لماذا تنازل شكري القوّتلي؟
كان “شكري القوّتلي” 1891-1967 أوّل حاكم عربي “مُنتخَب” تنازل عن منصبه الكبير كرئيس للجمهورية السورية، والتي أصبح اسمها “الجمهورية العربية السورية” إثر تعديل دستور 1950 سنة 1961، وسيكون الأخير على الأغلب!.
بعيداً عن تفصيل سيرة “القوّتلي” الذاتية وعن مسيرة حياته الزاخرة بالمشكلات والبطولات والأحداث والمفاجآت، الرجل الذي كان رئيساً لسوريا قبل الاستقلال عن فرنسا منذ 1943 وحتّى 1949، ثمّ عاد رئيساً إليها سنة 1955 حتّى 1958، والذي قارع العثمانيين ثمّ الفرنسيين، وشارك في الثورة السورية الكُبرى 1925، ونالت “سوريا” بعد وصوله إلى سُدّة الرئاسة الاستقلال عن فرنسا، “القوّتلي” الذي يبدو مثالاً حقيقياً لاستحقاق لقب “المُخضرم” لأنّه عاش وشارك وأثّر في الشأن السوري السياسي والاقتصادي مباشرةً خلال عهود سورية متلاحقة ثلاثة، عهدها العثماني، وعهدها بفرنسا، ثمّ وعهد الاستقلال، ومع عهدي “الوحدة اليعربية” ثمّ الانفصال، فلقد تخضرم “القوّتلي” بين أربعة عهود سورية فيها من التغيّرات والانقلابات والتحدّيات ما لا يمكن حصره.
لم يتنازل “القوّتلي” عن السلطة لصالح رئيس آخر، ولا لمعالجة فراغ دستوري رئاسي أو برلماني، ولا لتشكيل حكومة وفاق أو ائتلاف، بل بدافع إقامة “دولة الوحدة العربية”، دولة وحدة بين “مصر” وما سيتبقّى من “سوريا”.
والسؤال.. لماذا فعل “القوّتلي” هذا؟، هل كان مؤمناً بدولة وحدة عربية وقومياً عروبياً راغباً بها؟، أم دُفِع إلى ذلك دفعاً؟، “القوّتلي” الذي بعد أن أعلن في خطابه يوم 5 شباط 1958 أمام النوّاب السوريين مبادئ وأسس “الجمهورية العربية المتّحدة” قال: (إنّ هذه المبادئ التي تلوتها ما هي إلّا من وحي شعوركم وضميركم، ومن صميم إرادة الشعب الأبيّ المناضل الذي انتخبكم وائتمنكم)، أيّة مبادئ تلك التي هي من صميم إرادة الشعب؟، والتي لخّصها “القوّتلي” بمبادئ الحرّية والعدل و”الحياد الإيجابي” وعدم الانحياز، معتبراً أنّها ترمز إلى حقّ السوريين في السيادة القومية، كما اعتبر أنّ “عناصر الوحدة” وأسباب نجاحها قد توافرت حين جمع البلدين “كفاح مشترك” زاد معنى القومية وضوحاً، وأنّ القومية حركة تحرير وتعمير وعقيدة سلام، ما هذا الكلام؟!.
هل كان “أبو الجلاء” وزعيم السياسة والاقتصاد السوري الوطني المناضل الذي كلّفه نضاله عبر عقود لاستقلال “سوريا” وديمقراطيتها ونهضتها ما كلّفه من ملاحقة وأحكام بالسجن والإعدام وإنفاق للثروة والمال مقتنعاً بهذا الإنشاء الرديء والاستهلال الساذج والاستنتاج السخيف في خطابه عن هذه الأسباب والمبادئ؟، أهذه الأسباب التي تدفع الدول إلى الاتّحاد؟، أو المبادئ التي تقوم عليها وحدة الشعوب؟، والتي نسفها أوّل رموز الديكتاتورية والعنف المأفون “جمال عبد الناصر” بعد أسابيع من إعلان قيام “الدولة المسخ” اعلى أجواء “فانتازيا” المدّ القومي والعروبة وقضايا عربية شائكة معقّدة، وبذريعة النضال لتحرير “فلسطين” وغيرها، الكذبة التاريخية الدائمة المستمرّة لحكم كلّ شعوب المنطقة العربية بالحديد والنّار.
بدأت مفاوضات الوحدة يوم 11 كانون الثاني 1958 بدون علم “القوّتلي” أو وزير دفاعه “خالد العظم” أصلاً، عندما توجّه وفد الضبّاط السوريين القوميين بقيادة رئيس الأركان “عفيف البزرة” إلى “مصر”، ووفق “عبد الله الخاني” في كتابه “جهاد شكري القوّتلي” فلقد قال “عبد الناصر” لهم أنّ الرئيس “القوّتلي” الوحيد المخوّل بالتفاوض باسم الشعب والدولة السورية، لكنّ “القوّتلي” بعد علمه بهذا التجاوز قرّر دعم جهود هؤلاء الضبّاط لا محاسبتهم على هذا التمرّد!، فأرسل وزير خارجيته “صلاح الدين البيطار” إلى “مصر” ليفاوض رسمياً على الوحدة باسم رئيس الجمهورية السورية.
