فنون وآداب

قراءة في رواية (بعد 7 سنوات) لغيوم ميسُّـو: دانْ برَاونْ فرنسا

موسى رحوم عبَّاس * – العربي القديم  

غيوم ميسُّو ” 1974- ” (Guillaume Musso) روائي وكاتب فرنسي معاصر، ولد في أنتيب، فرنسا، أقام في نيويورك وهو شاب صغير مدة قصيرة، وعاد منها وقد قرَّر أن يصبح كاتبا وروائيا، صدرت أولى رواياته في العام، 2001، لكنها لم تنلْ حظا عند جمهرة النُّقاد والقرَّاء؛ فلم يفت في عضده هذا، بل واصل الكتابة، ولم يعرف اليأس طريقه إليه، حتى حقق الشُّهرة والنجاح الباهر، وبيعت من رواياته ملايين النُّسخ،  من مثل: (فتاة من ورق، نداء الملائكة، الحياة رواية، …) وحصد أرفع الجوائز، ونال وسام الفنون والآداب في بلاده من رتبة فارس، وجائزة مارتن بيك 2020 ، وتُعدُّ روايته “بعد سبع سنوات…” من الأعمال الرِّوائية التي نالت شهرة واسعة منذ صدورها في العام 2012 وحتى اليوم، تُرجمتْ للعربية 2019، وصدرتْ عن المركز الثَّقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، بترجمة محمد التِّهامي العماري، وبين يدي طبعتها الثَّالثة في 415 صفحة.

نيويورك من الداخل

      ثمَّة سحر في هذه الرِّواية، يجعلك متعلقا بها من الجملة الأولى التي تصف ” كامي” ابنة سبستيان لارابي صانع الكمان الشَّهير، ووريث مصنع الآلات الموسيقية الأعرق في نيويورك، ونيكي نيكوفسكي زوجته، الأمريكيَّة من أصل بولندي، المولودة في نيوجيرسي، وعارضة الأزياء المبتدئة والطَّامحة في دور ممثلة في إحدى الفرق المسرحية الكوميدية التي تنتشر كالفطر على جانبي شوارع “برُودواي” حي المسارح وحديقة الممثلين الخلفيَّة في نيويورك، تلك المدينة التي لا تشبهها مدينة في أمريكا شماليها وجنوبيها،  مدينة يشتبك فيها الفن واللغات والأزياء والمخدِّرات والعنف والثَّقافة في مزيج عالميٍّ يشبه بحرا من ثقافات العالم وعاداته ومهاجريه، ولنا أن نتصور كيف ستكون هذه الأسرة التي تنتمي إليها ” كامي” وتوءمها ” جيرمي” بين أب دقيق في كلِّ شيء، موسيقي حاذق، خبير عالميّ في صناعة الكمان، تستشيره دور الألحان وروَّاد الموسيقا، وكلّ دقيقة من وقته لها ثمنها، ورث إدارة مصنعه عن أبيه وجدِّه، وهو فخور بانتسابه لهذا الإرث العائليِّ، وأم مستهترة تعيش حياة طائشة لا مبالية، تتعاطى الحشيش والمخدِّرات، وتنتمي لوسط الطلبة المُتسكِّعين، لكنَّها ذكية، متفتحة، تعرف كيف تتسلَّل إلى القلوب؛ لتحيط نفسها بالعشَّاق والملذَّات والشَّهوات، إنَّها تصعد إلى قمة نشوتها حين تلعب بالنَّار (ص 26) ، وتقف على حافة الهاوية!

