حبيب الزحلاوي يهاجم كوليت الخوري ومحيي الدين اللاذقاني: أيام مع أم الشامة
قبل أكثر من ستين عاماً، كتب الناقد اللبناني حبيب الزحلاوي هذا المقال الهجائي العنيف عن روايتي الأديبة السورية كوليت الخوري (أيام معة) و(ليلة واحدة)… وقد اختارت (العربي القديم) إعادة نشره في مختاراتها من ذاكرة الصحافة العربية كنموذج للنقد الأدبي الشنيع الذي لم تسلم منه الأعمال الأدبية في عصر ازدهار الصحافة الثقافية العربية. فماذا كتب د. محيي الدين اللاذقاني عن المقال وعن كوليت الخوري في زاويته (لعبة الأيام)؟ هنا النص الكامل.
(أيام معه) و(ليلة واحدة): الحكاية لن تنتهي بانصراف أبطالها
بقلم: حبيب زحلاوي
ليست مؤلفة هذين الكتابين بأول فتاة مسيحية شامية حرّفت اسمها أو أضافت عليه تحلية أعجمية، أو ترجمته إلى الفرنسية. فلا غرابة أن صار اسم خولة، هذا الاسم العربي الحبيب “كوليت” فكم من أسماء عربية أضيف إليها تحليات، كاسم مريم الذي صار “ماري”، ثم تحلى بالإضافة فصار “ماري لويز” ثم بالورد فصار “ماري روز” ثم ترجم اسم وردة إلى “روزيت”، ونور إلى “كلير” وهكذا… وإذا كان الاسم يدل على المسمى فكان الأليق بالمؤلفة وهي عربية دمشقية أموية، الإبقاء على الاسم الأصيل تيمناً بسيدة من أشهر سيدات العرب عرفت بالحصافة ورجاحة العقل والنخوة والمروءة، أما اسم كوليت فترجمته العربية بُنيقة، أي ياقة وتصغيرها كوليت أي بُنيقة، وما هذا الاسم المصغّر الذي لا معنى له ولا جرس بلائق بفتاة عرفت نفسها منذ تفتح برعومها، وعرفها الناس شاعرة تنظم القوافي باللغة الفرنسية، كما تجيد التعبير بلغة أبيها رجل الحقوق والقوانين، وجدها العظيم معلم الأدب والاجتماع وأستاذ الزعماء ومربي الجيل السوري.
أيام معه
سمعت باسم كوليت سهيل الخوري وكأني سمعت باسم “المعيدي” قبل أن أراه. وراح الرواة ينقلون عن الرواة آفات ما سمعوا من موضوع كتاب (أيام معه) لم يقرأه لا هؤلاء الرواة ولا أولئك النقلة، وأخذوا يتباعدون تباعد المتوضئ من اقتراب الدنس قبل الصلاة، ينفون عن نفوسهم قراءة المحرمات والولوغ في الأثر.
لا رغبة في الاطلاع على اعترافات الفتيات المراهقات، ولا تشوقاً إلى سماع ترانيم الشهوة واجترار اللذة التي ينعم بها المحروم منها بسماع الحديث عنها، ولا استحساناً للرغبة المرغوبة فيها، بل حبا في الاطلاع على مدى وعي المرأة العربية في النصف الثاني من القرن العشرين، ومبلغ ما وصلت إليه قدرتها على اقتحام ميدان الحياة ومنافسة الرجل، ومعرفة ما هو نوع سلاحها في عصرنا العجول الوثاب، وكيفية نظرتها إلى المجتمع المتحول الصاعد.
على هذا الأساس من العزم تأبطت (أيام معه) لا رفيق لي إلا نارجيلة تخدر أعصابي أنسامها، كلما ضجّ بي الفرح مما أقرأ، وأنعم بالسرور من البيان الواضح والوصف البارع، والصور الأخاذة، والأسلوب السلس، والتشويق الجذاب والصدق في الرواية. هل كانت حالتي النفسية الهانئة هي التي تدفعني إلى التهام فصول الكتاب؟ أم الفردوس الذي أنا فيه وأمامي بحيرته الواسعة ذات النوافير الخمس تقذف الأمواه إلى فوق فترتد متكسرة كأنها تذوب من البلور النقي، تنقر أوتار الموسيقى عذبة التوقيع ساحرة الأنغام؟ أم تمايل قامات “الحور” مع هبوب الريح وهمسات أوراقها الناعمة في هذا الوادي الأخضر، وادي دمشق الفيحاء… أم ختام كل فصل من فصول الكتاب، وكأنها ختام قصيدة عصماء من نظم شاعر موهوب؟! قد يكون كل هذا، وقد لا أبتعد عن الحقيقة إذا قلت إني ذهلت عن كل ما حولي من بدائع الطبيعة، من مياه وأشجار وأنا أتابع القراءة بنهم ولذة وشوق.
أتممت قراءة كتاب (أيام معه) الذي لا هو قصة ولا رواية، بل هو كتاب “اعتراف” ذاتي كتبته خولة سهيل الخوري، وصفت به أولى رحلاتها الخاصة. الرحلة الطويلة القصيرة، الشاقة المريحة، السعيدة الشقية، الهوجاء المتأنية، الباكية الضاحكة، التي دفعتها إليها شبوب الغريزة مبكراً قبيل النضوج. أقول دفعت إليها، لأن الاندفاع الجنوني المبكر نتيجة حتمية لتيارات عاصفة قل من الناس من لم تجرفه لتُلقيه في هاوية ليس في الوجود الواقعي ما هو ألطف منها، ولا في الحس الذاتي ما هو ألذ منها، ولا في الشعور ما هو قريب منها، ناهيك بالشعور المرهف والحس الدقيق.
ولما كانت السيدة كوليت مفطورة على إبداع الشعر، والشعر في سموه السامي وعلوه العالي لا يتضع ولا يتواضع إلى الإسهاب في وصف لمسات الشعور، ولا التبسيط في شرح صور الحس إلا بـ “كلمة” ملهمة، ولما كانت أعاصير شعورها المبكر قوية، ولفورة غريزتها درجة غليان، كان سيل اندفاعها عرماً جارفاً، استطاعت بقدرة فنية بارعة تحويل هذه الظاهرة الطارئة المجنونة إلى اندفاع شاعري مطرب، وترانيم وأنغام مشجية مفرحة، تمثلت فيها خلجات نفسها وهمسات شعورها ونأمات حسها بكلمات لا تصدر إلا عن روح شاعري أصيل.
ولما كان تيار السيل الجارف المجنون، تيار المراهقة، لا يبالي أعلى السهل يسير أم على الوعر، أغدير يتجمع أم يفيض، أم شلال يتدفق وينحدر… هكذا راحت الكاتبة تتخبط، لا تخبط الأرعن الملتاف، بل تراقص النشوان الطروب… الطروب بكل ما تراه العين بعين الحبيب… الحبيب الذي يفرح النفس ويسر الروح ويسعد الجسد، ويروي الغاية الثانية عن معنى الوجود بعد إشباع المعدة. هكذا راحت تطلق نوازعها، تستصرخ كوامن غرائزها، تواقة إلى إثبات وجودها كامرأة ناضجة تحن إلى حنان الأمومة.
أشخاص كتاب (أيام معه) ثلاثة. أقول أشخاص لا أبطال، الأول منهم أصم والثاني أبكم، أما البطل الوحيد فهو الشيطانة الرجيمة صاحبة هذا الاعتراف الأحمر عديمة الحياء، التي قولت فيها ما لا يقال، ومثلت تمثيلاً واقعياً لا يمثل على مشهد من الناس، وأنطقت الشيء الذي لا ينطق، والذي يعمل دون أن يتصور الذهن كيف يعمل. إن طفرة هذه الشيطانة الصغيرة وجرأتها على تسمية الأشياء بأسمائها دون ما حياء أو تحرّج هي التي تدعوني إلى نعتها بالرجيمة، في حين أنه قال لي من يعرفها أنها طيبة القلب، سليمة الطوية، بسيطة غير ساذجة، ولعل هذه الصفات هي التي تؤكد لي أنها شيطان ملعون.
أما الشخص الأبكم فهو الحبيب المحظوظ. كهل في الأربعين من عمره، فنان موسيقي يصور شعور الإنسان بالأنغام، ويدغدغ الأحاسيس بالأوتار، بهي الطلعة كما تراه الحبيبة. زير نساء فحل كما يصوره قلمها. لا يحفل بالحب ولا بالوفاء ولكنه صناع ماهر، يعطي فيروي لا جودا ولا كرماً.
ليس بدعا ميل الشاعر إلى الفنان، ولا انعطاف الفنان على الشاعر بصرف النظر عن فارق العمر بين الحبيبن، ولا بالمستغرب اتصال فتاة مغامرة، متحررة الفكر، تنقصها خبرة الحياة، ملتهبة الشهوة، مندفعة مع تيار المراهقة الجارف… أقول ان اتصالها بهذا الكهل المتزن أمر طبيعي يوازن طيشها المبكر، ناهيك بأنه حظي أي “جيجولو” لا يعني بقطف المرة الناضجة، ولا بلمسها بأطراف أنامله ليأكلها، لأنها تقدم له دائما على طبق من الفضة. تلتقطها أطراف اصابع تلك المسكينة المتيمة المدلّهة لتمصها هي وقد تعطرت بالابتلال بريق هذا الحبيب الفاتن… هل من عجب إذ تندفع تلك الفتاة المغرورة ثائرة الروح التي لا تعرف السلام، تسعى إلى حيازة ذلك الحظيْ، ووقفه عليها وحدها دون سائر النساء فتكون المفضلة عليهن جميعاً… وبذاك ترضي كبرياء أنوثتها، وتطرب في نفسها مركب التفوق لا مركب النقص.
أما الشخص الأخرس، فلا أدري كيف اقتحمته الظروف في هذه الدوامة التي أقلت الأسرة، أسرة الفتاة المراهقة، وأثارت اشمئزاز أهلها منها لخروجها على اللياقة وتمردها على العرف. ولكن عرفنا أن هذا الشاب من أبناء الغرب، يحب الفتاة ويريد الاقتران بها متى أتم دروسه في جامعة من جامعات إسبانيا ونال إجازتها… ونعرف أن الفتاة غير معنية به ولا تريد الزواج منه، وهي في ذات الوقت تريد الاحتفاظ به كستار وتغشية أمام الناس لأنها في حقيقتها راغبة من صميم جوارحها في الفنان بين ذراعي حظيّها المحظوظ وحبيبها المفضل. وإن هذا الأبكم المسكين “شرابة خرج” يقال تعمية أنه خطيبها وسوف يكون قرينها. هي ذي صورة مصغرة لأشخاص القصة التي لا تتحرك فيها سوى البطلة وحدها، أما الآخران فمفتاح حركتهما بيد “كوليت خانم” كما ينادونها بدمشق، تحركه متى شاءت فيتحركان آليا.
لكل بداية نهاية، ونهاية الحب الطائش كأمر الفطر… والآن وقد عرفنا بداية اعتراف “ريم” كوليت بطلة القصة مع عشيقها “زياد” فصار علينا أن نعرف نهايتها. قلنا إن العاشقة الطائشة في التاسعة عشرة من عمرها وشاعرة موهوبة، والعاشق في الأربعين وفنان موسيقي بارع، وأن الشاعرية والفن لا يقيمان وزناً للتقديرات الزمنية القائمة على قاعدة حساب الأيام والأسابيع والشهور والسنين… وأن الكهولة المتزنة تكمل الطياشة المبكرة وتضعها في موضعها الصحيح. ولا ننسى أن نقول إن الإرهاق الجثماني يوهن همة الشباب ويحملها على الفتور، فكيف لا يحط قوة الكهل ويحملها على التقصير والعجز، ونرى أن الكهل المغوار، زير النساء صار فيلسوفاً يدعو عشيقته إلى فهم معنى الحب، وأن تعريفها له أن “عاطفة طارئة” تعريف غير صحيح، إنما تعريفه الحق “عقل وعمق”.
ونلاحظ أن كلا العاشقين أخذ يفلسف موقفه وبروز مسؤوليته، ومعنى ذلك اشتباك العاطفة بالعقل والتحام الذاتية في معركة النهاية. يا الله ما أحلى المغالطة. مغالطة النظام الطبيعي، مغالطة الزمن، المغالطة في العمر استرجاعاً للشباب. إن ابن العشرين لا يفهم معنى حياة من هو في سن الثلاثين أو الأربعين، وابن الأربعين لا يرضى أن ينحدر درجة واحدة إلى الجانب اليساري، يريد البقاء في ذروة الأربعين ولو غالط النظام الطبيعي للإنسان. ليست العبرة في الإقناع الذاتي بل في إقناع الطرف الآخر بأن الأوهام والخيالات والتصورات هي مادة ملموسة محسوسة وهيهات.
قصمت قشة الإجهاد ظهر الفرس. سلكت طلائع النهاية سبيلها إلى شور “ريم” وإلى حسها أيضا. وأن ذلك الرجل الذي كانت تذوب نفسها في وتفنى في عينيه قد صار إلى هوان بسبب تقصيره وعجزه. مقارنة بسسيطة بين الماضي والحاضر وموازنة أكثر بساطة بين الحاضر والمستقبل أثبتت لريم الحقيقة السافرة، وقد أدركت بذكائها الوهاج وحسها النسائي أن سبيلها إلى قتل حبها هو سلاح حبيبها، وأن هذا الحب الذي صدر الحكم بإعدامه لا يذبح بالحديد بل بالفلسفة المنطقية. أليس الحبيب هو القائل أن الحب عقل وعمق؟ لقد أبلت “ريم” من جنون حبها الطارئ ومن حب “العاطفة الطارئة” زياد فجن، وأخيراً انتصرت المراهقة على جنون ريم، على رغبتها المجنونة في الأمومة، وتيقظ شر الغدر الدفين في قرارة المرأة، وكشّر كبرياؤها عن أنيابه لينتقم من الحظي، زير النساء، الذي طالما أذل النساء… وهل معنى ذلك أن النساء يمتزن بالحسن فقط، وأن لا قيمة البتة لروح المرأة وعقلها ووجدانها؟!
صغُر “زياد” في عيني “ريم” فقالت: “زحفت نظراتي ببطء وبرود… تسلقت قامتي المديدة ووقفت غريبة عند ثغره، ثم راحت تنبش في عينيه، وتبحث فيهما عن شيء، عن أي شيء، عن أثر من إحساساتي الماضية ولكن عبثا… هذه العيون التي كانت تشع وتوحي إلي بألوف المعاني تبدو فارغة، وهذه الشفاه التي كانت تصب الحياة في وجهي وفي مقلتي تبدو متدلية تدل على السذاجة. هذا الرجل المنتصب أمامي طالما وددت أن أتلاشي في ظله، طالما تمنيت أن أضمحل بين ذراعيه، يبدو مترهلا عادياً. إني أنظر إليه وكأني أراه لأول مرة. أيمكن ألا أشعر نحوه بشيء؟ أيمكن أن يهدأ الحب المضطرم في مدى لحظة؟ أهكذا تخمد النار الآكلة في ثوان؟ أنا لم أعد أحبه”.
عادت “ريم” الشيطانة إلى الفراغ. الفراغ الذي كانت تخافه وتستقله وقد صار لها مصدر اطمئنان وسكون. وارتد الحظي على عقبيه، لا يريد أن يشعر بالنازلة التي نزلت به، وقد هيأت “كوليت” لنفسها رحلة إلى أوروبا تفتش عن زادٍ روحي جديد، يكون موضوعا لاعتراف جديد، مع زياد جديد فحل. ونطق البطل الأبكم كفراً بعد طول صمت وموات، حيث قال لخطيبته “ريم” أنا لا تهمني القصص، ولا جميع القصص التي تجري معك، ولن أحاسبك على ماضيك، على سنين قضيتها وأنا بعيد عنك. أنا لنم أطلب منك إخلاصاً إذا كنت لن أبادلك أنا هذا الإخلاص. أنت إنسانة لك حق في الحياة مثلي تماماً، ولست شخيفا لأطلب تملك ماضيك. رغبتي أن تكوني زوجتي.
لقد تحررت الشيطانة من غلمتها، أو أنها كتمتها برماد من التريث والتأني. لقد تحررت كوليت من حظيّها الأسير وقد كان شبقاً يعطي بسخاء، ويرضي من غير مَن، ويروي العطشى وقد تحوّل المسكين إلى شيء. شيء هين لا قيمة له ولا قدر… وكأني بهوس الضمير، ضمير الشيطان قد تيقظ بعد أن عرف بعض الخير وكل الشر فاتجه صوب الدير ينذر الرهبنة. هكذا يقول المثل الإنكليزي عن الشيطان متى تجاوز الأربعين من عمره، وهكذا همس إبليس في أذن “كوليت” ينذرها بمصير عشيقها وقد انحدر إلى الخمسين أو الستين. وبقي لها، أو هي استبقته “شرابة خرج” خطيبها إلى حين… هذا الخطيب الذي عرفنا منه أن لا شأن له البتة بماضي خطيبته وحاضرها، وأنه ليس سخيفاً يحاسبها على ما تفعل، وعلى قول الناس فيها وأقاويلهم عنها.
أيام معه
هنا يحق لنا أن نسأل هل تم اعتراف كوليت بانتهائها من قراءة الأربعمائة وعشر صفحات من كتابها (أيام معه)؟ فنجيب أن للكتاب شقيقاً جديداً تجسد في مولود جديد اسمه (ليلة واحدة). عرفنا أن الكتاب البكر اعتراف ذاتي بحت، اعتراف كوليت سهيل خوري الخاص، وأن ألسنة الناس لاكت هذا الموضوع قبل أن يتكون من حروف ويتجسد في كتاب يقرؤه الناس… وأن الحكاية لن تنتهي بانصراف أبطالها كل واحد في طريق؛ لأن جديداً قد جد في حياة السيدة كوليت وقد تزوجت، وأن زواجها دام إحدى عشرة سنة في العقم. ولكن من هو العقيم: هي أم زوجها؟ وتقول في كتابها (ليلة واحدة) أن عزمها وعزم زوجها قد صح على السفر إلى باريس لعرض الزوجة على طبيب أخصائي… وتقول أن أعمالاً تجارية اضطرت زوجها على التخلف في مرسيليا، وقد تركها تسافر وحدها في القطار إلى باريس، واعداً إياها باللحاق بها في اليوم التالي… وتقول “كوليت” ما معناه ” لمحت عيناها وهي في عربة سكة الحديد، رجلا في نحو الخامسة والثلاثين كامل النضج، فياض الجاذبية، تسكن في عينيه نظرات الحنان والحزن والتوسل. وتجهر بأن شعورها اضطرب استجابة لنداء الجنس، وأن حديث هذا الرجل الباريسي العذب الأنيق قد سحرها… وأن جوانحها قد تفتحت لقصة حياته الخاصة، وهي حكاية رومانتيكية مشوقة، جذابة مؤثرة. وتقول أن كرم الرجل بهرها في باريس وقد بلغاها قرب نصف الليل، ينتقل بها من مطعم إلى مقصف إلى علب ليلية راقصة ماجنة، وقد أسكرها عطفه وحنانه ونظراته المضطربة بالشوق. وقد ازداد وجدها وهجاً بفعل الشراب.
وتعترف بأنها استقرت معه بعد المطاف والانتقال من مقصف إلى آخر، في غرفة في نزل، من هاتيك النزل التي يعرفها الباريسي “القارح” المخصصة لمثل هذه الزيارات الخاطفة تحت جنح الليل. وكانت ليلة أو بضع دقائق مكن ليلة مقدماتها البوهيمية حمراء، يعجز قلم الرجل عن وصفها احتشاماً، لا لأن الحديث الجنسي يُفعل ولا يقال، بل لانصراف الذكر بوافر حيويته إلى إخصاب الأنثي المتهيئة ونفحها إكسير الحياة لبقاء النوع، ولأن الأنثي في هذه الحال تكون متفتحة الجوارح، يقظة الوجدان، متنبهة الذهن، مرهفة الشعور، نشوى الأحساسيس الذاتية… وهل المرأة بمجملها سوى أحاسيس ذاتية؟
أما “كوليت سهيل خوري” الشاعرة فقد وصفت فأجادت الإجادة المطلقة في وصف كل شيء. كل شيء… وضاعة الغرفة، قبلة الاستعطاف، نضو المعطف، ضم الخصر، تلوي الجسم/ ثم أنات السرير تحت وطء جسدين ملتحمين، ثم تنهدات وشهقات وانسكاب دموع… وصفاً نسائياً ساغراً، خالياً من حشمة الإنسان، مجسداً تجسيداً بالغاً حيوانية الأنسان التي تبز كل حيوان.