لماذا بالتحديد وافق “شكري القوّتلي” بالنتيجة على هذا المشروع العجيب؟.
ثمّة احتمالان:
الأوّل أنّه أجبر عليه بسبب سيطرة العسكر والحزبيين اليساريين في “سوريا” منذ عامين على الأقلّ قبل التوقيع، مع الجنوح إلى “المعسكر الشرقي” خلال الحرب الباردة، ولقد وقّعت “دمشق” كما يقول “خالد العظم” في مذكّراته على سلسلة اتّفاقيات مع “الاتّحاد السوفياتي”، مُنِحت “سوريا” من خلالها أسلحةً بقيمة 570 مليون دولار يجري تسديدها من عائدات القمح السوري، ومع تخصيص 68% من الميزانية للجيش والإنفاق العسكري، يبدو أنّ سطوة اليسار في الداخل ومن الخارج قد تكون السبب الذي دفع الرئيس للموافقة على الاتّفاقية مع “عبد الناصر” المدعوم من “الاتّحاد السوفياتي”.
أمّا الاحتمال الثاني فهو شيء ما يبدو عاطفياً، نتاج شخصية “شكري القوّتلي” نفسها، الرجل اللطيف المحبوب الصادق والمخلص لشعبه ووطنه، فعاش صراعاً بين إيمانه بالوطنية السورية وحرصه على الاستقلال والديمقراطية وسعيه إلى تطوير الدولة وتعزيز دورها وبناء نهضتها واقتصادها، وبين الامتثال للرأي العامّ المندفع عن جهل أو عن ردّة فعل وبإسراف عاطفيّ مُفرط لتبنّي “قضيّة القومية العربية”، بعد “النكبة” و”العدوان الثلاثي”، فقبِل الزعيم السوري المناضل بالاتّساق مع عاطفة الجماهير!.
انزعج رمز الديكتاتورية العربية “عبد الناصر” بعدما ظلّت أخبار الرئيس السوري الديمقراطي المُنتَخب تتصدّر الصحف السورية، واستدعى وزير “الثقافة والإرشاد القومي” وكان “رياض المالكي”، وأصدر أمراً رئاسياً بحجب الأضواء عن الجميع سوى عن شخص رئيس “الجمهورية العربية المتّحدة”، ويذكر “سامي المبيّض” في كتابه “عبد الناصر والتأميم أنّ الخلاف بين الرجلين المختلفين اختلاف الثرى عن الثريّا قد ازداد كثيراً بسبب إصدار “عبد الناصر” قرارات التأميم، وكان “القوّتلي” في خطابه قد وعد السوريين باحترام حرّياتهم وملكيّاتهم الخاصّة التي خسروها تماماً بسبب “الوحدة العربية”، وطلب “القوّتلي” من “عبد الناصر” التراجع عن هذه القرارات فرفض.
على أيّة حال..، لقد كان قرار “القوّتلي” سواءً أجبر عليه جبراً أو اتّخذه بملء إرادته الحرّة، من أعظم القرارات المؤثّرة على مستقبل “المنطقة العربية”، خاصّة في دول “الجمهوريات الافتراضية”، التي ادّعت حكوماتها منذ قيامها التمسّك بمبادئ الديمقراطية والوطنية أو القومية، لكنّ كلّ الممارسات الفعلية كانت بعيدةً تماماً ولا صلة لها بأيّ مبدأ أخلاقي أو قانوني.
كان تنازل البطل المحترم المرحوم “شكري القوّتلي” عن رئاسته الديمقراطية لسوريا بسبّة “الوهم القومي العربي” ولصالح الديكتاتور “جمال عبد الناصر” نقطة البداية لحلول عهد الديكتاتوريات والقمع للشعوب في جمهوريات “سوريا” و”مصر” و”ليبيا” و”العراق” واليمن” وفي “الجزائر” وتونس” و”السودان”، بل ومؤثّراً لدفع الملكيات غير الدستورية إلى مزيد من التسلّط والبطش، فقُدّمت صورة جديدة محلّية للاستعمار، الاستعمار الذي يهدف لاستعباد الشعوب وإذلالها واستغلالها بكلّ حجّة ووسيلة.
قبل وفاته خاطب الزعيم السوري “شكري القوّتلي” السوريين: كلمتي الأخيرة إليكم أنّكم وحدكم مسؤولون عن تقرير المستقبل، وأنّ القيادات في صفوفكم عناوين زائلة، وتبقون أنتم سطور البقاء والخلود، ولقد استطعتُ على خدمة نضالكم وجهادكم، مواطناً عادياً وجندياً مكافحاً، أكثر مما أُتيح لي أن أتوفّر لهذه الخدمة الشريفة، رئيساً وحاكماً ومسؤولاً، وإنّ أعظم ما أطمح إليه أن أكون عاملاً في الحقل العامّ، عانق القضية المقدّسة منذ مطلع هذا القرن: فتىً وشاباًّ وشيخاً، أن أستحقّ استمرار الرضا عنه في صفوف المواطنين العاديين، مواطناً صالحاً وجندياً أميناً.
_________________________________________
من مقالات العدد الثالث من صحيفة (العربي القديم) الخاص بذكرى مرور 62 عاماً على الانفصال- أيلول/ سبتمبر 2023