لم يجد سبستيان لارابي تفسيرا منطقيا لانجذابه لها، وأصمَّ أذنيه عن تحذيرات أبيه وأمه منها، وانساق خلف عاطفته الملتهبة نحوها، مشى خلفها مثل أولئك المُسَرْنَمِين (الذين يسيرون في نومهم) حتى عادة السِّرقة من المتاجر التي كانت تلازمها كاضطراب نفسيٍّ، لم تبعده عنها، بل كان في كلِّ مرَّة يدافع عنها، ويخرجها من ورطتها بأسلوبه وماله، سحره جمالها، ونمشها الخفيف، وشعرها الذهبي، وربما ذلك المرح والعبث الذي يلازمها أبدا؛ فلحق بها إلى باريس عندما سافرت إليها في رحلة عمل ترويجية، فاجأها هناك، عاملها كأميرة، تمنَّعت؛ فازداد تعلُّقه بها، بنى لها الشِّراك، ترصَّدها في كلِّ مكان، وكان يردِّد: “عندما تحب شخصا حبا حقيقيا، لا شيء يمكن أن يحول بينك وبينه، ص 312″  حتى تزوجها، وولدت له توءمهما ” كامي، وجيرمي” فعاد إلى أرض الواقع، تخلص من تلك الحمولة العاطفية أو خفت أوارها؛ فلم يعد قادرا على احتمال جنونها وعبثها؛ فخاض للانفصال عنها معارك قانونية، وأنفق مالا كثيرا،  انتهت بالتَّسوية وذلك بحصوله على حق حضانة البنت، بينما حصلت الأمُّ على حضانة الولد، وقام كلٌ منهما بالتربية، وفقا لمفاهيمه وفلسفته في الحياة.

ثنائية متضادة وأمل خفي  

الأب ينتمي للأرستقراطية الأمريكية؛ لذا أحاط ابنته بالوسط الرَّاقي، دروس البيانو، وحصص الباليه، واللُّغات … لكنَّه كان يخنقها بدقَّته، واهتمامه بأدق تفاصيل حياتها الشَّخصية، ومسيرتها التعليمية، بينما حصل ” جيرمي” على الحرية التَّامة إلى درجة الإهمال على يد أمه، التي لا تجدُ له الوقت أساسا، ولم ينلْ اهتماما يذكر من أبيه، والأصح أنَّه كان شبه مرفوض منه، فهو يشبه أمَّه في كلِّ شيء، كما كان يردِّد سبستيان لارابي والده، هذه الثُّنائية المتضادَّة مزقت أمان الشَّابين المراهقين، فاندفع كلٌ منهما يصنع لنفسه حياته الخاصة، ولا شيء سعيدا في حياتهما سوى تلك الذِّكريات القليلة التي كان فيها شمل الأسرة مجتمعا، وكما تقول الطَّبيبة النَّفسية للابن ” جيرمي” إنَّ معظم الأطفال الذين انفصل آباؤهم عن أمهاتهم يعيشون على أمل خفي هو أن يجتمع شمل الوالدين في يوم من الأيام، ص 328″ هذه هي الشَّرارة التي تبنى عليها أحداث الرِّواية شبه كاملة، تفاصيل مذهلة، خطط محكمة، إشارات متقنة، خط أحداث يقطع الأنفاس، يقوم به هذا المراهقان لتحقيق معجزة إعادة بناء أسرة سعيدة من جديد، يدَّعي الولد بأنَّه مخطوف من خلال عصابة، ويقوم صديقه طالب السينما سيمون بصناعة فيلم قصير، يظهره يتعرَّض لعملية خطف مزيفة في باريس، يستعمل فيها ممثلا هاويا يشبهه، من حيث اللباس والهيئة، الصورة البعيدة لا تترك مجالا للشكِّ بأنَّه عمل مُفبرك، تفاصيل مذهلة لرحلة البحث الباريسية عن ” جيرمي” توحِّد مشاعر الخوف الأبوية وعواطف الأمومة بينهما طالما الهدف واحد، وتسقط الشكوك والحذر السابقين، فالهدف هو إنقاذ الابن، يتورطان في أعمال غير قانونية في نيويورك منها جريمة قتل، وفي باريس اختطاف ضابطة شرطة، حاولت إلقاء القبض عليهما، لكنَّها سهَّلت هربهما وسفرهما للبرازيل لاحقا بغريزة الأمومة والتعاطف الإنساني، ألغاز وأحجيات متقنة استطاعا فك شيفرتها، عصابات ووشوم، ودلالتها، خرائط ومواقع وشوارع، حتى كأنَّك ترافقهما في السَّيَّارة نفسها، أو في رحلتهما لغابات الأمازون في البرازيل بحثا عن تلك الفتاة اللَّعُوب التي أوقعت بجيرمي عن طريق وسائل التَّواصل الاجتماعيِّ، محاولة الوصول إليه والحصول على الخريطة التي وصلت إليه صدفة، قبل أن تصل الشرطة لشحنة المخدرات في حادثة سقوط طائرة تتبع عصابة مخدرات برازيلية شهيرة أسسها والدها السجين، صراع خفي بين سانتوس الضَّابط الأمريكيُّ المكلَّف بالتحقيق بجريمة القتل، الخليل السَّابق، والعاشق الدَّائم، وسبستيان لارابي على قلب نيكي نيكوفسكي عشيقة الضَّابط، وزوجة سبستيان السَّابقة، رغم أنَّهما الزَّوج السَّابق وزوجته طرف في هذه الجريمة، ومن ثم يلتقيان في غابات البرازيل، ويواجهان الموت معا، تفاصيل تجعلنا نتنفس الصُّعداء، ونحن نرى بارقة أمل.

