العربي الآن

مشاهدات في رحيل الشَّيخ نوَّاف الأحمد الصُّباح: سيرة عطِرة لأُسرة حاكمة وبلدٍ جميل

أُعاني في الوقتِ الرَّاهن من وعكة صحِّيَّة ألمَّت بي، وترافقتْ هذه الوعكة الصِّحِّيَّة مع أزمة نفسيَّة كبيرة هزَّتني، وما زالتُ أعاني منها حتَّى الآن، ويعرف ذلك أصدقائي كلُّهم في جامعة ماردين، فقد فقدتْ الكويتُ، الَّتي عملتُ فيها بين (2011-2017) منذُ يومين أميرَها الرَّاحل الشَّيخ (نوَّاف الأحمد الجابر الصُّباح) في (16 كانون الأوَّل ديسمبر 2023)، وعاش الرَّاحل الكبير بين (1937-2023)؛ لذلك أنقلُ في مستهلِّ هذا المقال أحرَّ التَّعازي لأمراء الكويتِ وشيوخها من آل الصُّباح الكِرام، وأكتبُ ههنا، وأنا مدركٌ جلالَ أيَّامِ العزاء ومهابتها وآلامها، الَّتي تخفُّ بمواساة الصَّديقِ صديقَه والمرؤوسِ رئيسَه والوافدِ موفِدَهُ والضَّيفِ مضيفَه؛ وأنا الَّذي عملتُ في الكويت، وأكلتُ مع أهلي وأصدقائي فيها من خُبزِهم وملحِهم، فكيف لا أحزنُ، ولا أُعزِّي؟! لا سيَّما أنَّ الرَّاحل الكبير كان أميرَ البلاد المفدَّى وشيخها وحاكمها، وقد جمعتني أيَّامُ عملي في (رئاسة الأندية الثَّقافيَّة المسائيَّة) في (وزارة التَّربية الكويتيَّة) بالأمِّ المثاليَّة الشَّيخة المثقَّفة الرَّاحلة (فريحة الأحمد الجابر الصُّباح) (1944-2018)، والسَّيِّدة الرَّاقية (منى سليمان الفريح)؛ لذلك أعزِّي شيوخَ الكويت وأمراءها كلَّهم، كما أُعزِّي أخوتي وأصدقائي من شعبها الكريم المعطاء تعزيَّة مَن عاشَرَ وخَبِرَ؛ لا تعزيةَ مَن تزلَّفَ، وتملَّق، تعزيةَ من يشهدُ شهادةَ حقٍّ بعد مغادرة الكويت وانتهاء أيَّامَ عملي فيها منذ زمن طويل.

 وقد جمعتني بعضُ الصُّدَفِ والمناسبات خلال أيَّام العمل في المؤسَّسات الثَّقافيَّة والإعلاميَّة، الَّتي يملكها الأستاذ الرَّاحل عبد العزيز سعود البابطين (1936-2023) بوزير الإعلام الكويتيِّ السَّابق الشَّيخ (سلمان صباح السَّالم الحمود الصُّباح)، وكذلك تزامن رحيلُ أمير الكويت (نوَّاف الأحمد الجابر الصُّباح) قبل يومين مع رحيل الشَّاعر والصَّديق والعمِّ (عبد العزيز سعود البابطين) قبل ثلاثة أيَّام، ورحلَ قبل سبعة أيَّام في الكويت أيضًا أستاذي وصديقي وزميلي الخلوق الدُّكتور محمَّد عبد القادر أشقر، وقد عملنا في (كلِّيَّة التَّربية الأساسيَّة) في منطقة العارضيَّة في الكويت بين (2016-2017)؛ لهذا كلِّه يمكنُ أن يتفهَّم القارئ الكريم معنى الكآبة، الَّتي أُعانيها بعد فَقْدِ مجموعة من الأصدقاء الَّذين شاركتُهم الخبزَ والملحَ والزَّادَ والذِّكرياتِ الجميلةَ هناك، ومع هذا، وفي ظلِّ الظُّروف الَّتي أُعانيها، ألا أسلمُ في الوقت الرَّاهنِ من غدرِ الوشاة وألسنتهم النَّتنة بدلَ مشاركتي أحزاني بفقدِ أصدقائي الكِرام المذكورين.