يُلَخص كتاب كوليت الأول (أيام معه) بكلمات ثلاث: مراهقة… فإهدار عفة. والكتاب الثاني بكلمتين اثنتين: “خيانة زوجية”. لم يخل الكتابان من سقطات، لا أدري كيف تعثرت فسقطت فيها كوليت سهيل الخوري… وهي النبيهة اليقظة، المالكة لناصية التصوير البارع، والمسيحية التي تعيش في وسط اجتماعي متحرر من قيود الاختلاط. كيف عرفت خطيبها “سليم” متقطعاً وقد صار بعلها الشرعي… كيف نظرت إليه حين جاء يطلب يدها من والدها من شق باب الصالون أو من مفتاح الباب. رأت مرة يده ومرة أخرى رأسه وحذاءه. قد ينطبق هذا الوصف الخاطئ على البعض القليل من الأسر الإسلامية المحافظة بعض الانطباق، ولا ينطبق من قريب أو بعيد على الأسر المسيحية بكافة طبقاتها. هذا مثال أستشف منه دليلاً على أن السيدة كوليت غريبة عن الأوساط الدمشقية، غريبة في تفردها، في تفكيرها، غريبة في انحرافها وتصرفاتها، غريبة في تسويغ توقفها الشاذ، غريبة في اتهام الرجل بجهل المرأة.
ثم سقطة ثانية أشد من الأولى. تقول السيدة: “وانطلقت إلى الشارع تائهة أسائل صقيع فجر باريس عن طريقي إلى فندقي”. ولا ننسى أنها أمت غرفة الخيانة قبيل الفجر، أي أنها مكثت فيها برهة قليلة من الزمن، ريثما نزا الفحل، وهرعت إلى فندقها عند الفجر. وتقول أيضاً: “مزق هدوء غرفتي زعيق الهاتف… انفرجت الأنامل لا شعوريا، تحاول إخفاء آخر صفحة من رسالتي المبعثرة، يذكرها المتحدث بالهاتف بالموعد مع الطبيب في الساعة التاسعة”.
يفهم من قولها هذا أنها ودعت طريدها عند الفجر وانطلقت إلى فندقها تكتب رسالة إلى زوجها، تعترف بخيانتها له، وتسوغ هذه الخيانة بقولها: “إن خيانة الروح أشد من خيانة الجسد” وهنا يحق لنا أن نتساءل: هل من الممكن كتابة 235 صفحة في أربع أو خمس ساعات؟ أظن أن المستحيل هو هذا.
ثم تقول: “البارحة لأول مرة في حياتي كنت صادقة مع نفسي” أي أنها عرفت المتعة التامة بإرواء الجسد. ونتساءل مرة ثانية: كيف تكون المتعة كاملة والارتواء تاماً، ولا يعقبهما على التو ارتماء على الفراش يسهل انسياب هرمونات الحياة وامتصاص الجسد لها، وهو حالة طبيعية تكيفها الطبية وتعدها ليستعد الجسد لمعركة بشرية تالية. وكيف عاكست المؤلفة نظام الطبيعة في الجسد المرتوي فلم تنم، بل نجد العكس تنبهت أعصابها، وتيقظ ذهنها، واندفعت تكتب 235 صفحة في أربع أو خمس ساعات؟!
من المعلوم أن كل امرأة ترضي الرجل، وما كل رجل يرضي المرأة… ومعلوم أيضا أن الارتواء يعقبه نوم عميق، وعدمه يثير الأعصاب… وأن الاطمئنان يعقب العطية الجنسية ويدعو إلى الراحة والهدوء، وأن التيقظ والتنبه والتوفز وليدة الخيبة والفشل.
هذا التخطيط له إحدى دلالتين: الأولى الجهل في التكوين الطبيعي للإنسان وتركيب الجسد…. وتأثر حركاته بعضها من البعض الآخر. والدلالة الثانية هو التلفيق غير الموفق. تلفيق هذا اللقاء الخائن وقد صورت فيه رغبتها المكبوتة لما تتمنى وقوعه وتشتهيه، لا لما وقع بالفعل.
ليس مثل هذه السقطة بالكثير في الكتابين، بل الكثير تكرار الصور وتشابكها وترديد العبارة أكثر من مرة واحدة والإسراف في الوصف، والمقالدة فيه.
***
كتبت هذه السطور وأنا في دمشق، وسمعت من أقرب المقربين من وسط كوليت سهيل خوري والعشيق، أن المؤلفة العصرية المتحررة دوزنت أوتار قيثارة نيرون وهيأتها لإنشاد نعم نشاز جديد، وحريق جديد من نوع (أيام معه) و(ليلة واحدة) في طريقه إلى الظهور.
لا مرحباً بأيام كوليت ولياليها ومآسيها، ولا سلام عليها لأن خلية شهدها تنقع السم القاتل.
القاهرة – مجلة (الآداب) اللبنانية – تشرين الثاني/ نوفمبر 1961
أيام مع أمّ الشامة
د. محيي الدين اللاذقاني
كلما حاولت أن أتناسى الإبداع الأدبي لمواطنتي كوليت خوري، تردّني النفس الأمارة بالسوء عن ذلك القرار، لتمنعني من تنفيذه، وتعاتبني قائلة بثقة نصّاب دولي، يخدع فلاحاً سورياً في قرية نائية، ليشتري منه أرضه بعلبة علكة: لا تحاول، من الصعب أن تنسى الإبداع الأدبي لامرأة لها أنف، يشبه أنف أولاد عمنا في أورشليم، وشامة أكبر من شامة سميرة توفيق، وجَدّها فارس الخوري، وفوق هذه، وتلك كانت مستشارة لسفاح دولي، وعندها رواية تُوصف بالجرأة، اسمها “أيام معه”.
والحقيقة، أن هذه الرواية بالذات عندها حظ أعلى من حظ بائعة هوى في مدينة مكبوتة، ويقول معاصروها من منتصف القرن الماضي إن سبب انتشارها يعود لشائعة مغرضة، لم تثبت صحتها بعد مرور أكثر من ستين عاماً على صدورها، وبعد موت الشخص الوحيد الذي يستطيع إثباتها، فقد قيل في تلك الشائعة التي رفعت أسهم الرواية في عالم عربي مكبوت إن أحداثها قصة حقيقية، تسرد علاقة حارة جداً بين المؤلفة، والشاعر الراحل نزار قباني.
ولاحقاً، لعبت نجاة الصغيرة دوراً ثانوياً في ازدهار الشائعة، حين غنّت لنزار قصيدة “أيظن اني لعبة بيديه أنا لا أفكر في الرجوع إليه”، وهذا المطلع يختصر الرواية التي يزيد عدد صفحاتها عن أربعمائة صفحة، فهي تحكي عن طالبة عشرينية تتناسى أنها مخطوبة وعلى وشك الزواج، وتتعلق بموسيقار ضعف عمرها، وتفعل معه ما يجوز، وما لا يجوز، فيهملها بعد أن قضى منها وطراً، ويصادق فتاة تركية تعمل معه، وبعد أن يمل من التركية، يقرر العودة للسورية، لكنها تقرر أن تحاربه بسلاحه، وترفض العودة إليه، وتوتة توتة.
وإذا كان مطلع قصيدة نزار التي غنتها نجاة يلخص الرواية، فهناك من لخص لكوليت خوري في أوج مجدها روايتين، هما (أيام معه)، و(ليلة واحدة) في أربع كلمات، وهو الصحافي اللبناني حبيب زحلاوي، الذي كتب في مجلة (الآداب) اللبنانية مطلع ستينات القرن الماضي مقالاً عن الروايتين معاً، فقال عن الأولى: إهدار عفة، وأردف عن الثانية التي صدرت بعدها قائلاً: خيانة زوجية، وزاد في الطنبور نغماً عن الرواية الأولى، فلم يجد من الحريات في الرواية الداعية للتحرر إلا أن البطلة تحررت من غلمتها.
ويشهد الله أن هذا الاختزال أغضبني، فأوشكت أن أسنّ قلمي للدفاع عن ابنة البلد، فلا يسلم الشرف الوطني الرفيع من الأذى، حتى يُراق على جوانبه الحبر، لكن لسوء حظ ابنة بلدي معي، ترافقت قراءتي لذلك المقال الشنيع عنها، مع مشاهدة فيديو لفواز تللو، أحد أبناء الثورة السورية البارزين، وأحد أبناء العائلات الدمشقية السياسية مثلها، وفيه يحكي عن كوليت خوري، والأب إلياس زحلاوي، وكيف اجتمع بهما مع آخرين سيئ الذكر جميل حسن مدير المخابرات الجوية، الذي يؤثر عنه قوله الذي لا ينساه أحد، حين اعترض على التسوية السلمية مع الثوار، وقال لبشار الكيماوي: دعني أقتل مليون سوري، وسأذهب نيابة عنك ليحاكموني في الجنائية الدولية في لاهاي.