ترى هل يمكن أن يكون الحبُّ نتاج الاختلاف بين طرفيه،  لا الاتفاق بينهما، كما اعتاد النَّاس أن يظنُّوا؟! تشفُّ العبارة التي ردَّدها جيرمي في آخر الرِّواية عن شيء شبيه بهذا، يقول، وهو يصف علاقة أبيه بأمِّه: ” لم يتشاجرْ مع أحدٍ، ولم يتجادلْ مع أحدٍ مثلما أحبَّها، وضحك، وتجادل معها، فهي تُضفي على حياته ضربًا من الغِنى والقوَّة، وتضيف لها المِلحَ الذي يمنحها طعمًا خاصًّا، ص 350 “

في الختام

هل يجب أن تكون الرِّواية مشحونة بالسِّياسة، والشِّعارات الكبيرة، والفلسفات العميقة؟ أم يمكن لأيِّ شأنٍ إنسانيٍّ أن يكون مادة لها! هلِ الرِّواية هي ميدان للإنشاء وألاعيب اللغة، والثَّرثرة وفضول القول؟

في رواية غيوم ميسُّو هذه الحدثُ الرِّوائي إنسانيٌّ، بسيطٌ غير مركَّبٍ، تتصاعد وتيرة الأحداث بخطٍّ عموديٍّ، وتغتني الشَّخصيات من خلال الانعطافات في السَّرد، بدون قفزات في الهواء، وظنِّي أنَّ الرِّوائيَّ الفرنسيَّ جمع مادة عمله بصبر ودقَّة شديدين، فأنت تمشي في باريس وشوارعها وموانئها النَّهرية، ومحطات الميترو، والمطارات، وفي نيويورك وساحاتها، وريو دي جانيرو، وغابات الأمازون وكأنك تحمل ” الكاميرا” بين يديك، هذه معلومات موثقة وواقعية، فالوشوم والعصابات اللاتينية وتاريخ تمدُّدها الأسود، والتَّسلسل الهرمي لقيادتها، كل تلك المعلومات جعلها حاملا للأحداث، وموهما بواقعيتها، وهذا لبُّ الفن ورسالته، المتعة الخالصة، والرسالة النَّبيلة صنعتا مُنْتجًا إبداعيًا راقيًا.

     لم أستطع أن أمنع نفسي، وأنا أقرأ رائعة غيوم ميسُّو هذه من التفكير بكتاب أمريكا اللاتينية من مثل، الكولومبي غابريل غارثيا ماركيز ( 1927- 2014 ) أو التشيلية  إيزابيل ألليندي ( 1942- ) وبخاصة في روايتها ” ما وراء الشتاء” فالعناية بالتفاصيل، والوصف الدقيق للمكان والزمان، والحرارة التي تشيع الدفء في الرواية وأحداثها، والتشويق الذي لا تستطيع معه التوقف عن القراءة، وأتساءل هل استطاع غيوم ميسُّو أن يكون النسخة الفرنسية من الأمريكي دان براون ( 1964- ) صاحب ” THE DA VINCI COD ” شيفرة دافنشي! ربَّما !

_______________________________________

  • الدكتور موسى رحوم عباس، أديب سوري مقيم في مملكة السويد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button