هيغل ورجل الشحاطة الخضراء
قصة : محمد المير إبراهيم
خلف طاولته حاول الوصول للطريقة المناسبة لجلوسه وهو ينظرُ إلي بعينيه الناريتين.
أخذ سيجارةً من علبة سجائر مستوردة ملقاة على طرف الطاولة.. كانت قد شذت عن سياق مثيلاتها، كأنها تحاول الفرار من العلبة الضيقة التي أقحمت فيها عنوةً .
أشعلها ثم مجَّ منها بنهم ونفث الدخان نحوي بتلذذ مقيت. سألني بنبرة المُسيطر: أنتَ مُدخن؟! أجبته بإيماءة من رأسي إيجاباً.
لم أقوَ على الكلام، رأسي مثقل بالكدمات والرعب. رُبما فضلتُ الصمت اتقاءً لجحيم فهمه، أو عدم فهمه لكلمة قد قُلتها. كانت المرة الأولى التي أستعيد النظر بها، فمنذ اعتقالي وأنا معصوبُ العينين، كُل ما أذكره هو أصوات الأحذية العسكرية وهي تُرَّقِصُ جسدي على نغم دعسها عليه.
أبوابٌ تفتح وتغلق، الصفعات التي تجاوزت الستين وأنا في الطريق الى إلحمام فقط..الكثير الكثير من صرخات المعتقلين وهم تحت التعذيب وحرارة اشتعال جلدي بعد كُل ضربة أو لكمةٍ أو صفعةٍ تلقيتها، دفء الدم المُتدفق من كل جرح في.. وفي أجساد باقي المعتقلين. ذاك القبو.. كان بارداً لكن دماءنا أعطتنا القليل من الدفء.
نَسلَ سيجارة ثم أشار على الرجل الواقف خلفي بأنْ “أعطه إياها” أخذها ثم وضعها في فمي وأشعلها. ذات الرجل الذي ميّزته من (شحاطته) الخضراء فاتحة اللون التي وضعها في فمي حين كنت مُلقى على ظهري وعصى خشبيّة غليظة تهوي على باطن قدماي دون توقف. وضع مداسه (شحاطته) في فمي لأنني صرخت ألماً .
لمحتُ لونَ الشحاطة واليد الممسكة بالعصى الخشبية الغليظة من تحت عصابة العينين التي ألبسوني إياها في ذلك الصباح الخريفي من عام ٢٠١١خاتمُ خمري اللون في إصبع الخنصر، تلك اليد كانت كبيرة بحجم الوطن
والحذاء أبلغ من البيان الشيوعي لماركس. رفعتُ رأسي ونظرتُ إليه وهو يشعل السيجارة ابتسم ابتسامةً وقحة وقال:
– الدخان منيح .. تغيير طعمة
كلماته كانت أقسى من كل ما شَهِدته من تعذيب. أخذت نفساً على اتساع صدري، فأول نفس بعد انقطاع اسبوعين عن التدخين يفعلُ فِعلَ المُخدر. دارَ رأسي لثوانٍ.. استطعت نسيان ابتسامته القميئة. هذا إنجاز بحق.
أعادني صوتُ المحقق الحاد إلى كُرسي الاعتقال:
– حاضر سيادة المحقق
لم أنتهِ من نطق الكلمة الأخيرة حتى أتتني صفعة مدوية على مؤخرة رأسي وصاح ذاك الصوت من خلفي:
– قول سيدي ولاك ابن الشرموطة
لم أستطع سوى تسييده كما أراد. بدأ حديثه بعد أن أطفأ سيجارته قبل انتهائها:
- أستاذ خالد نحن نعلم كل شيء عنك وعن أهلك وعن رفاقك ..كل شيء
- لمَ أنا هنا؟ صدر السؤال دون إدراكٍ مني
- أنت هنا متهم بالسعي…
لم أستطع فهم ما قال، إذ ضربت جمجمتي موجةٌ من طنين الأذنين معاً بسبب اللكمات التي تلقيتها من قبل السجانين وأنا في الطريق إلى هذه الغرفة لم أفهم لمَ اللكم على الأذن..
- هذا صحيح أنا أسعى لكل ماقلُت، متى صار هذا السعي تُهمة؟
لا أعلم كيف تفجرت هذه الشجاعة في داخلي. يبدو أننا حين نقف على حافة الأشياء تسقطُ جدرانُ الوعي ونصبح غريزيي النزعة. نكون على حقيقتنا.. فلا شيء نخسره أكثر. كانت الكلمات تكسر قيدَ قلبي قبلَ يديّ ولساني كأنها روحٌ استقلت بذاتها وضاقت بالجسد الذي سكنته، لتنطلق نحو ذاتها الحرة دون أي حكم مني أو معرفة. ابتسمَ ثم قال:
- السعي ليس تهمة، نحن نسعى لذات الأهداف لكن على سبيل المثال: لمَ لا تشتغل في التنوير؟ التنوير جيد وله مكاسب مادية، مالك ومال السياسة؟!! أنت طالبٌ جامعي وتفهم ما أقول. التنوير.. مسموح أستاذ خالد، بل مطلوب أيضا.
“سيدي المحقق” مباشرةً قلتُ في نفسي: سيدي المحقق ونقاش وحوار عن التنوير والسياسة؟!!! مفارقة عجيبة لا تعيشها إلا في بلد الأربعة عشر فرعاً أمنياً
– أيُّ تنوير تقصد؟ !التنوير الديني مثلاً!؟؟
أجاب بعصبية:
– كم تنوير لدينا يا أستاذ ؟!!! طبعاً التنوير الديني ألا ترى مدى تغلغل هذا الفكر الظلامي في مفاصل مجتمعنا المستهدف؟! ألا تشعر بمدى استغلال أعداء هذه الأُمة للدين وتحويله لأداة تخريب وهدم؟!! ألم تسمع بما فعلته داعش ولاحش وحسد ومسد وجسد…إلخ ؟!!؟؟
أنهى كلامه بزفرة المنتصر..الإله مالك الحقيقة. أقطع يدي إن كان يعرف الفرق بين داعش وماحش وبين حسد ومسد .
– سيدي المحقق صحيح، لقد رأيتُ وسمعت عن كل ما ذكرت فأنا ابن هذا المجتمع وأعلم الكثير عن تفاصيله من خلال عملي كأستاذ في مدرسة حكومية للبنين كمدرس تاريخ.. اسمح لي أن أجيب باسهاب، لكن أحتاج أن يُفَّكَّ قيد يديّ.. لو سمحت!
تفاجأت حينَ وافقَ على طلبي.. كأني أحلم
– إن ما وصفته بالتنوير هو صحيحٌ شكلاً ولكن…أعتقد أنك سمعت بالفيلسوف الألماني نيتشه؟ فأنت خريجٌ جامعي على ما أعتقد
– طبعاً طبعاً .. أجاب ببلاهة البداهة
– نيتشه عندما تحدث عن قتل “الإله” كان قد استند إلى واقعية الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر وأثرها على الفرد والمجتمع في آنٍ معاً. بدّل الإله الذي قتله بالدولة بقيم أعلاها هو فأصبحت مقدسة.. كحرية الفرد شبه المُطلقة. استُبدلت الشرائع السماوية بوضعية صارمة وحازمة وشاملة، عبئ الإنسان الأوربي بكل ما يصرفه عن فكرة الله استهلاكاً، عملاً، القدرة على الإبداع، إمكانية الوصول لأماكن مختلفة، فتحُ باب الشهوات اللامحدود.
قاطعني مستعجلاً:
- نحن نملك نظاماً متماسكاً عقائدياً، يقدم ذات البديل.. نحن ندرِّس هذا البديل في مدارسنا جامعاتنا معاهدنا مستشفياتنا. .حتى في الطرقات ما اعتراضك إذا؟!
صرخَ في وجهي كأني طفلٌ سرق قطعةً من الحلوة من يد زميله في المدرسة، وهو الأب المُؤنب لطمع ودناءة نفس ولده إزاء قطعة حلوى لديهم الكثير منها في المنزل. ارتعدتُ على أثر الصرخة نشوةُ الكلام أخذتني بعيداً، لكن صرخته جذبتني مرة أخرى إلى الكرسي الصغير ووجه العَرق، وأعادت جسدي إلى ذبول التعذيب وحدِّ الموت الذي عشته ورأيته خلال الأسبوعين الماضيين.
