان وزير الدفاع حافظ الأسد مع ضباط آخرين في غرفة ملاصقة ومظلمة يراقب التحقيق مع الأسير الإسرائيلي الطيار

قال الطيار الإسرائيلي إنه شارك بقصف المطارات المعلنة والسرية صباحاً في مصر لأول يوم في المعركة، وبعد راحة لعدة ساعات أتى ليقصف سوريا، ولدى سؤاله عن رأيه في نتيجة الحرب؟ أجاب بسخرية: أي حرب…! أخبرتكم أن سلاحكم الجوي قد دُمّر بالكامل، والحرب انتهت، فقام الضابط بصفعه، وطلب منه أن يقول أمام الكاميرا إن العرب سوف يربحون الحرب.. ابتسم الأسير، وردد الجملة ببغائية.. نعم، هذه المسرحية كانت أول تحوير إعلامي لحقيقة خطيرة، عكسها مسؤول عسكري أمام عيني، وتتالى بعدها سيل الأكاذيب حتى يومنا هذا.

كان الدكتور يوسف زعيّن رئيساً للوزراء، والدكتور إبراهيم ماخوس وزيراً للخارجية، ومحمد الزعبي وزيراً للإعلام، واللواء حافظ الأسد وزيراً للدفاع، بالإضافة لعمله كقائد للقوات الجوية. أما الإدارة العامة للتلفزيون، فكان عبد الله حوراني مديراً عاماً، وخضر الشعار مديراً للتلفزيون

البيانات التي أُذيعت في الأيام الستة للحرب، كان مضمونها على الشكل التالي:

إن “سوريا تلتحم مع العدو الآن، ولن تتراجع قبل إبادة الوجود الصهيوني إبادة كاملة”. قواتنا المسلحة أسقطت أكثر من 150 طائرة إسرائيلية، في حين صرح العدو أن سورية خسرت نصف طائراتها المئة، وأنه دمّر 416 طائرة مقاتلة عربية، لتفقد الجيوش العربية غطاءها الجوي، ولتصبح وحداتها العسكرية البرية ودباباتها ومدرعاتها فريسة سهلة للطيران الإسرائيلي.

وزير الخارجية إبراهيم ماخوس اتهم أمريكا وبريطانيا بمشاركة إسرائيل في قصف سوريا

اتهم الدكتور إبراهيم ماخوس وزيري خارجية أميركا وإنكلترا باشتراك دولتيهما بقصف سوريا، وإنه شاهد ذلك بأم عينيه…!

 أصبت شخصياً بحالة من الارتباك! هل أصدّق الحقير الأسير الإسرائيلي القزم، أم أصدّق قادة وسياسيي بلدي الحبيب الذي يتعرض الآن لحرب شرسة، نخسر فيها أرواح شبابنا الأبطال في سبيل حرية واستقلال وسيادة الوطن.

اليوم الثالث

في اليوم الثالث للحرب، وبعد إذاعة أنباء، أن الأوامر قد صدرت لقواتنا الباسلة لتحرير صفد، وطمأنونا أن التحرير قاب قوسين أو أدنى! أطل علينا الشاعر الفلسطيني البعثي والمدير العام السابق للإذاعة والتلفزيون يوسف الخطيب برسالة متلفزة، يؤكد فيها تحرير كامل الأراضي الفلسطينية، ويدعو الجماهير العربية لتناول كأس من العرق في مدينة حيفا على حسابه الخاص!

على فكرة كانت الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون في فترة الستينات كعكة يتقاسم حصصها رفاق ثوريون بعثيون من العراق وفلسطين ومن سوريا، فمنذ تأسيس التلفزيون في تموز 1960 إلى زمن حرب حزيران 1967، مرّ على إدارة التلفزيون تسعة مديرين عامين، آخرهم عبد الله حوراني الفلسطيني. وأربعة عشر وزير إعلام، آخرهم محمد الزعبي من منطقة حوران. منذ الاستقلال 1946 وحتى عام 1962، لم يكن للإعلام وزير، بل كان وزيراً للدولة تتبع له مديرية الدعاية والأنباء والإذاعة والتلفزيون، ليأتي رئيس الوزراء عزت النص عام 1962، ويغيّر التسمية والتخصص إلى وزير للإعلام.

وبالعودة إلى ساحة الوغى…!

