الرأي العام

دلالات وقضايا| حزب البعث وظاهرة التَّشبيح الثَّقافيِّ في حلب

يكتبها: د. مهنا بلال الرشيد

تقع مدينة حلب شمال سوريا على مقربة من الحدود السُّوريِّة التُّركيَّة الرَّاهنة، وقد كانت هذه المدينة بسبب موقعها عاصمة لمجموعة من الممالك القديمة مثل ممكلة يمحاض وغيرها، ويبدو أنَّ اسمها الرَّاهن (حلب) (Aleppo) مقلوب كلمة (Ebla)؛ أي أنَّ كلمة قراءة كلمة (Ebla) من اليمين إلى اليسار إلى اليمين تعطي كلمة (Aleppo) بشكلها أو نطقها الرَّاهن في اللُّغة الإنكليزيَّة؛ وهذا دليل فيلولوجيٌّ حاسم على أنَّ مجموعة كبيرة من سكَّان (حلب) باسمها الرَّاهن يرجعون مع سكَّان (إيبلا) في إدلب إلى أرومة واحدة أو أصل واحد؛ وهو الأصل الأموريُّ الغالب على سكَّان مملكة إيبلا وبادية الشَّام وبلاد ما بين النَّهرين (ميزوبوتامبيا) أو الجزيرة الفراتيَّة وأطرافها من ناحية العراق شرقًا وحلب وإدلب وحمص وحماة ودمشق حتَّى سواحل البحر الأبيض المتوسِّط غربًا.

لماذا حلب؟

كانت حلب وما زالت بسبب موقعها شمال سوريا واحدة من أشهر مدن الثُّغور التَّاريخيَّة في العالم؛ وقد شهدت حروب مدِّ النُّفوذ الضَّارية بين ملوك الفرس والأكديِّين القادمين من الشَّرق والجنوب الشَّرقيِّ والشِّمال الشَّرقيِّ ضدَّ الفراعنة وملوك اليونان القادمين من الغرب والشِّمال االغربيِّ والجنوب الغربيِّ، وحين كانت تقوى شوكة الفرس أو الأكديِّين خضعت المدينة لسلطتهم، وحين قويت شوكة الفراعنة أو اليونانيِّين حكموا هذه المدينة؛ لذلك اعتاد أهل هذه المدينة على عدم الوقوف في وجه العاصفة؛ فمن ينتصر بالحرب سيعلن له الولاءَ عقلاءُ المدينة وتجَّارُها؛ إذ لا يمكن بتقديرهم لمدينة مثل حلب أن تُغيِّر المعادلة وموازين القوى العالميَّة، والقائد الَّذي سيطر على مدن الثُّغور المشرقيَّة كلِّها لن تكسره مدينة حلب، ولن يتحمَّل عساكرها وتجَّارها ومثقَّفوها وكتَّابها تكاليف مثل هذه المواجهة الخاسرة غالبًا؛ وهذا ما يفسِّرمقولة: (حلب مع من غلب)، الَّتي ينطلق منها كثير من الباحثين عند دراستهم أيَّ ظاهرة تاريخيَّة أو اجتماعيَّة أو أنثروبولوجيَّة في حلب، وتثبت أحداث التَّاريخ أنَّ ملوك إيبلا الأموريِّين الأوائل حكموا حلب ثمَّ تناوب على حكم هذه المدينة كلٌّ من الفرس واليونانيِّين والأكديِّين والفراعنة وحثيِّي الأناضول والرُّوم البيزنطيِّين، ثمَّ فتحها العرب المسلمون، وحكمها الحمدانيُّون والسَّلاجقة والزِّنكيُّون والمغول والتَّتار والمماليك والعثمانيُّون حتَّى ظهرت خارطة سوريا الحديثة بعد سقوط الدَّولة العثمانيَّة في نهاية الحرب العالميَّة الأولى 1918، وظلَّ كثير من سكَّان حلب يسخرون بكلِّ حكم آفل، ويرحِّبون بالقادمين الجدد، ويهلِّلون لهم، ويتجنَّبون عواصف المجابهات والمواجهات، ويمشي أغلبهم بجوار الحائط الحائط، ولا يطلب شيئًا غير الأمن والأمان والسُّترة.

