الفجيعة، القلق، والرعاية: دروب الوجود الأصيل في فكر هايدغر
الفجيعة ليست مجرد مصدر ألم، بل هي أيضًا منبع إمكانات. تكشف لنا عن حقيقة وجودنا

محمد صبّاح * – العربي القديم
ليس التفكير في الوجود ترفاً نظرياً، بل هو استجابة لنداء يُطلّ من صلب تجربتنا اليومية. هذا ما يكشفه هايدغر في تحليله العميق للأدوات، وخاصة في المثال الشهير للمطرقة. فحين يستخدم الحرفي مطرقته، لا يتعامل معها كجسم خارجي أو كـ«شيء» قابل للملاحظة، بل كأداة مدمجة في شبكة الممارسة. الأداة، ما دامت تعمل، تظل خفية، لا تُرى من حيث هي، بل تُستخدم. ولكن عندما تتعطل، عندما تنكسر المطرقة أو تغيب عن متناول اليد، ينقطع تدفّق الممارسة، ويظهر الشيء في ذاته لأول مرة. يصبح ما كان غير مرئيٍّ موضوعاً للتفكير.
عندما يكشف العادي عن جوهره
هذا التحول من الاستخدام إلى الانكشاف لا يعني فقط تغيراً في إدراكنا للشيء، بل يفتح إمكاناً لفهم جديد للوجود نفسه. فالكسر لا يخصّ الأداة وحدها، بل يمسّ أيضًا نمط تواجدنا في العالم. حينما تنكسر المطرقة، يتوقف الفعل، يتعطل السياق، ويُجبر الإنسان على الالتفات، لا إلى الشيء فقط، بل إلى ذاته كموجود يستخدم الأشياء. في هذه اللحظة، نغادر الأمان الهادئ للعادة، وندخل في منطقة القلق: حيث لا تعود الأشياء بديهية، ولا نعود نحن أنفسنا مجرد فاعلين مكررين في عالم محسوم المعنى.
هكذا، يكشف هايدغر من خلال تجربة يومية بسيطة أن كل ما نعتبره «عادياً» يخفي تحته طبقة أعمق من الوجود، طبقة لا تظهر إلا عندما يُصاب هذا العادي بالخلل. ومن هنا، فإن الفلسفة لا تبدأ من التأمل المجرد، بل من تصدّع التجربة، من كسر الألفة، ومن انكشاف المعنى في قلب الممارسة ذاتها.
ويُكمل هايدغر في كتابه «الوجود والزمان» هذا التحليل البسيط والعميق حول كيفية تعاملنا مع الأدوات في حياتنا اليومية. فحينما نستخدم المطرقة، لا نفكر فيها كـ«شيء» منفصل. نحن نندمج معها في فعل الطرق، نستخدمها لتحقيق هدف محدد، ولذلك تظل غائبة عن وعينا. نعيش اللحظة ونغرق في هدفنا، لكننا لا نمنح الأداة تفكيراً عميقاً. ولكن، ماذا يحدث عندما تنكسر المطرقة؟ في هذه اللحظة، تتوقف الأداة عن أداء وظيفتها المعتادة، فنراها كـ«شيء»، كـ«مادة» مادية منفصلة عن سياق استخدامها. تنكسر هنا الفكرة اليومية للوجود، ونكتشف الأداة التي كانت غائبة عن وعينا طوال الوقت.
هذه اللحظة من الانكشاف تكشف لنا حقيقة أعمق عن الوجود الإنساني. مثلما تنكسر المطرقة، تتكشف حياتنا اليومية أمام الفجيعة: موت قريب، فقدان شخص عزيز، انقطاع علاقة. هذه اللحظات ليست مجرد «تجارب مؤلمة» نمر بها، بل هي تجارب كاشفة تكشف لنا عن هشاشة الحياة وزوالها. الفجيعة تجبرنا على مواجهة محدودية وجودنا، تلك الحقيقة التي كنا نتجنب التفكير فيها.
الفجيعة كأفق للانكشاف
في فكر هايدغر، هناك تمييز أساسي بين الخوف والقلق. فبينما يرتبط الخوف بشيء محدد / مثل الخوف من المرض أو الحرب / فإن القلق لا يرتبط بشيء معين. القلق هو شعور باللاشيء، حالة من العدمية التي تتبدد فيها المعاني الثابتة للحياة. يقول هايدغر: «القلق لا يترك لنا إمكانية التعلق بأي شيء في العالم… بل يتركنا أمام العدم ذاته.»
الفجيعة تشبه القلق في عمقها. عندما نفقد شخصاً عزيزاً، لا نحزن فقط على غيابه، بل نُقتلع من عالمنا اليومي. فجأة يصبح الزمن متوقفاً، والمكان غريباً، وحتى اللغة تصبح عاجزة عن التعبير. كل شيء كان مألوفاً يصبح غريباً. في هذه اللحظة، الفجيعة لا تتعلق فقط بـ«الآخر» الذي رحل، بل تتعلق بنا نحن. نحن نُجبر على مواجهة محدودية وجودنا، وعلى إعادة التفكير في معنى الحياة والموت. تصبح الفجيعة نافذة على اللايقين والفراغ.
الرعاية: ما يجعل الوجود إنسانياً
من خلال فكر هايدغر، نكتشف أن بنية الوجود الإنساني هي الرعاية. نحن لا نعيش كأفراد منعزلين، بل في علاقات دائمة مع الآخرين. نعتني، نحب، نقلق، نساعد، نُوجَد معاً. الرعاية، بالنسبة لهايدغر، هي ما يجعلنا بشريين. ولكن الفجيعة تحدث فقط لأن هناك رعاية سابقة. لو لم تكن هناك رعاية، لما كانت الفجيعة لتحدث. فالرعاية هي النسيج الذي يربطنا بالآخرين. وعندما تتعرض هذه الرعاية للخراب أو التفكك بفعل الفجيعة، نكتشف عمق وجودنا ومحدوديته.
لكن الفجيعة أيضاً تحول مفهوم الرعاية. من كونها علاقة حية ومباشرة، تصبح الرعاية شيئاً مفقوداً، تتحول إلى حنين أو ذاكرة. كما يذكر هايدغر: «الرعاية لا تنتهي بموت الآخر، بل تتحوّل: من اهتمام مباشر إلى انشغال وجودي.»
وبهذه الطريقة، تصبح الرعاية في لحظات الفجيعة أكثر من مجرد فعل مادي. إنها تتحول إلى حالة وجودية يتردد فيها صدى الذاكرة والتفكير العميق.
الفجيعة والوجود الأصيل
في كتابه «الوجود والزمان»، يُفرّق هايدغر بين العيش في «الناس» (أي الوجود كما يعيشه الجميع، في انشغال يومي مستمر وتكرار لاواعٍ) وبين الوجود الأصيل. في الوجود الأصيل، يواجه الإنسان نفسه بمحدوديته، بإمكان موته، وبحريته في أن يكون. الوجود الأصيل يتطلب منا أن نعيش الحقيقة كما هي، وأن نكون حاضرين تماماً في لحظة حياتنا.
الفجيعة تضعنا أمام خيارين
الفجيعة تقدم لنا خيارين: إما أن نهرب إلى الانشغال اليومي، إلى الضجيج الذي يخفف من وقع الصدمة، إلى نسيان ما حصل والعودة إلى حياتنا كما كانت.
أو أن نصغي إلى النداء الوجودي، نداء القلق، نداء الحقيقة. عندها، تفتح أمامنا إمكانية العيش من جديد، ولكن بوعي أعمق وبمسؤولية أكبر. الوجود الأصيل يتطلب منا أن نعيش الحقيقة كما هي، وأن نكون حاضرين تماماً في لحظة حياتنا. كما يقول هايدغر:
«إذا قبلت الموت في حياتي واعترفت به وواجهته مباشرة، سأحرّر نفسي من قلق الموت وحقارة الحياة، وحينها فقط سأكون حراً في أن أصبح نفسي.»
المطرقة المكسورة كمرآة للذات
كما أن المطرقة لا تُدرك إلا عندما تنكسر، كذلك الذات لا تُدرك إلا عندما تواجه الفجيعة. في الفجيعة، وفي القلق، وفي لحظة الرعاية المتحوّلة، تنكشف لنا إمكانية الوجود الأصيل. الفجيعة ليست مجرد مصدر ألم، بل هي أيضًا منبع إمكانات. تكشف لنا عن حقيقة وجودنا وتدعونا إلى العيش بصدق ووعي.
لكن ماذا يحدث عندما نواجه هذه اللحظات الوجودية؟
هل نحن مستعدون حقاً لمواجهة قلقنا ووجودنا بشكل أصيل؟ هل يمكن أن نعيش الحياة بوعي عميق إذا لم نواجه ما يربطنا بالعالم وبالآخرين؟ وكيف نعيد تعريف رعايتنا للآخرين بعد أن تذوقنا مرارة الفجيعة؟ هل الفجيعة دائمًا محفز للوجود الأصيل، أم أن هناك من سيهرب منها ليغرق في حياة سطحية من جديد؟ هذه التساؤلات تثير فينا تحديات جديدة لفهم ذاتنا وحقيقة وجودنا، وتدعونا لمواصلة البحث عن معنى الحياة، والوجود، والموت.
_________________________________
* كاتب فلسطيني.