نصوص من الذاكرة: حبابة زهرة... حارسة الرّمان
صالح الحاج صالح
زوجة عم والدي، ضخمة اللِّشه(1) ثقيلة الحركة، تتعكز على عصا معوجة أثناء القيام والجلوس والمشي. كانت هي وعكازها مصدر رعبٍ لنا رغم أنها لم تستخدمها إلا للتهويش بها، رعبنا وخوفنا من حبابة زهرة موسمي، يبدأ عندما يزهر الرّمان، وتنضج حبات الحبتوث “التوت” وينتهي مع انتهاء موسم الرّمان الذي لم نترك ثماره حتى النضج إلا ما ندر.
سرقة الرمان
يبدأ غزونا للرّمان من قبل مجايلاتنا. يقطفن الزهرليلضمنه عقوداً تتدلى من الرقاب، يفركن بعضه على خدودهن ويصبغن به الشفاه. دورنا بسرقة الرّمان وغزو أشجاره يأتي لاحقاً، عندما تتكوَّر الثمار.. صراحةً لم نعرف سبباً لسرقتنا ثمار الرّمان واللِّعب بها، سوى تقديراً منا لمهارة تسلّق أشجارالتوت، والوصول إلى نهاية أغصانها الرفيعة حيث نتعلق بها متدلين على أشجارالرّمان وقطف ثمرة، والعودة بذات الطريق، مهارة وخفة السطو هذه كانت مجال مُراهنة وسباق، ومن استطاع، دون أن يسقط، يبدأ بسوق أكاذيب عن مهاراتٍ مماثلة بتسلق الدوردون سِلّم أو النزول في بئردون حبل، أوالتعربش بشاحنة مارة لمسافة طويلة!
لم يطل سطونا على الرّمان حتى افتضح أمرنا بوشايةٍ، ربما وشاية لم يعترف بها أياً منّا بقسم معظم، لكنها جلبت لنا حبابة زهرة مع عصاها وسجادتها وحصيرها لتستقر طيلة أشهر الصيف التالية تحت ظلِّ التوتة العملاقة، تحرس الرّمان، وتضبط سلوكنا المنفلت بعيداً عن أعين آبائنا وأمهاتنا، وخاصةً عندما اكتشفت أننا نتلصص على مجايلتنا باختلاس النظر إلى ماتحت اثوابهن الواسعة بدون سراويل عندما يتسلقن أشجارالتوت. اكتشاف حبابة زهرة هذا، نلنا منه جميعاً، الدّحِر والدّق بعكازها الذي عَلّمَ على جنابنا، ونلنا منها أيضاً، تفاً ملأ وجه كل من ضبطته يتباوع إلى الأعلى..
– له يا سويد الوجه يا قليل الحيا، تفو عليك وعلى اللي ربوك
خسارتنا المضاعفة بوجود حبابة زهرة طوّر في دواخلنا استعداداً للإنتقام منها بسرقة الرّمان وتخريب ثماره قبل نضوجها، بغزوات متكررة بعد غروب الشمس أثناء رعينا الأغنام، غزونا لأشجارالرمّان هو تحد فيما بيننا لإثبات رجولة مبكرة، مثل سرقة الدبشي، والمراهنة على الاقتراب من أباعر الباعة الجوالين لخطف عنقود عنب.
(اليوم أتذكرهذا العبث وما كنا نقوم به كعصابة أشقياء وأغرق بالخجل – لكنها الذاكرة..)
كنّا نملأ أطراف أثوابنا بثمارالرّمان الفجّة، نعضّ بعضه، نلوكه قليلاً ونبصقه فوراً، نطعمه للماعز وللدواب، نتحارب بثماره الفجة التي تترك أثراً لا يمحى على الثياب، وننال عليه عقاباً من أمهاتنا.