صناعة الشَّبِّيح الثَّقافيِّ في حلب

أثَّرت التَّحوُّلات السِّياسيَّة الكثيرة وما رافقها من تبدُّلات ثقافيَّة متعاقبة في سيكولوجيَّة سكَّان حلب لا سيَّما كتَّابها ومثقَّفيها ورجال الدِّين فيها؛ فصار الانحناء للعاصفة تجنُّبًا لفواتير مجابهتها الباهظة شعار كلِّ مرحلة؛ ولا شكَّ أنَّ تجنُّب مواجهة الأنظمة الاستبداديَّة يأتي في مقدِّمة أولويَّات الحلبيِّين، وهم العارفون أنَّ نظام البعث الانقلابيَّ وصل إلى الحكم بانقلاب عسكريٍّ سنة 1963، وأوصل حافظ الأسد إلى الحكم بانقلاب عسكريٍّ آخر سنة 1970، وقد أدرك حافظ الأسد منذ وصوله دور الجامعات في صناعة الأيدولوجيا الثَّقافية الموالية له؛ فزار مدينته (مدينة اللَّاذقيَّة) بعد انقلابه بقليل؛ وأمر ببناء جامعة فيها عندما شغل بنفسه موقع كلٍّ من رئيس الحكومة ووزير الدِّفاع ورئيس الدَّولة؛ ووضع حافظ الأسد حجر الأساس لصناعة الأيدولوجيا الثَّقافيَّة الموالية له من خلال صناعة (شبِّيحته المثقَّفين) خوفًا من أيِّ مواجهة محتملة مع المثقَّفين الحقيقيِّين في مدينة دمشق وجامعتها؛ وهكذا فتح حافظ الأسد حربه الثَّقافيَّة على ثلاث جبهات؛ جبهة المواجهة مع علماء دمشق ومثقَّفيها من خلال تنصيب أحمد كفتارو ومن بعده محمَّد سعيد رمضان البوطيِّ قائدًا عليهم، وجبهة دعم (المثقَّفين البعثيِّين) وتصديرهم لجامعة حلب من محافظات عدَّة؛ وتحالفت مع الجبعتين السَّابقتين الجبهة النَّاشئة الثَّالثة أو (طبقة مثقَّفي) حافظ الأسد وكتَّابه المخلصين له طائفيًّا وفكريًّا بعد تخريجهم من جامعة تشرين النَّاشئة في اللَّاذقيَّة، وهذا ما يفسِّر وصول الأساتذة الجامعيِّين البعثيِّين أو المستقلِّين ظاهريًّا من إدلب وحمص وحماة والرَّقَّة ودير الزَّور وغيرها من المحافظات السُّوريَّة؛ ليقوموا بأدوارهم في نشر أيديولوجيا البعث، وبعد مدَّة وجيزة سيعلو شأن الواصلين إلى الجامعة؛ ليقودوا (مثقَّفي حلب) في الجامعة والمدينة، ويتابعوا مهمَّتهم في صناعة الأيديولوجيا البعثيَّة أو الأيديولوجيا المخلصة لحافظ الأسد وآصف شوكت وبشَّار الأسد وسائر عائلة الأسد المجرمة تحت قناع وزراة الثَّقافة والأنشطة الثَّقافيَّة حينًا وتحت أقنعة اتِّحاد الكتَّاب العرب والاتِّحاد الوطني لطلبة سوريا والجمعيَّات والجماعات الثَّقافيَّة أحيانًا أخرى.

لم يحدِّد موقع الأستاذ صانع الأيديولوجيا البعثيَّة في جامعة حلب مدى فاعليَّته، وإنَّما حدَّد فاعليَّته قربه من سلطة البعث أو مدى نشاطه في نشر هذه الأيديولوجيا البعثيَّة؛ وغالبًا ما يقوم بهذه المهمَّة رئيس فرع حزب البعث في الجامعة، أو رئيس الجامعة ذاته، وقد يقوم بهذه المهمَّة رئيس الشُّعبة أو الفرقة الحزبيَّة أو رئيس قسم اللُّغة العربيَّة أو أيَّ أستاذ محاضر مدعوم من البعث في الجامعة. وقد روَّض أساتذة جامعة حلب البعثيِّون المشرفون على شُعب حزب البعث وفرقه في الجامعة كثيرًا من زملائهم في الجامعة من خلال الوشاية بهم أو بضعف إنتاجهم أو تشبيحهم البعثيِّ؛ فكتبوا التَّقارير الكيديَّة ضدَّ بعضهم، واستدعوا بعضهم الآخر إلى (فناجين القهوة  عند بيت خالتهم)، وهدَّدوا قسمًا منهم بالفصل من العمل أو السِّجن أو الإعدام، ونفَّذوا تهديداتهم أكثر من مرَّة.

الأقزام والنِّساء في الواجهة

توضَّحت معالم هجرة الشَّباب من سوريا بسبب حرب عائلة الأسد الطَّافيَّة ضدَّهم خلال ثورة الشَّعب السُّوريِّ ضدَّ المجرم بشَّار الأسد منذ آذار 2011 حتَّى وقتنا الرَّاهن، وشكَّلت الطَّالبات الإناث الغالبيَّة العظمى في نسبة الحضور وطلبة الدِّراسات العليا، لكنَّ توصيل بعض الطَّالبات إلى مقاعد الدِّراسات العليا ظاهرة معروفة في قسم اللُّغة العربيَّة في جامعة حلب قبل الثَّورة ضدَّ المجرم بشَّار الأسد؛ وذلك لأنَّ توجيه الأستاذة الذُّكور أو الإملاء على بعضهم لصناعة أيديولوجيا البعث في محاضراتهم أصعب من توجيه الأستاذات الأكاديميَّات؛ وهذا لا يعني أنَّ الطُّلَّاب لا يقومون بهذه المهمَّة؛ فقد اختير بعض الطُّلَّاب البعثيِّين من طبقة أحمد كفتارو أو طائفة محمَّد سعيد رمضان البوطي برغم ضعفهم في مجال التَّحصيل الدِّراسيِّ، وأوفدوا خارجيًّا؛ ليتابعوا مهمَّتهم في كتابة التَّقارير ومراقبة زملائهم الموفدين إلى الخارج. وعندما عاد بعض كتَّاب التَّقارير إلى جامعة حلب كوفئوا، وعيُّنوا بسرعة فائقة في رئاسة هذا القسم العلميِّ أو ذاك برغم ضعفهم وضعف إنتاجهم الفكريِّ إلَّا في مجال كتابة التَّقارير، وبرغم وجود الأساتذة الجيِّدين في هذا القسم أو ذاك، ظلَّ معيار الكفاءة العلميَّة آخر ما يُنظر له في ظلِّ الإنشغال بدعم شبِّيحة البعث من المروِّجين للأيديولوجيا البعثيَّة في السِّرِّ أو العلن من خلال تبنِّي بعض الأقزام من الكتَّاب والكاتبات، أو توجيه الدَّارسين نحو كتابات وليد إخلاصي وحيدر حيدر وصقر عليشي ومَن دار في فلكهم. وشكَّل المساهمون بصياغة روزنامة البعث ونشاطاته واجهة التَّشبيح الثَّقافيِّ، فأغرقوا السَّاحتين الأدبيَّة والثَّقافيَّة -على مبدأ (سدِّ الفراغ)- بمحاضرات الانتماء وصناعة الهويَّة الَّتي لم تلامس جرح سوريا، ولن تلامس هويَّتها؛ أو-وبمعنى أدقّ-لن تلامس مصيبتها بعائلة الأسد المجرمة وجنودها المؤدلجين وصنَّاع الأيديولوجيا البعثيَّة أبدًا.

لذلك تجد في عناوين محاضرات هذه المرحلة إلحاحًا  دون جدوى على ثنائيَّة: الهويَّة والانتماء للبعث وتهويمًا حول الهويَّة فوق الوطنيَّة والهويَّة تحت الوطنيَّة والهويَّة بينهما، وتشاهد في الواجهة الأيديولوجيَّة أنشطة لبعض النِّساء المنقادات أو الغائبات المغيَّبات، والكاتبات (المقرَّبات) المؤدلجات من ذوات الحظوة أو صاحبات (السَّطر ونصَّ) و(آه ونصّ) و(ضفَّة ونصَّ) وطالبات الدِّراسات العليا الضَّائعات وبعض الأقزام من الأذناب أو الكتَّاب المهووسين بالظُّهور على المنابر أو المحاضرات والنَّشاطات والمسابقات الثَّقافيَّة؛ وبهذه الطَّريقة يؤدِّي كلُّ شخص في منظومة البعث دوره، ويغنِّي كلٌّ على ليله وليلاه؛ هذا وذاك وهذه وتلك وذينك وذيَّاك!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى