كيف بلغنا النصر وكيف تعلمنا الدروس رغم العناد الأيديولوجي؟
الثورة السورية ومحنتها القاسية صقلت المواهب الجهادية وعلمتها قواعد جديدة لم تكن قد تعلمتها من قبل
محمد زاهر حمودة – العربي القديم
بعد قرن ونيف، نلج الآن العصر الحديث بإسقاط الطاغية، على يد المتعظين من أخطائهم..
يتسائل كثر، انتصرت الثورة ضد القهر والظلم والإجرام والطائفية، لكن ماذا عن الأيديولوجية المريبة للفريق المنتصر؟!
أكتب هذه المقالة إتماماً لما كنت أتناوله في المقالات السابقة قبيل النصر عن مسألة الإيديولوجيات في سورية التي يجب أن نحسم تقييمنا لها نهائياً بعد الآن، فقد بدأنا الآن عصراً جديداً كان يجب أن ندخله قبل قرن كامل بعد الاستقلال عن العثمانيين في الحرب العالمية الأولى، أو على الأقل كان يجب أن ندخله قبل أكثر من خمسة وسبعين عاماً بعد انتهاء الانتداب الفرنسي عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية.
ما الذي كان يجري حتى وصلنا إلى هنا؟!
كان لدى العلمانيين مدرستين فقط، الأولى مما قرأوه عن الثورة الفرنسية والثانية مما فهموه من الثورة الروسية، محلياً كان لديهم إرث الثورة العربية والسورية ضد الأتراك والفرنسيين، وليس أكثر من ذلك البتة، طوال ثلاثة أرباع قرن، تكرس انطباع صحيح لدى المهتمين بشأنهم العام من الجمهور، أن النخب العلمانية المتعالية لدينا، غير معنية بإظهار أي تواضع مسؤول لتتنازل للجمهور وتجيب بدون مكابرة عن المسألة الأساسية لابتداء أي عمل سياسي في أي بلد، ألا وهي مسألة الهوية والحقوق.. من نحن في هذا البلد؟!، هل ثقافتنا محترمة؟!، ماذا نريد؟!، ماذا يحتاج عموم الناس؟!، بماذا يحلمون؟!، مم يتألمون؟!…، لم يكن هنالك شيء من ذلك يلمسه الناس لينخرطوا بعده في العمل الحزبي، لأن إهمال سؤال الهوية وعدم مراعاة تطلعات أي مجتمع هو سبب كافٍ لوحده للفشل الحتمي للعمل السياسي في أي حزب مهما كان مُنظِّره فيلسوفاً لم تأتِ البشرية بمثله، ولذلك ابتعد معظم الجمهور عن العلمانيين وعن السياسة، ليس كرهاً بالسياسة طبعاً، في المقابل اتسم العلمانيون جميعاً بعد نبذهم من أكثرية العامة بالخطاب الخشبي الناقم والنظري المتعالي، فالسياسة كالتعليم، تفشل العملية التعليمية ليس لأن كل الطلبة بليدون، بل بسبب عطب الأساتذة غالباً، وغياب وسائل الإيضاح السلسة، ذاك فضلاً عن الفشل والإنقسام الحزبي الداخلي الذي أدى في النهاية إلى سيطرة العسكر والمخابرات وإعدامهم التام للحياة السياسية كنتيجة حتمية. مع ذلك لم يرد أحد أن يفهم..
العناد السمة الوحيدة لكل الأحزاب العقائدية
نعم، منذ عقود كان العناد هو السمة الوحيدة لكل الأحزاب العقائدية العلمانية وأيضاً وكرد فعل لها الإسلامية، أن شعبنا كأي مجتمع في الدنيا، وبالذات إن كان يحمل خصوصية ثقافية وتاريخية وجغرافية، لا يمكن له أن يكون تابعاً لأي قوة خارجية غريبة، ولا لأي قوة داخلية مستبدة، بأي حجة كانت، فهو إن كان مهداً للحضارة ومنطلقاً للتاريخ ومبعثاً للأنبياء والرسالات، فمن الإستحالة تجاهل صفاته المميزة تلك بكل استخفاف وبلاهة، فكيف تسنى لتلك النخب الخرقاء أن اقتنعت بتهميش سورية وأهلها وثقافتها والمضي قدماً في احتقار الناس؟!، إنه لأمر عجيب..
قمة الحماقة كانت في تخيل أن العلمانية المتطرفة ستجدي نفعاً مع سورية والسوريين المؤمنين أصحاب أقدم دور عبادة في التاريخ، المؤمنون بالإنجيل الآرامي والقرآن العربي، وأن صناعة الفراعنة وتأليه الظالمين ونحت الأصنام سيجدي مع من حارب الوثنية والفساد والعبودية لغير الله في رسالة أديانه السماوية، ألم يعلم النخبيون المتفرّنسون والمتروّسون عن إنتماء معظم الأنبياء لجغرافيتنا، عيسى سوري، ليس فرنسي ولا روسي، فكيف اقتنعت أنت أيها المتعجرف أنه سيمكنك قهر شعب يؤمن بجميع أنبيائه؟!
الاحتماء بالأقليات زهداً بالأكثرية..
أدرك معظم العلمانيين أن معركتهم في إقناع الأكثرية خاسرة، وبدل أن يتواضعوا للحقائق ويجرون المراجعات النقدية لأفكارهم وسلوكهم والتحلّي بالروح الرياضية كما يقال، زهدوا بفكرة الإنتخابات وحكم الأكثرية وازداد الحقد أكثر، ومضوا حتى النهاية في حربهم ضد الديموقراطية، وتخندقوا خلف الأقليات، ليس كلها، انتقوا منها من هو أشد جنوناً وتهوراً وتحصنوا خلفه، ليصنع لهم فرقة حكم مشؤومة تكون بيدق معركتهم الإيديولوجية الخاسرة لا محالة مهما طال الزمن..
وهم بذلك مجرمون حتى بحق تلك الأقلية، التي لم يرد غالبية أبنائها الحالمون بعصر جديد ينصفهم بعد تهميش العصور السالفة، إلا الإنتماء الثقافي والوطني نفسه الذي أرادته الأكثرية وطي صفحات الصراع والفتن المظلمة في التاريخ، ومن هنا كان رفضهم لخطاب التكفير المستورد من الماضي تعبيراً واضحاً لرغبتهم في الإنتماء الوطني الأصيل والوحدة الجامعة، لكن من كان يعتم على ذلك التوق ويكتمه هم النخب المؤدلجة، العلمانية أولاً، والإسلامية لاحقاً..
نعم، وقع الإسلاميون في الفخ، وكيف توقعتم ألا يقعوا؟!، والمكائد الشريرة كبيرة، وذخيرة المقاومة محدودة، وثقافة الفريق شحيحة، وقادة الفريق غير مدربين فضلاً عن جنودهم الأغرار المندفعين، فريقٌ لا يمتلك اللياقة اللازمة ولا الخطط الذكية ولا التجربة العملية التي مُحالٌ أن يكتسبها أحد إلا بالتجربة وحدها، فكيف له الفوز أو التعادل في تلك المباراة التي فرضها الخصم المباغت، محملاً بأحقاد تكفي لإحراق البلد وأهله لسنوات طوال لاحقة، فضلاً عمن كان يدعمه من الخارج بعقله الإستعماري وكرهه الحضاري.
لماذا تطرفوا ثم لماذا بايع بعضهم القاعدة؟!
العداء للإستعمار والعداء للغرب تحديداً ليس خاصاً بالثقافة إسلامية، بل هي ثقافة معظم الأمم المهمشة في العالم، فالرغبة بعدم الإستكانة لهيمنة القوى العظمى التي تحتقر الشعوب الأخرى وتنهب خيراتها وتتلاعب بأنظمة الحكم فيها تدفع الكثير من الناس لمباركة أي رد فعل مهما كان عدمياً وغير مجدٍ كرد فعل لا يقارن مع ما فعله الإستعمار في العالم كله ولا يزال، وليوصم بالإرهاب، فالغريق لا يخشى من البلل، واليأس وانعدام الأفق يوصل إلى ما لا يحمد عقباه، حتماً لم يكن قراراً عقلانياً ولا حكيماً بل أساء للثقافة وجلب الوبال على البلاد والعباد، ولكن، هل يمكن أن تدين التداعيات وتنسى المسبب؟!، لماذا أصرت القوى الإستعمارية على دعم المستبدين حين ثارت الشعوب عليهم مطالبةً بالحرية والديمقراطية وهي التي كانت قد أسقطت بعضهم وغزت بلدانهم بحجة نشر الديمقراطية حين لم يكن هنالك ثورات عليهم كما في العراق وأفغانستان؟!، لا بل لماذا كانت تدعم الإنقلابات العسكرية قبل ذلك أساساً؟!، لماذا لم يسمح أحد بأن تنعم تلك البلدان بالديموقراطية منذ نهاية مرحلة الإستعمار في منتصف القرن المنصرم؟!، أم أن الديمقراطية والإستقلال التي تجوز للفرنسيين لا تجوز للجزائريين؟!، هنا كان مربط الفرس ومكمن الداء..