كاتب المقال بجوار الشيخة الراحلة فريحة الأحمد الجابر الصباح

عاداتٌ عربيَّةٌ أصيلةٌ ومشاهداتُ وافد:

عملتُ في الكويتِ في أربعة مواقع رئيسة، وزاملتُ فيها مجموعة كبيرة من الشُّرفاء، وعايشتُ عادات أهلنا وأعرافهم وتقاليدهم النَّبيلة في كلٍّ من (معهد عبد الرَّحمن السُّميط الدِّينيِّ)، وكان لي وقفات مشرقة مع كلٍّ من الأستاذ أنور العبد الغفور مدير إدارة التَّعليم الدِّينيِّ في الكويت العاصمة، والدُّكتور حسين الحاتم مدير معهد عبد الرَّحمن السُّميط الدِّينيِّ سابقًا، والأستاذ سلطان الزُّعبي مدير المعهد في الوقت الحالي، ولا أنسى أبدًا رؤساء العمل وزملائي وطُلَّابي، ولِي في المعهد المذكور ذكريات جميلة وكلمات إذاعة صباحيَّة، ودفءٌ دفينٌ ما زلتُ أشعر بحلوته في أيَّام الشِّتاء حين كنَّا نجلس بجوار النَّار في ساحة المعهد وحديقته الخلفيَّة، وطالما شربتُ قهوة أخوتي الكويتيِّين العربيَّة الأصيلة، وكم تشاركنا على موائد الفطور! وكم شبَّتْ هناك أيَّام الشِّتاء نار البدو! وكم هزَّتني كلمات البدويِّ الأصيل؛ وهو يقول لك: (إكْدَعْ)، و(انطح فالك)؛ بمعنى تفضَّل اشرب قهوتك، وكُلْ مِن تَمر أهلِكَ؛ فأنتَ في ضيافتِهم، وفي مضايف أهلنا البدو لا يذلُّ عزيز.

مشاهداتُ الوافدِ السُّوريِّ حول سيكولوجيَّة الطَّالب وعادات البدو الأصيلة:

والأطرفُ من ذلك كلِّه امتزاجُ سيكولوجيَّة الطَّالب، الَّذي يريد أن يبني صداقة جميلة مع أستاذه حين يسأله عن واجباته الَّتي نسيَ كتابتَها؛ فيقول لك: (تَكْفَى)، و(تَكْفى) عند البدو (تهزُّ الرَّجاجيل)؛ وعند سماع هذه الكلمة كنتُ أشعرُ حقَّة (بهزَّة) و(رعدة) ربَّما شعر بها كثير من أخوتي المصريِّين والسُّوريِّين وغيرهم ممَّن عمل في الخليج العربيِّ، وعاشر فيه هذا النَّموذج الأصيل من البشر؛ وبعد سماعي كلمة (تَكفى) كنتُ أنظر في عيون الطَّالب؛ فيقول لي: (خَشْمَك)! أي اسمح لأنفي أن يُلامس أنفك؛ وهذه طريقة البدو في التَّحيَّة والسَّلام، ولا شكَّ أنَّ طبيعة العلاقة بين الشَّخصين قبل السَّلام ستختلفُ تمامًا عن طبيعتها بعد السَّلام، وسُرعانَ ما يُصبحُ الأستاذ صديقًا لتلميذه بعد سماعه (تَكْفَى) وبعد السَّلام البدويِّ عند سماع كلمة (خَشْمَك)، ولا يقفُ الأمر عند هذا الحدِّ فحسب، بل بعد وقتٍ قصير من العمل في الكويتِ-إذا كنتَ ناجحًا في مهنتك-تتشكَّل لديك صداقات كثيرة مع رؤساء العمل وزملائك فيه؛ ووصلتُ إلى هذه القناعة نتيجة خبرتي بعد العمل مع أُناسٍ طيِّبين في كلٍّ من (معهد عبد الرَّحمن السُّميط) و(مركز تقويم وتعليم الطِّفل) و(كلِّيَّة التَّربية الأساسيَّة) و(مؤسَّسات الرَّاحل العزيز عبد العزيز سعود البابطين الثَّقافيَّة).

الشَّعبُ الكويتيُّ شعبٌ مثقَّفٌ ومِعطاء:

عاشرتُ أطياف المجتمع الكويتيِّ كلِّها، ولم أجد إلَّا شعبًا طيِّبًا كريمًا مواطنينَ وشيوخًا وأُمراء، وكان لي مع الوسط الثَّقافيَّ هناك صولات وجولات، عرفتُ في كلٍّ من رابطة الأدباء الكويتيَّة والمجلس الوطنيِّ للثَّقافة والفنون ومجلَّة العربيِّ ومجلَّة الكويت ومجلَّة البيان نُخبةً مِن شعراء الكويت وأُدبائها ومفكِّريها ومثقِّفيها، وشاركتُ بأمسياتها الشِّعريَّة وأنشطتها الثَّقافيَّة، ويضيقُ المجال عن ذكر أسماء أصدقائي من مثقِّفيها ومفكِّريها، وههنا أشعر بإعجاب كبير وأنا أتذكَّر الآن بعض جلساتي وذلك الاحترامَ والتَّقدير الكبير بين مثقّفي الكويت، وهم يتبادلون الآراء الثَّقافيَّة والفكريَّة المتباعدة بوعيٍ كبير، ويحترمون الرَّأي والرَّأي الآخر في ديوانيَّة رابطة الأدباء الكويتيِّين في منطقة العدليَّة؛ فيجلس المثقَّف العروبيُّ بجوار مثقَّفٍ سلفيٍّ، ويسمع المفكِّرُ اللِّيبراليُّ آراء العلمانيَّ والمستقلَّ والمتحزِّبَ والمتديِّن والمتحرِّر والمحافظ والتَّقليديَّ والمجدَّد، ويصغي محبُّ الشِّعر الكلاسيكيِّ لقصيدة كتبها شاعر شابٌّ من محبِّي شعر التَّفعيلة، وتنتهي سهرة الأدب بعبارات الودِّ وضَرْبِ موعدٍ جديد أو خطَّة مستقبليَّة لنشاط قادم في رابطة الأدباء أو المجلس الوطنيِّ للثَّقافة والفنون أو مسرح الدِّسمة أو معرض الكتاب؛ فما أحلاها من حرِّيَّة فكريَّة! وما أجملها ذكريات وأنشطة ثقافيَّة؛ قد تجعل المرء يسلو قليلًا عن مرارة الفقد، ويتفاءل المتابع لأنَّ الكويت تسير على السِّكَّة الصَّحيحة بهمَّة شعبها ومثقَّفيها وحكمة شيوخها وأمرائها.

موقف مع الشَّيخ عثمان الخميس:

خرجتُ من درسي يومًا ما، وذهبتُ إلى مكتبي في قسم اللُّغة العربيَّة؛ فوجدتُ في القسم شيخًا لطيفًا على مهابته، وكان يتبادل الحديث مع رئيس قسمنا الدُّكتور عبد الله الجاموس؛ فسلَّمتُ على الشَّيخ الَّذي لم أَكُن أعرِفُه؛ فردَّ السَّلام بسلامٍ أجَملَ منه؛ ثمَّ أشار رئيس قسمِنا نحوي، وقال للشَّيخ: هذا هو الدُّكتور مهنَّا بلال الرَّشيد؛ إنَّه أستاذُ ابنِكَ؛ فبادرَ الشَّيخُ بتحيَّتي وشُكري، وسألني عن مستوى ابنه، وكان ابنه في الصَّفِّ غاية في النَّشاط والثَّقافة والأدب، وكنتُ أدركُ تمامًا أنَّ أُسرة عظيمة تشرف على تنشئة ذلك الطَّالب؛ فقلتُ لوالده: ابنُكَ ممتاز؛ فقال الشَّيخ بلُطفٍ كبير: طُقَّه أستاذ! أي يمكنكُ أن تصفعه أو تضربه؛ و(أنا طبعًا مستحيلٌ أن أفعل ذلك مع طالب صغير؛ فكيف أفعله مع شابٍّ نشيطٍ مهذَّب)؛ ثمَّ تابع الشَّيخُ وليُّ أمرِ الطَّالب قائلًا: أقول حقًّا؛ إذا قصَّر ولدي في واجباته يمكنك أن تضربه، فاللَّحمُ لكم، والعظمُ لي؛ ثمَّ عرَّفني رئيس قسمنا الدُّكتور الشَّيخ عبد الله الجاموس بوليِّ أمرِ الطَّالب، وقال: هذا هو الشَّيخ عثمان الخميس؛ فوقفتُ من مهابته، وربَّما لا أنسى هذا الموقفُ ما حييت.

في الفرق في المعاملة وتَشَابُه الأسماء بين الكويت وسوريا:

كنتُ أسير بين الطُّلَّاب في ساحة معهد عبد الرَّحمن السَّميط الدِّينيِّ بعد الإذاعة الصَّباحيَّة يومًا من الأيَّام؛ فالتقيتُ بطالبٍ من طلَّاب الصَّفِّ الثَّاني عشر، وهو يستعدُّ للانتقال من مرحلة التَّعليم الثَّانويِّ إلى مرحلة التَّعليم الجامعيِّ؛ فسلَّم عليَّ، وقال: سنلتقي في كلِّيَّة التَّربية الأساسيَّة في العام القادم؛ فقلتُ له: مَنْ أنتَ؟ وما اسمكَ؟ فقال: (أَفَّا عليك أُستاذ!)، وفي هذه العبارة عِتابٌ كويتيٌّ لطيف؛ أَفَّا عليك أُستاذ! ما تعرف اسمي؟ أنا سَميُّكُ مهنَّا؛ أي اسمي على اسمك أو اسمي يشابه اسمك؛ فقلت له: أهلًا وسهلًا بك، ولا أعرفُ لماذا تذكَّرتُ في وقتها جلال كلمة (الله) واسمَه الأعظم القادر على محقِ كلِّ ظالم حقير، ومنافقٍ واشٍ كذَّاب، فقد قال المولى عزَّ وجلَّ في سورة مريم: (ربُّ السَّموات والأرضِ وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادتِه هل تعلم له سميًّا) [مريم 65]. وبعد أيَّام تواجهتُ مع الطَّالب مرَّة أخرى في ساحة المعهد، وإذا به قد أحضر لي هديَّة جميلة؛ كانت (سُبْحَة) أو (مسبحة)؛ لحجارتها رائحة جميلة، وتنتهي بقطعة معدنيَّة حَفَرَ عليها اسمي؛ كانت هديَّة عزيزة جدًّا على قلبي، لكنَّ جنود المجرم بشَّار الأسد سرقوها عندما اقتحموا ريف معرَّة النُّعمان الشَّرقيَّ، وعفَّشوا أو سَرقوا عَفْشَ بيتي في تَلْدَبِس؛ وهكذا انتهت قصَّة تشابه اسمي مع اسم أحد طُلَّابي في الكويت؛ لذلكَ ما زلتُ أحنُّ إلى الكويت وشعبها الطَّيِّب، وما زلتُ وسأبقى أقدِّرُ أُمرائها الأجلَّاء، والحقُّ أنا الآن أحلم بأن يُبادر أحد الأصدقاء فيها إلى دعوتي مجدًّدًا للعمل هناك في واحدة من مؤسَّسات الطَّيِّيبين هناك؛ لأنَّني أُعاني من بَعضِ الوُشاة الكذَّابين الآن، ونفسي الأبيَّة لا تسمح لي بالنُّزول إلى دَرَكاتِ أفعالهم الدَّنيئة؛ لذلك أحلم أن يقرأ ما بين هذه السُّطور شخصٌ نبيل، ويبادر بدعوتي إلى العمل في بيئة نقيَّة ونظيفة هناك، لا سيَّما أنَّني أتذكَّر صورة لأمراء البلاد الرَّاحلين-رحمهم الله-وهم يلتقون في نهاية كلِّ عام بجميع الأساتذة المتميِّزين في الكويت، ويكرِّمونهم، ويتصوَّرون معهم، ويصرفون لهم ولجميع الأساتذة المتميِّزين مثلَهم مكافآت ماليَّة على أعمالهم الممتازة.

أمَّا قصَّة تشابُهِ الأسماء في مطار دمشق الدَّوليِّ فقد حدثتْ مع صديق لي؛ كان اسمه غريبًا إلى حدٍّ بعيد؛ ربَّما كان اسمه (حابس)، فقد عمل سنة كاملة في المملكة العربيَّة السّعوديَّة، وعاد إلى مطار دِمشق الدَّوليّ، وكان (حابس) يعدُّ الدَّقائق والسَّاعات كي يصل إلى أهله بعد غُربة طويلة، لكنَّ رجال الأمن أوقفوه على ذمَّة التَّحقيق هناك، ولم يُفرجوا عنه إلَّا بعد أن قدَّم لهم رشوة كبيرة، تجاوزتْ نصفَ ما جناه من عملِ سنةٍ كاملة في السُّعوديَّة، وعندما أفرجوا عنه قال له الضَّابط المرتشي الحقير: لا تؤاخذنا لقد قمنا بسجنك واستجوابك بسبب الغلط، وقد أدركنا الآن أنَّ القضيَّة كانت مجرَّد تشابه أسماء؛ فتمتمَ صديقي حانقًا، وقال: أقسمُ لكم! لا يوجد أيُّ شخص آخر على سطح الكرة الأرضيَّة اسمه مثل اسمي (حابس)؛ لكنَّه الفساد وحبُّ الرَّشوة؛ وأنا حُبِستُ بسبب الفساد وحبِّ الرَّشوة ولأنَّه لكلِّ امرئ من اسمه نصيب ما عدا جدِّي أو زميلي (رشيد).

أمَّا الآن، وإن رحلَ الشَّيخ نوَّاف الصُّباح رحمه الله؛ فإنَّ صباح الكويتِ ما زال مشرقًا، وسيرتفع مشعلُ نورِها مع أمير البلاد المفدَّى الجديد الشَّيخ (مشعل الأحمد الجابر الصُّباح)، وههنا، وأنا أبارك لأهلي وأخوتي في الكويت اختياراتهم، أدعو الله أن يوفِّق شيخهم وأميرهم الجديد لما فيه رُقيُّ الكويت وتقدُّمها، وآمل لأهلي وأخوتي في الكويت أن يختاروا وليَ عهدٍ جديد لهذه البقعة الجميلة والعزيزة على قلبي وقلوب الشَّرفاء في هذا العالم الكبير.

زر الذهاب إلى الأعلى