-جاوب سيادة المحقق ولك عرصا
قالها بعد أن اقتربَ مني رجل الشحاطة الخضراء.. قاطعه المحقق:
-لا بأس، دع الأستاذ خالد يأخذُ وقته، أريد أن أعرف ما يدور في رأسه
“عرصا… أستاذ!!!” لم أستطع منع ابتسامة من الاستحواذ على شفتي المُدماة. نظرت إلى سيادته، شكرته كأن البسمة كانت لرحمته البالغة:
- يا سيادة المحقق ..عذرا سيدي المحقق، حضرتكم فرضتم استبداداً مانعاً لأي حق من حقوق الفرد. المشكلة تكمن في الحريات وعلى كافة الأصعدة، لذلك بديلكم لا ينفع ولذات السبب تغوّل الدين بهذا الشكل الذي وصفت ولذلك رأينا ما رأيناه.
جن جنونه حينَ سمع ما قُلت. وقف وانتصب خلف طاولته وهو بقمة الانفعال
- أنت من جماعة عبد الوهاب المسيري !!!!؟؟ آه!؟؟ ذاك الأفّاق الذي ادعى العلمانية واليسار ومن ثم انقلب على كليهما معا؟ !!أم تريد أن تكون مع الظلاميين، التكفيريين، السفليين الأنذال!!!؟؟؟ أجب قبل أن ينفذ صبري وأرسلك إلى حفلةٍ أُخرى تعرفها جيداً.
انتظرت حتى عادت عيناه إلى مكانهما بعد أن جحظتا لدرجة أحسست أنهما بحجم الغرفة التي نحن فيها. استطرد:
– نحن نريد أن نعاملكم بالحُسنى، بالحوار، بالنقاش ، لكنكم مصرون على استفزازنا .
لم أجرؤ على الرد حتى بحرف. سكتت.. ونظرت إلى الأرض. لم أرَ سوى قدمي الداميتين بعد أن اقتُلع اثنان من أظافر قدمي اليُسرى وتهتك عظم اليُمنى. حاولت التزام الصمت ذاك الصمتُ القائمُ على البقاء. صرت كظبي تلطى بشجيرات هربا من قطيعٍ من الضباع قد حاصره.
ظنَّ أن الصمت يحميه من أنيابهم. نسيّ أن رائحة الخوف واللحم المرتجف..ستدلهم عليه. انفجرت الكلمات في حلقي:
– أنا لست من جماعة أحد، أنا أتحدثُ عن أفكاري. المسيري له ما له وعليه ما عليه.. أختلف معه في نظرته الأحادية للأمور: ايمان- إلحاد، علمانية- إسلامية، روحانية- مادية جافة… يفترض أن نجد حلاً متوازنا منطلقاً من كياننا، مما يكوننا كأفراد ومجتمع. لا أدعو الناس إلى التدين ولا أُنظِّرُ لهذا الأمر، لكن لا أجبر الناس على ترك الله ومن ثم أرميهم دون أي شيء.. دون الله، دون كرامة، دون حرية، دون خبز، دون مأوى، دون عدل، دون صحة من ثم أرميهم بالتخلف والفساد والجهل.. وعدم التحضر
طبعاً اكتفيت بعبارة أن نجد حلاً متوازناً واحتفظت بالباقي لنفسي خوفاً من رجل الشحاطة الخضراء والأستاذ المحقق. رمى بي في فخ
– حسناً أكمل
– أنا أرى أن المسيري ومن يناقضه من التنويرين انطلقوا من ذات النظرة.. للذات كأنهم آمنوا بما قاله هيغل.. تعرف هيغل سيدي المحقق؟
أجاب رجل الشحاطة الخضراء
– شو قصدك ولاك بهيم !؟ عم تتمنيك على سيادة المحقق!؟؟
– حاشى وكلّا.. لكن
اسحب السؤال… انتفض المحقق:
-ماذا قال هذا هيغل!؟؟ دعنا ننتهي من هذه القصة
– قال هيغل:
يمكننا القول أن تاريخ العالم هو سجل جهود الروح للوصول إلى معرفة ماهيتها في حد ذاتها. الشرقيون لا يعرفون أن الروح أو الإنسان في حد ذاته حر في ذاته؛ ولأنهم لا يعرفون ذلك، فهم ليسوا أنفسهم أحراراً. إنهم يعرفون فقط أن شخص واحد حر؛ ولكن لهذا السبب بالذات، فإن مثل هذه الحرية هي مجرد اعتباطية ووحشية وعاطفة، أو نسخة أكثر اعتدالاً وترويضاً من هذه التي هي في حد ذاتها مجرد حادثة طبيعية، وتعسفية بنفس القدر. إن سلمنا جدلاً بصحة ما قال، فمشكلة المسيري ونقيضه هو هذا التشوه في الرؤية الذاتية والعامة لهذا الوجود. مع العلم أن هذه النظرة (حسب رؤية هيغل) هي استعمارية بامتياز وقد استفدتم منها كثيرا، وطبقتم باقي فصول تفاصيلها بشكل مبهر ، مازلتم حتى هذه اللحظة تحاولون إدارة اللعبة على قواعد هذه النظرة..
طبعاً لم ابح بما بعد.. الوجود وإذا كان قد أخطأ فيما قال فالمصيبة أكبر.. نظرة مشوهةٌ عن ذواتنا كُرست في داخلنا دون أي رد فعل منا.
–الجانب الثاني هو الأسئلة هم مثقفو الأسئلة فقط إن وجدوا جواب.. فيكون إما مستورد أو غير واقعي وفي الحالتين يحاولون فرضه على كل شيء دون أي قابليّة للنقاش أو.. لطرح سؤال بدلوا الله.. بذواتهم للأسف
كما تعرف سيدي المحقق فنحن رأينا ما أنتجه نيتشه، إنسان جافٌ ماديٌّ فارغ .. لا يفقه إلا القوة منكراً ما يفرضه علينا تكويننا البشري ..بأن يُنشّط شيءٌ ما بداخلنا نسميه الروح.
- أحسنت
قالها المحقق وهو يسير نحوي بعد أن ترك طاولته:
- هذا مانرفضه.. روح الأمة باقية… هذا الفرض الإمبريالي الاستعماري… الرأسمالية الحقيرة
كعادة أي سلطة.. حذَفَ ما لا يريد وتمسك بما يريد!
– أكمل أكمل.. يبدو أننا سنتفق الليلة
علمت أن الوقت ليلاً. مذ دخلت فرع المخابرات لم أعرف الليل من النهارفي الزنزانة الإنفرادية التي وضعت بها. مختلفٌ نظام الوجبات التي تصل المعتقل عادةً يعرف النهار من الفطور، زيتون ..قطعة جبن او القليل من الحلاوة والغداء كذلك… أما العشاء فبيض مسلوق. هذا ما تعارَفَ عليه كل من اعتقل. شطحات الذهن هي أجمل وأسوء ماقد يحدث في المعتقل.. وأحيانا في الحياة
قلت:
– إذا لا الأسئلة ناتجة عن ذوات طبيعية… لا الأجوبة ناتجة عن أسئلة طبيعية… بث هذه الأسئلة والأجوبة ناتجُ استخدام أدوات لا طبيعية. كما تعلمون سيادة المحقق النتن.. أنتم من تسوقون لكلا الأفكار وتدعمون بعضها ضد بعض .
انتفضتُ فجأةً من سريري.. لثوان كنت ما أزال أُحس بطعم الخوف الصدأ في حلقي. لقد توقعت طلقة في الرأس بعد ما قلته في وجه ذاك المحقق النتن عليكم لعنةُ آمون.. بل وحُدد أيضاً جميعاً دون استثناء..هيغل ورجل الشحاطة الخضراء والمحقق النتن ومن لف لفهم .
تبين أنه.. حلم أو كابوس. مزيجٌ بينهما رُبما. مزج بين ذكريات الإعتقال والخوف وماقرآت وما شاهدت وما سمعت..الليلة الماضية!
فتحت نافذة غرفتي المطلة على بوابة برانبدورغ وبقايا جدار برلين، أشعلت سيجارة من ذات السجائر الخاصة بالمحقق النتن. مشى صوتُ فيروز في قلبي وهي تترنم: “بكير طلّ الحُب عا حيٍّ لنا”
ابتسمت وأنا أقول.. إنها لمغامرةٌ أولى للعقل. لا مغامرة العقل الأولى.. لكن في منام!