الاستخدام الثاني لعكّازة حبّابة زهرة التلويح بها من بعيد عندما يقترب أحدنا من العم خليل الذي عاش لسنواتٍ فاقد الأهلية، كانت تبقيه تحت مجال رؤيتها، تحرسه وترعاه، وبمجرد اقتراب أحدنا منه حتى إذا كان من غير قصد ولا نيّة في أذيَّته، تمط رقبتها وتتحفز للتدخل فوراً، هي تعرف سلوكنا العدواني تجاه العم خليل، ومتأكدة على الأقل، أننا سنسمعه كلمة ” مهبول ” واحتياطاً منها تغادرسجادة صلاتها رافعة ًعُكازها عالياً، وبصوت غليظ ٍمبحوح.
– هيين هيين.. ياعجي وَخِّر(2)
يبتعد من اقترب ورُفِعت العكازة بوجهه عن العم خليل، متعثراً في كل خطوةٍ يخطوها وعيناه تقعان على قدميه، مختلساً النظر إلى عكازة حبابة زهرة منتظراًهبوطها وإعلان نهاية التهديد.
الجد الغاضب دائماً
إدراك خوفنا من الحبابة زهرة لم نتبينه مثل إدراكنا للخوف من الجّد عبدالله الغاضب دائماً، جدّي / جدنا يفورغضباً بمجرد وصول صوت لعبنا إليه في صومعته الخاصة بين كتبه.. أحياناً يندفع راكلاً كل مايقع أمامه لأنه أضاع نظارة القراءة ولم يعد يذكر أين وضعها.
كنا ندرك سبب غضب جدنا عندما يخرج ملفوفاً بعباءته فقط، ويلعننا بلغة عربية فصيحة قلما كنّا نفهمها آنذاك، لأن إبريق الوضوء،خاصته، فارغٌ من الماء ولكي نرضيه نتسابق لملئ إبريقه ليهدأ قبل أن يمسك أحداً منا، أما الطامة الكبرى إذا تناهى إليه صوتاً أيقظه من قيلولته؛ يخرج بهدوء ويقتنص أول من تطاله يده، وبحصاتين صغيرتين يحصر بهما شحمة الأذن ويعقصها، يفركها ويضغطها، يضغط ويفرك، حتى يصعق الألم المركّز في نقطة شحمة إذن سيئ الحظ ويشله، والويل له إذا انفجر بالبكاء.. فهو – أي جدنا – لا يكتفي بالعقاب بل يطالب المعاقب أن يكون رجلاً، يقول:
– الزلم لا تبكي..
خاتماً عقابه ببصاق يملأ وجه الباكي!
سر خوفنا من حبابة زهرة لا ندريه، رغم معرفتنا أنّ قدرتها على المشي صعبة جداً؛ فهي لا تستطيع اللّحاق بأحد حتى إذا كان طفلاً يحبو، لتشوّهٍ في قدميها حيث ينحرف إبهاميْ قدميها بشكل حاد نحو أصابع القدم مع نتوء كبير لمفصل الإبهام مع مشط القدم، مما يجعل مشيها متمايلاً نحو اليمين واليسار، كمشي البطة، ومن هنا استمدت لقبها السري بيننا، هي دون غيرها من كل نساء القرية، من العمّات والخالات والحبابات اخترعنا لها لقباً، نتهامس به “إجَت البطة، راحت البطة، شافتنا البطة، سمعتنا البطة، اهربوا من البطة..!”
خوفنا من حبابة زهرة، مهابةً، أكثر مما هو خوفاً من عقابٍ توقعه علينا. مهابتنا منها لمعرفتها الكثير من أكاذيبنا وحيلنا الصغيرة المخجلة التي تسمعها أثناء غفواتها القصيرة تحت شجرة التوت، ولاطلاعها على سلوكنا السيء، من سرقة الرمان والتلصص على البنات إلى سباق التبول. كنّا مكشوفين أمامها؛ فهي تعرف ما نقوله لبعض من شتائم.. ألقابنا السرية ومعايراتنا التي نخترعها للتو تحفظها أكثر مما نحفظها، تذكِّر بها إذا نسينا أيٍ منها وهي تكتم ضحكة تخفيها بطرف ردن ثوبها!