 بعد ما شربنا كأس شهوة الانتصار القادم لا محالة، وبعد إسقاط مئات الطيارات للعدو، وموت آلاف جنود للمعتدي الغاشم، بفضل بسالة جيوشنا العربية، حسب البلاغات الصادرة من المنطوق الإعلامي الرسمي للبلاد سوريا، والأردن، ومصر، والعراق، وحسب تبجّح الإذاعات العربية، من خلال أصوات المذيعين النجوم، أمثال البطل الإعلامي النجم حسنين هيكل، الذي كان يصوغ البلاغات، بصفته المستشار الإعلامي الأوحد للرئيس جمال عبد الناصر، أمّا في سوريا فقد كان هناك عدة مذيعين مشابهين له، منهم: (فؤاد شحادة، وعادل خياطة، ومهران يوسف، وخالد أبو خالد).

لكن البلاغات الرسمية المتعلقة بمجريات المعركة، كانت تأتيهم من القيادة العامة للقوات المسلحة موقّعة من وزير الدفاع حافظ الأسد شخصياً. وهناك قصة طريفة رواها محمد الزعبي مؤخراً عن بلاغات ال 1967 وكيف كانت مليئة بالأخطاء النحوية، ممّا اضطرّ الزعبي أن يرسل لحافظ الأسد أحد الموظفين الشباب في الإعلام أحمد إسكندر أحمد للتصحيح اللغوي، وكان ذلك فاتحة حظ له، فقد استوزره حافظ الأسد في عام 1974، وبقي أحمد إسكندر أحمد وزيراً معتمداً، حتى مماته بتاريخ 29 كانون الأول 1983.

أحمد اسكندر أحمد بعد أن أصبح وزيرا للإعلام وعن يمينه أحمد أبو سعدة وفؤاد بلاط بالبدلة البيضاء

كنا نتناوب أثناء الحرب في المبيت بمبنى التلفزيون، ويستمر دوام المناوب لمنتصف اليوم التالي، كما حصل معي عندما كادت مناوبتي أن تنتهي في اليوم الثالث للحرب، وعند انتظاري المصعد الذي فتح بابه للتو، لأرى المصور القومجي م.ص جالساً على أرضية المصعد لاهثاً مرهقاً، وقد تناثرت علب الأفلام والكاميرا على الأرض، بينما كان المصور محي الدين سكحل واقفاً ينظر إليه باستغراب، من شدة تأثري بإرهاق السيد م.ص خاصة أنه عائد مع رفيقه من الجبهة، لم أبحث عن معنى نظرة سكحل له، ركضت وساعدته على الوقوف، وحملت عنه أغراضه، بينما سبقنا سكحل إلى دائرة الشؤون السينمائية.

طبعاً كنا جميعاً في الدائرة توّاقين لمشاهدة المواد الفيلمية التي من المفروض، أنهما صوّراها في الجبهة حديثاً؛ لأن ما كنا نشاهده على شاشة التلفزة في الأخبار تحديداً لا يتعدى بعض اللقطات القليلة، كانت مؤلفة ومنقحة بعناية، وآتية من قسم الإرشاد الإعلامي لوزارة الدفاع، جلّها غير صالحة للعرض، وبعض اللقطات كانت منسوخة من أفلام مصرية. مع الأسف كانت نكسة المصورَين محي الدين سكحل، والسيد م. ص شبيهه بنكسة حزيران، فحسب روايتهما الأولى أنهما باتا ليلتهم الأولى في ملجأ الجبهة، ولم يستطع أحد منهما رفع رأسه من شدة القصف المدفعي لقواتنا ضدّ طيارات العدو! ثار المصور أحمد أبو سعدة، وغضب عند سماعه لفشلهما، فقد كان أكثر المصورِين ثقافة وعصبية في الوقت نفسه…! فتناول كاميرته، وذهب لصديقه مدير التلفزيون خضر الشعار، ليساعده في الحصول على مهمة عسكرية فورية، يستطيع من خلالها الولوج داخل محراب المعركة، ويلتقط الصور المشتهاة التي عجز عن تصويرها سكحل، و م.ص.

حصل أبو سعدة على المَهمة، ووصل إلى الحاجز العسكري القريب جداً من الجبهة، وصرخ بأعلى صوته، حسب ما وصلتنا أخباره في ما بعد: وينهم، وينهم الكلاب؟ أسكته العسكر، وأدخلوه إلى قائد الجبهة أحمد المير شخصياً، ليطلب منه السماح بالولوج إلى خط الدفاع الأول، ومستعد إذا سمحت له الظروف أن يصل إلى الأراضي الفلسطينية، ليسجل بكاميرته احتفال الشعب الفلسطيني بالنصر…! سمعه قائد الجبهة، وقال له: ” أنا أُحيّي شجاعتك ووطنيتك”، وأمر سائق السيارة العسكرية بإعادته لدمشق فوراً. وقال له: “نحن لا نستطيع أن نرفع رؤوسنا حتى تأتي أنت لترفع كاميرتك…! لا يمكن أن أتحمّل مسؤولية موتك، ارجع فوراً قبل أن يداهمنا الليل”، وعند خروجه من المكان الذي كان ملجأ لقائد الجبهة أحمد المير، قال له أحد الحراس: لا تزعل، فقد أمر القائد أيضاً بإعادة أصدقائك المصورَين فور وصولهما. 

أنا أصدّق أحمد أبو سعدة، فهو بقدر ما هو عصبي المزاج، ويبغضه الكثيرون من الموظفين لذلك السبب، إلاً أنه كان صادقاً مع نفسه وأفعاله، فقد كان لا يخفي أنه شيوعي، وكان يستحق منصباً حساساً في الحزب؛ لأنه حسب زعمه هو الوحيد الذي كان مناضلاً على الأرض، وليس منظراً كالآخرين، لكن الحزب لم يهتم به إطلاقاً؛ كونه لم يحمل شهادات دراسية، مع العلم أن درجة ثقافته كان جيدة، وقد كان مولعاً بقراءة الكتب السياسية، ومولعاً أيضاً بتصوير أفلام وثائقية عن حركات التحرر في العالم، سافر لتحقيقها إلى عدة بلاد، مثل إرتيريا، وتنزانيا، وجنوب السودان، وعاد بمواد فلمية مهمة، وبرأيي أنه كان عضواً فاعلاً أكثر من أي شيوعي منَظّر، أفعاله بقيت موثّقة بالصوت والصورة، ناضل سنوات طويلة في الحزب، وخاطر بحياته مرات عدة، أثناء تصوير مَهمات حزبية، لتحقيق أفلام عن حركات التحرر التي تقودها الأحزاب الشيوعية العالمية. مرّ الزمن وأبو سعدة لم يتبوّأ أيّ منصب في الحزب، ولم يسمع به أحد.

أعود لقصة المصورَين اللذين عادا من الجبهة في اليوم الثالث للحرب، أي سكحل، وصايغ، فقد افتضح أمرهما بعد أن عاد أبو سعدة في اليوم الثالث، وشرح ما جرى معه بالتفصيل، فاعتذر سكحل، وقال: أنا اضطررت أن أخفي جانباً من الحقيقة، صحيح أننا عدنا في  اليوم نفسه الذي ذهبنا فيه، وكان الوقت ليلاً، فقمت باستضافة م.ص في بيتي؛ لأني كنت قد أرسلت زوجتي وأولادي إلى مدينتي حلب تحسباً لأي طارئ، وقد بقيت معه في منزلي يومين، وكنا مرتاحين جداً، ولذلك كنت مستغرباً من فعل زميلي، عندما قام بالجلوس على أرض المصعد، وكأنه عاد للتو من الجبهة…!

اليوم الرابع

 كان هناك استنفار للموظفين في الإذاعة والتلفزيون، وفي بقية الدوائر الإعلامية على أشده، وحماسنا وأحلامنا في استرجاع الأرض الفلسطينية كانت أكثر اتساعاً، لكن هذا لا يمنع من رواية بعض الطرائف عن بعضهم، مثل (حكمت الصبان) أحد مخرجي البرامج الذي وضع أوراق العنب على رأسه للتمويه، وجلس في غرفة المونتاج، ليعدّ برنامجه، وآخر من المذيعين (خالد أبو خالد) الذي يذيع نشرة الأخبار باللباس الكاكي، وعلى كتفه بندقية.

 حوالي الساعة العاشرة، استلمنا أنا والمصور م.ص مَهمة تصوير في مطار المزة الذي كان المطار الوحيد في العاصمة دمشق، وكانت بالطبع أجواء سوريا مغلقة، وصلنا المطار لنستعلم عن طبيعة المهمة.