وبحسب رواية فواز تللو، فإن جميل حسن، طلب من كوليت والأب إلياس زحلاوي مؤسس “جوقة الفرح”، وآخرين أن يذهبوا ويحذروا المسيحيين، وبقية الأقليات في دمشق من تطرف الثورة السورية، ووجوب مقاومتها بكل السبل، ونتيجة لتلك التوجيهات، انطلقت الجوقة المختارة تصدح بالتوجيهات الأمنية في المجتمع الدمشقي، في الوقت الذي كان فيه ثوار دمشق، وسوريا كلها يوزعون الورود على الجنود، ولم يكن هناك أي أثر للتطرف، ولا للسلاح في أشهر البدايات، أشهر سلمية، سلمية.
ومما يُؤثر عن كوليت في تلك الفترة أنها قالت عن المتظاهرين ضد الاستبداد الأسدي: “هدول ناقصهم ترباية”، وربما لتربيتها الأرستقراطية لم تفحش في القول أكثر من ذلك، فهي لا تنفع لمهام من هذا النوع الذي يحتاج لمخبرين محترفين، وذباب إلكتروني مُدرب، لكن إطلاق عبارة من هذا النوع على غياث مطر ورفاقه، الذين كانوا من أفضل ما ربّت سوريا، لابد أن يغيظ مهما كان الموقف من كوليت خوري، وإبداعها الروائي المزعوم الذي لخصه نزار في شطر شعري، وحبيب زحلاوي في أربع كلمات عن روايتين ضخمتين.
وإذا شئنا أن ننصف هذه الأديبة الأريبة، وهي في خريف العمر لابد أن نلاحظ أنها عاشت بوجهين، واسمين، وقناعين إن لم يكن أكثر، فجَدّها فارس الخوري اختار لها اسم خولة، ووالدها سهيل الخوري اختار لها اسم كوليت، لإعجابه بأديبة فرنسية كتبت أدباً إباحياً، قبل ابنته بقرن من الزمان، وفي سوريا التي شاءت أن تكون فيها حرة من كل قيد، لا يستطيع الإنسان أن يكون حراً في ظل استبداد مقيت لم يشهد له التاريخ مثيلاً.
لقد كتبت كوليت بقلمها في روايتها: “كيف أقبل أن أعيش حياة تافهة؟ كيف أرضى أن أعيش بين أربعة جدران، أقتل طموحي بالملل، وأدفن آمالي في انتظار العريس؟ أنا لم أوجد لأتعلم الطهي، ثم أتزوج فأنجب أطفالاً، ثم أموت”، ورغم هذه الثورة العارمة تزوجت الأديبة أكثر من مرة، وأنجبت، وطبخت، لكن هل عاشت خارج إطار التفاهة التي رفضتها…؟
بكل أسف، بعض فصول حياتها لا تقول ذلك، فقد عملت رغم عدم حاجتها للمال مدققة لغوية عند وزير الدفاع الآفل مصطفى طلاس المولع بالتفاهة، والذي كان أتفه شخصية في النظام الأسدي، إن لم يكن في العالم كله، ثم ترقت لاحقاً، فأصبحت مستشارة ثقافية لبشار الكيماوي الذي صار مع دمويته التي لا تحتاج لأدلة أتفه رئيس في تاريخ سوريا، هذا غير أن بينه وبين الثقافة عداوة مزمنة أقل قليلاً من عداوته للشعب السوري.
ولعل المحرك الأوحد لكوليت خوري كما – أعتقد – هو الضعف أمام السلطة، والسعي للتماهي مع أهلها، وهذا مرض تجده بين غالبية المثقفين السوريين بدرجات متفاوتة؛ لذا كشفتهم جميعاً الثورة اليتيمة، العظيمة، الكاشفة، وما أمّ الشامة التي تنافس شامتها شامة سميرة توفيق، إلا نموذج واحد من جيل كامل من المثقفين، عاش معظمه، وسيموت دون أن يمتلك الجرأة على تحدي السلطة.
_________________________________________
من مقالات العدد الخامس عشر من (العربي القديم) الخاص بالروائي فواز حداد أيلول – سبتمبر 2024