الآن، نستطيع أن نكتب وبكل أريحية تأريخاً للمرحلة، بأن ثورة الحرية والكرامة في سورية، قد عالجت التطرف ووجدت له دواءً، فاندلاع الثورات الشعبية العربية في الألفين وأحد عشر قد أعطى روحاً جديدة للنضال ضد الظلم، ثوراتٌ فتحت العقل وقدمت أشكالاً جديدة للنضال والتحرر، أعطت حلولاً أكثر ذكاءً وفاعلية من خلال النضال السلمي أولاً لاكتساب حرية الرأي وحق التظاهر السلمي، وبأنك حين تتوجه إلى المستبد الفاسد المدعوم والذي ليس سوى أداة استعمارية فإنك ستضرب بالضرورة من يدعمه من القوى الكبرى دون أي صدام مباشر معها، وأنك حين تنتصر في معركة التنمية فأنت تنتصر على احتكار القوى العظمى للتفوق الحضاري المزعوم الذي يعتمد في معظمه على ثروات البلاد الأخرى وهجرة عقولها المبدعة واليد العاملة الرخيصة الهاربة من أوطانها الفاشلة، هذه ثقافة سياسية جديدة مفعمة بالحنكة والإيجابية وتعلم الدروس بعد مرحلة اليأس والعدمية والمراهقة النضالية، رافق ذلك، ضغط شعبي كبير للتخلي عن النظريات الفقهية القديمة التي تقف ضد الحقوق والحريات، وأن التراث الفقهي هو في النهاية اجتهاد يؤخذ منه ويرد، فإذا كنت في معركة حضارية فينبغي ألا تعطي خصمك أوراقاً مجانية تُدينك وهو المتفوق عليك أساساً بكل أسباب القوة والجبروت، وهنا كان دور الدراسات الإسلامية المعاصرة والمستنيرة حيوياً لمواجهة فتاوى الفقه القديم الموروث من العصر العباسي وما تلاه.
صقل المواهب الجهادية على قواعد جديدة
في المحصلة، نشعر جميعاً أن الثورة السورية العظيمة ومحنتها القاسية قد صقلت المواهب الجهادية وعلمتها قواعد جديدة لم تكن قد تعلمتها من قبل في معارك سابقة قبل سورية، نعم، إنها الثورة السورية المجيدة بأرواح شهدائها النبلاء وضحاياها الأبرياء وتكالب كل قوى الشر الدولية لتحطيمها، هي من أجبرت كل من انخرط بها لنصرتها وتحرير أهلها على المراجعة العميقة وتعلم الدروس، أقله في الوجدان وفي الممارسة والخطاب اللين، حتى وإن لم يصبح ذلك منهجاً مستداماً مدوناً على الورق بعد في وثائق ثابتة ودستورٍ وقانون حاكم، لكن ما حصل مبشر للغاية ويبنى عليه، فمن أعطى الوعود يجب ألا ينكث بوعوده لاحقاً، وفي النهاية، الكتابة ليست عملهم، كتابة الدستور والقانون وتأريخ ما جرى وشرحه وتفسيره هو عمل الكفاءات السورية المختصة والمؤمنة بأهداف الثورة إن تخلصت من إرث الإيديولوجية العلمانية المتطرف والثقيل، سواء أكان منبته شيوعي أو قومي سوري أو قومي عربي، فهذه ثورة جديدة عظيمة وطنية منتصرة وفي قرن جديد سيتباهى الأحرار بمجدها على مستوى العالم بأسره، فلنزهد بالثورة الفرنسية والروسية وباقي الثورات الآن، ولنفتخر بثورتنا العظيمة هذه، ولنعمل على حفظها وحماية مكتسابتها وتمجيدها وتوثيق سيرتها بموضوعية وانحياز للمبادئ فقط، كي تدوم وتتباهى بها أجيالنا اللاحقة، بأننا يا أبنائنا وأحفادنا كنا قد تعلمنا الدروس بعد المحن والأخطاء، وولجنا باب الحضارة لنورثكم وطناً بديعاً حراً جميلاً، ليس من باب التطرف والإلغاء، بل من باب الثورة السورية الرائعة المجيدة بقيمها وأهدافها وتضحية وعذابات جميع أبنائها الحالمين الرائعين، فلتحيا سورية العظيمة بحب وسلام، بوركت الشام، وبورك كل حر وشريف فيكي يا شام..
ولقد انتصرت الثورة، وعملنا القادم فيها هو أن نحصنها ونحميها لتدوم، وأن نعارض كل فعل سلبي سيظهر من أي طرف كان، بتوفيق الله وهمة المخلصين العالية.
انتهت صفحة بائدة، وبدأت صفحة واعدة.