 المطار كان فارغاً باستثناء عماله، وبضعة جنود بسلاحهم، دخلنا قاعة الشرف، وإذ بنادل البوفيه موجود وراء الكونتوار، وأبلغنا تبلغه من برج المراقبة، أن طائرة مساعدات روسية، ستصل وعلى متنها وزير الصحة، ووزير آخر بصحبة كميات من الأدوية، تلزم لجرحى الحرب. سألناه من سيستقبلهم؟ قال لا أعرف، وأعقب كلامه: ليش في حدا من المسؤولين بقي في دمشق الكل غادر…!

وصلت بعد نصف ساعة الطائرة، ولم يصل أحد لاستقبالها…! وبما أن المصور م.ص كان حزبياً، ويعتبر نفسه مسؤولاً، وكان يلبس كرافيته بشكل دائم، راودته نفسه أن يكون وزيراً لمرة واحدة…! أعطاني الكاميرا، وطلب مني تصويره، وهو يستقبل الوفد الروسي…! وهذا ما حصل بالفعل…! تكلم بضع كلمات فرنسية إلى جانب كم كلمة إنكليزية، واصطحبهم إلى قاعة الضيافة، وجلس معهم، وسامرهم بكلام غير مفهوم، فقال له الوزير الروسي تكلم بالعربي، فأنا أفهمها أكثر، وهنا وقع المصور في فخ عدم توضيح الإفصاح عن هويته، فيما إذا تكلم بالعربية، فنادى على النادل عامل البوفيه تهرباً، وطلب منه عدة فناجين وكاسات إضافية من القهوة والعصائر، والتفت للوزير شاكراً دولة الاتحاد السوفييتي، لمبادرتها العظيمة بمساعدة الشعب السوري.. حاول الوزير أن يفهم منه عن طبيعة عمله، وهل هو وزير أم مدير، وأين وفد الاستقبال؟ راوغ هو بلغته العربية، وحاول أن يقول إن سوريا اليوم جيشاً وشعباً تحارب العدو للدفاع عن أرضها واستقلالها، وصاغ بعض الجمل التي حفظها عن ظهر قلب من دوراته الحزبية، فتململ الوزيران، وقاما عائدين إلى بلدهما، بعد أن أفرغت طائرتهم ما في جعبتها من صناديق الأدوية، وقبل صعود وزير الصحة السوفييتي سُلّم الطائرة، نطق بجملة الوداع: اشكر لنا الرفاق السوريين، وقل لهم إننا لا نتوانى أن نقدم أيّ مساعدة، متمنين أن تربحوا هذه الحرب القاسية عليكم.. تركت م.ص يلوّح بيديه منتظراً إقلاع الطائرة، وعدت إلى داخل القاعة للملمة عدّة الكاميرا، وعلب الأفلام، فجاء عامل البوفيه، وسألني عن اسم المصور. بعد شهرين من الحرب وصلت إلى استعلامات التلفزيون فاتورة باسم المصور م.ص، لدفع مئة ليرة ثمن (مشاريب) في مطار المزة أثناء استقباله للوفد الروسي…!

أقلعت الطائرة، وعدت وانضممت إلى م.ص للمغادرة، رأيته ما يزال ينظر إلى السماء، عسى أن تصل طائرة أخرى، في هذه الأثناء لمحت ضابطاً رتبته ملازم أول على ما أذكر، كان واقفاً في زاوية المستودعات، ويعطي تعليماته للعمال الذين بدؤوا بحمل صناديق الأدوية إلى الداخل. الضابط كان رفعت الأسد المسؤول عن حماية مدينة دمشق.

اليوم الخامس

اليوم الخامس كان يوماً عسيراً؛ لأننا لم نعد نسمع بلاغات حماسية، وكنا ننتظر المصور محي الدين سكحل، الذي قرر أن يعود في اليوم الرابع إلى أرض المعركة، لكن هذه المرّة كان بصحبة محرر ومذيع، وقد أفلح في دخول الجبهة، وفق رواية سائق السيارة التابعة للتلفزيون الذي عاد في اليوم نفسه، بعد أن أوصلهم إلى مدينة القنيطرة، حيث صعدوا بسيارة عسكرية، واتجهوا إلى خط الدفاع الأول.

