الحرب والحرائق في غابات اللاذقية: جرائم الدمار البيئي
نوار الماغوط- العربي القديم
شعر السوريون بالحزن على واحدة من أكثر الأحداث مأساوية في تاريخ البلاد المعاصر… فالثورة التي بدأت سلمية في عام 2011، انتهت بحرب شاملة ضد الحجر والبشر والشجر.
كانت لهذه “الحرب القذرة” التي شنها النظام على شعبه المطالب بالحرية والكرامة آثار مدمرة على البلاد وسكانها، فقد قُتل ما يقرب من 600 ألف شخص، وأُجبر 12 مليون شخص (أكثر من نصف سكان، ما قبل الحرب) على ترك منازلهم. بالإضافة إلى ذلك، شهدت سوريا انخفاضاً تراكمياً في الناتج المحلي الإجمالي يقدر بـ324.5 مليار دولار؛ حيث أصبح الناتج السنوي للاقتصاد أقل بنسبة 54 في المائة، عما كان عليه في عام 2010. وتفاقمت أنماط انعدام الأمن البشري خلال الحرب، مما أدى إلى تفاقم التفاوتات المعيشية، وتهديد سبل عيش السكان غير المستقرين، وقطع الملايين عن مجتمعاتهم والخدمات الاجتماعية، وقد تفاقمت هذه الآثار؛ بسبب الفساد المتزايد، ونهب شبكات الربح الجديدة التي رافقت اقتصاد الحرب، مما أدى إلى ترسيخ الهيمنة السياسية والاقتصادية، من قبل الأجهزة العسكرية والأمنية، إلى جانب رجال الأعمال المحسوبين على رجالات الحكم.
التدهور البيئي في سوريا
بينما أودت الحرب السورية بحياة 600 ألف شخص، وشردت 12 مليوناً، وسحقت اقتصاد البلاد، غالباً ما يتم تجاهل مقياس واحد، عند تقييم الخسائر البشرية الناجمة عن الصراع في سوريا: تدهور الموارد الطبيعية، وعلى نطاق أوسع تكلفة التدهور البيئي. لا يتوقف هذا التدهور عند تدهور العالم الطبيعي فقط، بل يشمل أيضاً التلوث والبنية التحتية المدمرة للصرف الصحي التي خلفتها سنوات من القصف الجوي الذي احتكره نظام الأسد وحلفاؤه.
التأثيرات البيئية في اللاذقية
لا شك أن الحرب السورية التي قتلت البشر، وتسببت في نزوح الملايين، امتدت آثارها إلى البيئة والمناخ. في سوريا، وخصوصاً في اللاذقية، كانت بعض المشاكل البيئية موجودة قبل الحرب، مثل ردم الشواطئ، وانحسار المسطحات الخضراء، واجتثاث الغابات، وتلوث الهواء والتربة، ونضوب المياه الجوفية، وتلوث المياه السطحية، وسوء إدارة النفايات، وتراجع التنوع الحيوي، وتراجع الإنتاج الزراعي، لكن هذه المشاكل تفاقمت وتزايدت خلال الحرب.
تسببت الحرب في تلوث كبير؛ نتيجة لاستهداف البنية التحتية الحيوية وتدميرها، بما في ذلك منشآت النفط والصرف الصحي. أدى ذلك إلى تسرب النفط والمواد الكيميائية إلى المياه والتربة، مما شكل خطراً كبيراً على الصحة العامة والبيئة البحرية. حولت الحرب السورية شرق المتوسط إلى “نقطة اشتعال للتلوث”.
التسربات النفطية والتلوث البحري على الساحل السوري
أحد أكبر مصادر التلوث كان التسربات النفطية من محطات الطاقة والمصافي. في عام 2021، حدث تسرب نفطي كبير من محطة بانياس الحرارية على الساحل السوري، مما أدى إلى تلوث واسع النطاق للبحر الأبيض المتوسط، وتأثير سلبي على النظم البيئية البحرية، والمجتمعات الساحلية في اللاذقية. قامت الدراسة التي أجرتها منظمة PAX الهولندية لبناء السلام، بتحليل صور الأقمار الصناعية؛ لتقييم الأضرار التي لحقت بالمياه، قبالة ميناء بانياس، حيث أدى تسرب نفط إلى تسرب آلاف الأطنان من النفط إلى البحر الأبيض المتوسط. هذه التسربات النفطية، بالإضافة إلى النفايات الصناعية والطبية غير المعالجة، زادت من مستويات التلوث البحري والجوي، مما عرّض السكان المحليين لمخاطر صحية خطيرة.
انتشار المصافي البدائية
كما أدت الحرب إلى انتشار المصافي البدائية في المناطق غير الخاضعة لسيطرة الحكومة، حيث استُخدمت طرق تكرير غير آمنة وغير صحية، مما أسفر عن انبعاثات سامة، وتلوث الأراضي، والمياه الجوفية، بالإضافة إلى ذلك، تسببت التفجيرات والمعارك في توليد كميات هائلة من الركام والنفايات التي تحتوي على مواد كيميائية ومعادن ثقيلة، مما يسهم في تلوث البيئة، وتفاقم الأوضاع الصحية للسكان.
حرائق الغابات في اللاذقية
من أبرز الكوارث البيئية التي شهدتها اللاذقية هي الحرائق في غاباتها. في يوم 3 نوفمبر 2016، اندلعَ خمسة عشر حريقاً في جبال ريف اللاذقية في وقت واحد، كان أكبرها في محيط قرية إبراهيم، في منطقة جبال القرداحة بالقرب من اللاذقية، وقد أتى الحريق، ولأكثر من أسبوع، على مئات هكتارات الأشجار من المساحة الإجمالية البالغة 35 ألف هكتار، من الأراضي الزراعية المشجرة بالزيتون، والسنديان، والخرنوب، والصنوبريات.
ويعتبر هذا الحريق أسوأ ما حدث منذ عقود، وهذه الحرائق جميعها سُجلت ضد فاعل مجهول، على الرغم من أن جهاز إطفاء اللاذقية كان يمكنه السيطرة على الحرائق، وفقاً لحديث عمال الإطفاء الذين شاركوا في إطفائها، إلا أن اندلاعها في وقت واحد مساءً، جعل من المستحيل السيطرة عليها ووقف امتدادها. السبب الذي لم يستطع السكان المحليون قوله، هو أن هذه الحرائق قامت بفعل فاعل؛ بغرض استثمار الغابات المتفحمة، عبر تجارة تسيطر عليها عصابات، تريد تحويل المناطق المحروقة إلى مناطق استثمار عقاري في المستقبل، حيث يسهل عليهم كثيراً امتلاكها، عبر المزايدات الرسمية التي تطرحها مديريات الزراعة بشكل رسمي، عبر شركات تتخفى وراء أسماء غير معروفة.
وفق تقرير لمديرية زراعة اللاذقية، التهمت الحرائق عبر سنوات الحرب بين 2010-2018 أكثر من ربع مساحة الغابات في البلاد، فوصل عددها إلى 2000 حريق مسجل رسمياً، بمساحة إجمالية بلغت 103 ألف هكتار محروق، كان نصيب الساحل منها فوق 800 حريق، بعض منها ناتج عن العمليات العسكرية، كما حدث في مناطق البسيط التي خسرت 13 ألف هكتار عام 2013.
كما انتشرت أيضاً في السنوات الأخيرة في الساحل السوري ظاهرة المفاحم “تمويت” للأشجار، كوسيلة لكسب الرزق والعيش، وهي تجارة تدر الملايين لمن يتحكمون بها، مستخدمين سطوتهم ونفوذهم، لاستعباد البشر وحرق الشجر، وحسب ناشطين أنه توجد أعداد غفيرة من الفقراء والمعدمين، يقدّر عددهم بالآلاف، يقلبون البراري والأحراش في الساحل السوري، يقطعون الأشجار وأغصانها، لبيعها إلى مفاحم تحوّل الحطب إلى فحم، سواء كانت مرخّصة أو غير مرخصة، ومعظمها يعود لمتنفذين، أو ضباط، أو قادة ميليشيات.
أزمة مكبات النفايات
كما تعد مشكلة مكبات النفايات من أخطر المشاكل البيئية في اللاذقية، ويقع مكب النفايات في البصة، على بعد 10 كيلومترات من اللاذقية، ويمتد على مساحة 100 هكتار، وتعتبر هذه المشكلة مستمرة منذ عقود، حيث فشلت السلطات في تقديم حلول حقيقية لها. تنتشر النفايات في الموقع على ارتفاع يصل إلى 3 أمتار عن مستوى الأرض، ويقدر إجمالي كمية النفايات غير المطمورة بحوالي مليون طن. يقوم بعض النازحين من مناطق خارج اللاذقية بنبش القمامة بحثاً عن مواد يمكن إعادة تدويرها، والاستفادة منها، أو بيعها إلى أحد التجار، وهذه الظاهرة منتشرة في كل أنحاء سوريا، في ظل الفقر المدقع لملايين السوريين.
كما يقوم بعض الأشخاص بافتعال الحرائق في المكب، والتي تطال النفايات غير المطمورة، وتقدر بآلاف الأطنان، مما ينتج عنه انبعاث الغازات السامة، مثل غاز الميثان، وأول أكسيد الكربون. يقول سكان القرية: إن بعض المقيمين في جوار المكب الذين لديهم أعداد من الأغنام، ترعى في المكان ملتهمةً البقايا العضوية، وما يجري بعد انتهاء عملية النبش، هو حرق النفايات العضوية القديمة، بهدف توسيع المساحات الممكنة لإفراغ مزيد من النفايات، ولكن السكان يؤكدون أن الإجراءات الحكومية غير كافية؛ بسبب فساد مجلس المدينة، وقيادة الشرطة، ومن معهم من العاملين في الدولة، وقبولهم للرشوة.
تُظهر الحرب السورية بأبعادها المختلفة، كيف يمكن أن تؤدي النزاعات إلى تدهور بيئي خطير، يؤثر على حياة الناس وصحتهم على المدى البعيد. تتطلب معالجة هذه المشاكل البيئية جهوداً متكاملة، تشمل إعادة تأهيل البنية التحتية، وتنظيف المناطق المتضررة، ومكافحة الفساد، وضمان إدارة سليمة للنفايات، للحفاظ على بيئة صحية، ومستدامة للأجيال القادمة.
___________________________________
من مقالات العدد الثاني عشر من (العربي القديم) الخاص باللاذقية – حزيران/ يونيو 2024
لقراءة العدد كاملاً اضغط هنا.