لم تشتكِ أحداً منّا لأهله، ولم تفضح سراً. لكنها كانت تستخدم ما تسمعه وتعرفه بمهارة، بطريقة، الغطو/ الوَما، تقول لأحدنا أمام أهله:
-أشوف يا وليدي ثوبك امْلَغْمَط (3) ؟ تقصد أثر قشور الرمان المسروق على الثوب!
–هذا من الخرنوب (4) حبّاب. مع نظرة استجداء وتملق، وفي سرنا نلعنها لسابع جَد
أو تكون قد سمعت أثناء في غفوتها أننا أثرنا مناطحة بين كباش الغنم، أو حرضنا الكلاب على بعضها؛ فتسأل:
– الكلاب اليوم تتعاضضت؟ لا يكون انكلبت؟
تلميحات حبابة زهرة، لأحدنا أمام أهله تجعله يتمنى أن تبلعه الأرض ويختفي.. وأحياناً نتمنى أن تفضح ما تعرفه، كي نتعاقب وينتهي الأمر.. لكنها لاتفعل ولم تفعل ولم تشكو أحداً لأهله.
صناعة الدّن
خشيتنا من حبابه زهرة بفضح أسرارنا، جعلنا نتملقهما ونحاول إرضائها بشتى الطُّرق وخاصةً عندما تقوم بصناعة دن. هي صانعة دِنانٍ ماهرة، كل دِنان الماء في القرية صنعتها حبابة زهرة. ساعدناها في لقط كسر الفخّار، ونقلناه من المنجم الذي عُثرعليه صدفة في خربة وسط الأرض الزراعية على بعد خمسمائة متر من القرية عندما كشفت سكة الفلاحة عن ذاك المنجم – قال عن تلك الخربة آثاري زار القرية في عقود لاحقة:
-هذه الخربة كانت فرن الفخّار للقرية القديمة التي إنبنت فوقها قريتكم.
كنا نراقبها بشئ من الإنبهار وهي تدق وتطحن الفخارالقديم، تطردنا، ننساها يوم أو يومين لكن فضولنا يدفعنا كي لايفوت علينا مشهد بناء الدن وحرقه.
دن الأوضة، أيقونة الدنان التي صنعتها حبابة زهرة، هو أكبر وأجمل الدنان. دن بارتفاع متر ونصف، يبدأ بقاعدة ضيقة ومسطحة من الأسفل يعلوها عنق يتسع تدريجياً، مما يُسّهِل دخول النصف الأسفل للدن بكرسي خشبي مخصص له، كي يحميه ويبقيه واقفاً، يصل أقصى اتساعٍ للدن في الوسط، حيث زَيِّنتهُ بزخارفٍ وخطوطٍ متعرجة متقاربة ومتباعدة بتوازٍ وتناظرٍ بديع، الخطوط تحيط بالدن وتحصر بينها أشكالاً لعيون، فارغة أو مطموسة، وكل عينٍ يقع على جانبيها خطين مائلين متوازيين، تلك الزخرفة تبدو كتميمةٍ ضد الحسد، وحِرزُ حماية، وعينُ عناية! بعد الوسط يعود الدنّ بالضيق تدريجياً حتى فوهته العليا، لكن التضيُّق في الأعلى يبقى أوسع من الأسفل بمرتين على الأقل، متر تقريباً عند الفوهة، ويوجد على جانبي الفوهة العليا أذنيين مسطحين ليشكلا قاعدة تستقر فوقهما طاسة الأوضة المصنوعة من النحاس المطلي بالقصديرلها شكل قبعة الفطر، وهي الأخرى مزينة بزخارفٍ وأدعيةٍ من الداخل والخارج ومختومة من الأسفل تاريخ الصنع بالسنة الهجرية.
هذه الأيقونة خصتها حبابة زهرة بغرفة خاصة، بنيت في الفضاء الخارجي للأُوضه على بعد عشرين متر من مدخلها. غرفة الدّن ضيقة على شكل الشونة (5) تكثر فيها الطوق على مستويات متعددة لتمرير الهواء، طوق دائرية الشكل وبعضها مثلثة.. يُملأ الدّن عصركل يوم بما يشبه طقس جماعي، تشارك فيه أي إمرأة من نساء القرية، بخطرة ماء، صدف وجودها عند البئر، بتوقيت ملئ الدّن قبل أن تأخذ حاجة بيتها من الماء.
في الذاكرة صورة لاتزال حيّة لحبّابة زهرة، صورة كأنها التقطت بكاميرا وعلقت على حائط.. أرها الآن جالسة على طرف سدوٍ، سدو يمتد طويلاً، طويلاً.. غبانية (6) رأسها مردودة الأطراف وأردان ثوبها مكفوفة حتى الزند، وقرن غزال بيدها تَهم به لدك خيوط الصوف ورصها.
سليقة الست
أمّا المأثرةً التي نحب فيها حبابة زهرة، ونعشق ما تقوم به وننطره من سنة لأخرى، موعد سلق “سليقة السِّتْ” في كل سنة وفي يوم السادس من شوّال، تطبخ سليقة لكل القرية، سليقة مكونة من حبوب القمح المدقوق/ المقشور، والحمّص والعدس واللوبيا /العوّين والذرة بنوعيها، وقطعٍ من الهِكِطْ والكشكش (7) بالإضافة للزبيب. تبدأ بوقد النار في فضاء البيت الكبير، وتضع فوق موقدها قدراً كبيراً ” حِلّة ” تملأ الحلة حتى منتصفها بالماء، وهو الأمر الوحيد الذي لا تقوم هي به، ثم تبدأ بوِزِّ الحطب تحت الحلّة، وعندما يقترب الماء من الفوران تضيف نوعاً من حبوبها، لا أحد يعرف أي الحبوب تلقى في القدر أولاً، ومتى تتم إضافة الثاني فالثالث فالرابع.. وبعد كل إضافة تزيد من أوار النار أو تخففها، مع تحريك دائم بمغرفة خشب طويلة.
أثناء طبخها للسليقة نحوص بالقرب من الموقد منتظرين، وبيدِ كلٍ منّا صحن أو طاسة. لا نجرؤعلى الاقتراب أوالنظر داخل القدر، ونقضي وقتنا متراهنين على أي من الحبوب قد رمته في قدرها هذه المرة، وكم من الوقت بقي لننال حصصنا؟
باستواء السليقة يأتي دورنا بنقل الحصص بهمةٍ لم نعهدها على أنفسنا في أي أمر آخر نكلف به، نتسابق بإيصال الحصص إلى بيوت القرية، ونعود لاهثين لينال كل منا ملأ مغرفةٍ من الحبوب مع عصيدة سميكة ولا أطيب.
مع موت حبابة زهرة – رحمها الله – فقدت القرية من يصنع لها دِّنان الماء، أمّا فقدنا الكبير لها ولسليقة السِّت التي كنّا ننتظرها من سنة لسنة، ولم نذقها ولا مرة منذ وفاتها.
الهوامش
- اللّشة: الجسم
- العجي: قاموسياً يتيم الأم. في الديرة تطلق الكلمة على كل صغير لنهره عن فعل ما.
- وخِّر: ابتعد عنا.
- الخرنوب: نبات شوكي قصيرله ثمار معوجة على شكل ” الكاجو” زهرية اللون، يتم حك الثمار على حجر حتى تزال قشرته قابضة المذاق ، يؤكل نياً أو مطبوخ بالماء مع الملح، وهو غير الخروب المعروف في مناطق أخرى من بلاد الشام.
- الشونة: هنا بيت للدن مبنية من اللبن، وهي أيضاً مخزن للطحين والبرغل وتسمى بالكوارة.هي بالعموم تشبة المحارس التي انتشرت منذ عقود عند بيوت المسؤولين.
- الغبانية: غطاء للرأس، غالباً يكون برتقالي اللون أو أصفر.
- الهكط والكشك: لبن مصفى يضاف له الملح ويجفف بتعريضه للشمس عدة أيام حتى يصبح صلب كالحجارة، يستخدم بالشتاء باعادته إلى قوام اللَّبن، الكشك يضاف إلى اللبن المصفى وقبل تعريضه للشمس قمح مجروش.