اليوم  كان تاريخه 9 حزيران، أي الخامس من أيام الحرب، فقد هدأت أصوات المدفعية السورية التي كنا نسمعها طيلة الأيام الأربعة الأولى، وبدأنا نسمع بعض الحكايات المختلطة بين الحقيقة والإشاعة، مثل إشاعة عدم التمكن من احتلال صفد، وأن الجسر الذي أنشئ على نهر الأردن، للعبور منه إلى صفد للقاء الفلسطينيين مع إخوتهم من الجيش السوري القادمين من الجبهة الجنوبية لسوريا، قد قُصف من قبل العدو ودُمّر، وبعد أن صدقنا تكذيب الخبر، اتضح بعد ساعات، أنه كان صحيحاً، وأن قادة عسكريين في الجبهة السورية قد فروا عائدين لمدنهم السورية، بعد سماعهم خبر خسارة الحرب في مصر.

الإذاعة السورية، بالإضافة إلى التلفزيون السوري، بقيت ثابتة باستمرار الإعلان عن إسقاط طائرات جديدة للعدو، حتى بدأ الناس تسخر من هذه البلاغات التي اتضح للجميع أنها كاذبة وغير صحيحة، ممّا أثار الشكوك في صحة الانتصارات، وعلى الجبهات العربية كافة. نتيجة ذلك بدأ فعلاً ما يسمّى بالطابور الخامس بنسج قصص عن المعارك، والأهم اختلاق أكاذيب التي أرهبت الدمشقيين، مثل: إن أحدهم شاهد القوات الإسرائيلية قد وصلت إلى منطقة القدم، والتي تبعد بضعة كيلومترات عن العاصمة، وتنتظر الليل للدخول لاحتلالها، فوضع قادة الحارات المتاريس وراء أبواب المنازل. ومن الأقاويل أيضاً التي لم يتم تكذيبها، أن قائد الجبهة أحمد المير، قد هرب من المعركة على ظهر حمار، خوفاً من القصف الإسرائيلي على أيّ مركبة تغادر الجبهة!

اليوم السادس

اليوم السادس للمعركة يوم الإعلان عن الهزيمة، والذي يصادف يوم 10 حزيران، كان يوماً مشؤوماً في عام 1967، لكن هذا التاريخ كان يوماً مفرحاً في عام 2000، فقد صادف موت رئيس الجمهورية السورية حافظ الأسد المسبب الأول لهزيمة ال 67 باحتلال الجولان، وتسليم القنيطرة للعدو.

ففي صباح اليوم السادس من الحرب في 10 حزيران 1967 حدثت الفاجعة، البلاء، أو بالأحرى حرب الدهاء والخيانة، أُذيع البلاغ رقم 66 على الساعة التاسعة والنصف صباحاً، البلاغ المشؤوم الذي لخّص كلّ عهر، وأكاذيب وخيانات القادة العسكريين والسياسيين.

نص البلاغ 66:

إن القوات الإسرائيلية استولت على القنيطرة بعد قتال عنيف دار منذ الصباح الباكر في منطقة القنيطرة، ضمن ظروف غير متكافئة، وكان العدو يغطي سماء المعركة بإمكانات لا تملكها غير دولة كبرى. وقد قذف العدو في المعركة بأعداد كبيرة من الدبابات، واستولى على مدينة القنيطرة على الرغم من صمود جنودنا البواسل. إن الجيش لا يزال يخوض معركة قاسية للدفاع عن كل شبر من أرض الوطن، كما أن وحدات لم تشترك في القتال بعد، قد أخذت مراكزها.

بدأت ردود الأفعال من الناس تتبلور، كل حسب مستوى تفكيره، بعضهم انهار بالبكاء، وآخرون انهالوا بالشتائم على النظام، فقد شعروا بخيبة الانكسار، واكتشفوا كذب الأنظمة العربية خاصة أن الحكومات ما فتئت تتبجح برمي إسرائيل في البحر، منذ خساراتها الأولى في حرب ال 48، فكان مكسب إسرائيل يومها كبيراً، وحافظت على احتلالها للمنطقة التي أقرتها الأمم المتحدة 1948، واستولت أيضاً على 60% من المساحة المخصصة للبلاد العربية حسب القرار الأممي، أي أنها ضمّت إلى أراضيها المحتلة الجليل، واللد، والرملة، واحتلت بهذه الحرب شبه جزيرة سيناء المصرية، ومرتفعات الجولان، ومدينة القنيطرة في سوريا، وكامل الضفة الغربية بما فيها مدينة القدس الشرقية.

__________________________________

من مقالات العدد الثالث عشر من (العربي القديم) الخاص بأدب المذكرات السياسية – تموز/ يوليو 2024

زر الذهاب إلى الأعلى