أرشيف المجلة الشهرية

معارك أورينت: عنفوان الثورة والبحث عن الوطن

أنس محمد – العربي القديم

لا يختلف اثنان على دور قناة “أورينت” في وجدان السوريين، وأدبيات الثورة السورية، فقد نالت شرف أول تغطية إعلامية للثورة السورية، لم يسبقها إلى ذلك أي قناة محلية أو عربية، وتحولت في البدايات إلى المصدر الأول والأهم للثورة السورية.

بدأت قناة “أورينت” بثها في شباط ٢٠٠٩ من الإمارات كمحطة متنوعة وموجهة إلى السوريين، لكن أحداث ما يُسمى ب “الربيع العربي” غيّر توجه القناة، وخصوصاً انتقال الحراك الشعبي العربي إلى الداخل السوري.

ولأن الإمارات عارضت منذ البداية “الربيع العربي”، كان وجود قناة “أورينت” فيها رهن التناقضات السياسية العربية والخليجية بالدرجة الأولى، لكن القناة صمدت واستمرت في خطها قرابة عشر سنوات، إلى أن أُعلن رسمياً في ٢٠٢٠ عن توقف بثها الفضائي، ونقل كامل أنشطتها إلى تركيا (إسطنبول).

يبدو أن مالك القناة “غسان عبود” كونه يعمل بالتجارة، لم يدرس طبيعة الموقف السياسي التركي جيداً، أو أنه لم يملك خيارات أخرى؛ لأن ما عانته القناة من ضغوط بعد فترة وجيزة كان أكبر وأخطر، مما سبق ويوازي ما عانته خلال مسيرتها كاملة، فمن اعتقال ماجد شمعة، إلى اعتقال قصي عمامة، وأحمد ريحاوي، وعلاء فرحات بعد المقابلة الشهيرة مع محلل تركي الذي اشتهر بعبارة “من أنتم”.

هذه العبارة رغم أنها تثير السخرية لدى الكثيرين، والتي اشتهرت من فم “معمر القذافي”، إلا أنها تعبر عن حقيقة السياسة التركية حيال أي نافذة إعلامية تعمل داخل أراضيها، فلم يكن التضييق على “أورينت” وحدها، أو بمعنى آخر لم يكن نتيجة انفراد التركي، ولعبه دور الوصي على المعارضة السورية، بل كان نتيجة انعطاف سياسي بارز في السياسة التركية الخارجية والعربية بشكل خاص، وقد سبق إغلاق “أورينت” توجيه رسائل أمنية واستخباراتية إلى إعلام الإخوان المسلمين المصري في تركيا، وتوقيف برنامج “معتز مطر” الشهير، ثم لجوء الأخير إلى بريطانيا بعد التضييق عليه في تركيا.

وتضمنت تلك الرسائل الأمنية عبارات توجيه مخففة ك “ضبط السياسة التحريرية”، وغيرها من العبارات التي تعود بنا إلى العبارة الشهيرة “من أنتم”.

حاولت قناة “أورينت” رفع سقف الحرية في سياساتها الإعلامية والتحريرية، وسلطت الضوء على العنصرية الصاعدة في تركيا، وسلوك بعض عناصر “الجندرما” على الحدود مع سوريا، وغيرها من القضايا الساخنة، ما اعتبره الكثير من الأتراك “نكراناً للمعروف” على مبدأ: (أنت لاجئ على أرضي، فيجب أن تتغاضى عن أي سلوك سلبي تتعرض له أو تسمع عنه)، وهذا المبدأ بحالة أو بأخرى يجعل اللاجئ رهينة المجتمع المضيف وسلوكياته، ويجعله أقرب للعبودية من الضيف، لكن هذا النهج لم يصدر بشكل مفاجئ، بل كان حصيلة مواقف سياسية ظهرت على لسان المسؤولين الأتراك في مناسبات كثيرة، وقد تلقفها الكثير من الإعلاميين، وتماهوا معها بطريقة أو بأخرى.

 إلا أن ما سبق، لا يبرر واقعياً أبداً لإدارة القناة “المعارضة” العمل خارج بلادها، بدون  ضوابط، أو سياسات تحريرية إن صح التعبير، فلا يوجد دولة تفتح ذراعيها لإعلام خارجي غير منضبط، أو شريك في تأجيج النسيج الاجتماعي العام داخل تلك الدولة، فما جرى من أحداث ما بات يُعرف ب (قضية هاشتاج الموز)، ونشر الإعلامي الشهير “ماجد شمعة” بعض الإيحاءات عن تلك القضية، يعبر عن خلل في تحمل المسؤولية، والتعاطي مع تلك القضية،  فيجب على الإعلامي وكادر القناة الحذر، وتوظيف الجهود الحثيثة للحيلولة دون الوقوع في مصيدة موجة العنصرية التي تعالت، وتحولت إلى قضية رأي عام، فكونك إعلامياً لا يعني أن تفسح المجال للفتنة أن تؤثر عليك، وعلى مشروعك وأبناء شعبك، مع كامل الاحترام لماجد شمعة ورفاقه.

ولهذا وعطفاً على ما سبق، فإننا لا نزال نرى قنوات عربية معارضة، تبث من إسطنبول منذ سنوات؛ لأن خطها التحريري تأقلم مع الخط التحريري التركي، لا بل وبعض تلك القنوات يدعمه.

وهنا يبقى موضوع دعم السياسة العامة للدولة موضوع مغالاة، لا تطالب به هذه المحطة أو تلك، أما بشأن دراسة طبيعة التوجه العام، فذلك ضروري ومطلوب مهنياً في سبيل دعم الشعب السوري الذي يحتاج إلى تلك المنابر الإعلامية في معركته المفتوحة مع النظام السوري.

وهذه ليست سياسة إعلامية تركية، بل سياسة إعلامية عالمية، والأمثلة على ذلك كثيرة، مع الاعتراف أن الجانب التركي بالغ فيها أحياناً.

مع إعلان خبر إغلاق قناة “أورينت”، انقسم جمهور الثورة إلى قسمين، فمنهم من انتقد تركيا وظنّ أنها دفعت القناة للإغلاق بعد أن ضيقت عليها كثيراً، ومنهم من انتقد سياسة “أورينت” التي بالغت في استعراض حرية الإعلام إلى درجة عدم الالتزام بالقوانين التحريرية والإعلامية والسياسية للدولة المستضيفة، وانشغال “أورينت” (بمعارك جانبية لا تخدم القضية الرئيسية، وهي الثورة السورية والشعب السوري).

ولأن “أورينت” كانت السباقة في تغطية الثورة السورية، فقد اندمجت بالثورة عاطفياً ونفسياً، ولعلها أخذت منها أجمل ما يميزها، وهو عنفوانها و”عشوائيتها”، وهذا ما تميز به أيضاً كادرها، وخصوصاً في تركيا، كانوا ثواراً بمعنى الكلمة، دمهم يغلي على أقرانهم السوريين، وعنفوانهم حاضر دائماً للدفاع عن اللجوء السوري في كل مكان وبالذات تركيا، هذا الاندفاع المميز والعنفوان قد لا نراه في محطات إعلامية سورية تبث من تركيا وغيرها، وهذا الخط أيضاً ما قرّب “أورينت” أكثر من جماهيرها.

هذا الخط الرفيع الذي سارت عليه “أورينت”، هو ما ميّزها وقرّبها من قلوب السوريين، وهذا الخط نفسه هو ما حملها أعباء سلطة الرقيب في بلاد المهجر، ولعل قرار إغلاق القناة كان أسهل على كادرها بكثير من تغيير هذا الخط الذي تميزت به وورثته من الثورة السورية، إلا أن ما تلاها بسنوات من قنوات، جاء بسياسة تحريرية جاهزة ومعلبة، وأحياناً بتمويل غير سوري، ما سهل على الكادر التكيف السريع مع سياسيات القناة والالتزام به، بمعنى آخر لو بدأت قناة “أورينت” بعد سنوات من الثورة، لكان من الممكن أن بثها لا يزال ينافس أقرانها من قنوات المعارضة السورية، لكن “أورينت” بانسحابها نجحت أكثر، والتصقت بقضيتها “الثورة السورية” أكثر، فكان قرار الانسحاب صائباً أكثر بكثير من قرار التكيف مع سياسات التحرير التركية، وخسارة جمهور الثورة الحساس جداً، والذي لا يزال يحمل عنفوان الثورة الأول.

وهنا نتحدث عن “أورينت”، بغض النظر عن موقف مالكها “غسان عبود”، وما تحدثه منشوراته في الفترة الحالية من إثارة الجدل حول العديد من القضايا والشخصيات المعارضة.

اختارت “أورينت” الغياب في هذه المرحلة الحساسة، التي فرضت نفسها على الواقع السوري مرحلة “الإيديولوجيا” التي تكشفت معالمها بعد اتفاقيات “أستانة”، ولم تكن وحدها من قررت الغياب، فقد سبقها لذلك الكثير من المعارضين، الذين فضّلوا الغياب على الحضور المزيف والمؤدلج، فطريقة تعاطي تركيا مع الملف السوري تحولت تدريجياً إلى سياسة الوصي، والآمر الناهي بكل ما يتعلق بالمعارضة السورية، وخصوصاً التي تعمل داخل أراضيها.

وعلى خلاف توقعات الكثير من أنها ربما ستعود للبث من دول أخرى أكثر حرية ك “أوربا أو كندا”، إلا أن “أورينت” التي كانت عين مَن سمع، وصوت مَن رأى تبحث كملايين السوريين عن وطن يتسع لعشوائيتها، ويلامس عنفوانها، وطن تكون فيه العين والأذن دون رقيب، والكلمة والخبر دون مقص سياسات التحرير، وإلى ذلك الموعد والحلم الذي يملأ قلوب السوريين، نبقى على حسن الظن بغدٍ أجمل لسوريا الحرة؛ وتبقى التحليلات والمقاربات مربوطة بعبارة “مَن سمع ليس كمَن رأى”.

_________________________________________

 من مقالات العدد السابع عشر من (العربي القديم) الخاص بتلفزيون أورينت – تشرين الثاني/ نوفمبر 2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى