الرأي العام

دلالات وقضايا | كيف يصنع التَّافهون سعادتنا المزيَّفة؟

مهنا بلال الرشيد

حصل الأفراد في مجتمعات الجمع والصَّيد البدائيَّة على نسبٍ عالية من السَّعادة الحقيقيَّة، وبرغم بساطة التَّرفيه في تلك المجتمعات كان الشَّعور بمتعة الحياة وأنشطتها اليوميَّة واحدًا من أبرز خصائصها، وبرغم تبشير المبدعين بدور مخترعاتهم ومنجزاتهم الحضاريَّة في صناعة مستقبل سعيد لمستخدمي منجزات الثَّورات المتلاحقة (كثورة اكتشاف النَّار والثَّورة الزِّراعيَّة وثورة النَّسيج والثَّورة الصِّناعيَّة وثورة العولمة الرَّقميَّة) فقد كانت النَّتائج عكسيَّة في معظم الأحوال.

 لاحظ العلماء انخفاضًا كبيرًا في مستويات السَّعادة داخل المجتمعات، الَّتي ينعم أفرادها بكثير من منجزات الحضارة؛ مثل السَّيَّارات الفارهة ووسائل الاتِّصال الذَّكيَّة والبيوت الفخمة والتَّسوُّق الإلكترونيِّ والتِّجارة والتَّعليم والعمل عن بعد، وقد حيَّرت هذه الظَّاهرة الأطبَّاء وعلماء النَّفس والاجتماع؛ ومن خلال البحث والتَّحرِّي تبيَّن لهم أنَّ الاعتدال والوسطيَّة والالتزام بالواجب الأخلاقيِّ أسس السَّعادة وأركانها، وقد تميَّزت المجتمعات البدائيَّة بقدرتها الكبيرة على صناعة السَّعادة الحقيقيَّة ونشرها بين أفراد المجتمع. وتؤكِّد الدِّراسات أنَّ البدويَّ الصَّائد الجامع شعر بسعادة كبيرة حين التقط ثمرة حلوة من ثمار البرِّيَّة، أو عندما صاد طريدة من طرائدها، وبعد حصوله على طعامه وشرابه كان يقضي جزءًا مهمًّا من ليلته بالسَّمر حول النَّار في كهفه، أو بالغناء والإنشاد في خيمته، وكانت فنون الإنشاد والغناء البدائيَّة قادرة على رَفْعِ منسوب السَّعادة لدى بشرٍ لا يحملون كثيرًا من أعباء الحياة، ولا يعرفون شيئًا من همومها وضغوطها النَّفسيَّة الرَّاهنة.

بعد عصور سحيقة أثبت ديكارت وهيجل وماركس أنَّ التَّاريخ يتطوَّر ويتقدَّم من خلال التَّناقض الطَّبيعيِّ بين طبقات المجتمع، وأكَّدوا أنَّ المجتمع يصنع حضارته وسعادة أفراده بشكل طبيعيٍّ، ومن خلال صراع الأضداد داخله يُحرَّم على الفرد التَّطرُّف، ويُجْبَرُ على الاعتدال والوسطيَّة والالتزام بالواجب الأخلاقيِّ والأعراف والعادات والتَّقاليد الاجتماعيَّة، وهذه هي أركان السَّعادة، وأسس صناعتها، أو شروط وجودها الأساسيَّة. وعلى سبيل المثال لم يمتُ فردٌ في المجتمعات القديمة نتيجة من الجوع أو التُّخمة؛ أي لم تسمح سيرورة المجتمعات القديمة وتناقض طبقاتها للفقر والعَوَز أن يغزو حياة الفرد، ولم تسمح لأيِّ فرد أن يتطرَّف في إشباع حاجاته وميوله وأهوائه ورغباته. ولمَّا كان الاعتدال سمة تلك المجتمعات الأولى انتشرت السَّعادة؛ لأنَّ الاعتدال شرطها، وصراع الأضداد يَزيد من انتشارها ولذَّة الشُّعور بها؛ فلذَّة الطَّعام وفائدته لا تأتي إلَّا بعد الجوع، وللإسراف في تناول الطَّعام من غير جوع مخاطر كبيرة على جسم الإنسان، وفائدة ساعة من ساعات النَّوم ولذَّتها ومتعتها وقت النُّعاس لا يُعادلها نوم ساعات كثيرة، وبمثل هذا التَّقلُّب في أحوال الإنسان بين الأضداد المتصارعة تتولَّد السَّعادة؛ كسعادة الرَّاحة بعد التَّعب والأرق، ومتعة الشَّبع بعد الجوع، ولذَّة الاكتفاء بعد العَوَز، وألق النَّضارة بعد الشُّحوب، وحيويَّة النَّشاط بعد المَرض، ولو تمادى الإنسان في النَّوم أو السِّياحة أو تناول الطَّعام ستفقد هذه الأشياء متعتها وسعادة ممارستها؛ لذلك تبيَّن للباحثين أنَّ عتبة الاعتدال المتوسِّطة لكلِّ سلوكٍ أو نشاط تمثِّل حدَّ السَّعادة ومقياسها فيه، ولو نقصت الممارسة عن هذا الحدِّ سيشعر الإنسان بالحزن نتيجة الحرمان، ولو تمادى في ممارسة أيِّ سلوك ممتعٍ سيطلب المزيد منه إلى أن يصبح الإنسان متطرِّفًا عند الحدِّ الوسطيِّ المعتدل، وسيتمادى في طلب المزيد، وسيغدو هذا التَّطرُّف مصدرًا لجملة من الأمراض النَّفسيَّة المنافية للسَّعادة؛ كالقلقِ والتَّوتُّر والضَّغط النَّفسيٍّ والوسواس القهريٍّ؛ ونتيجة لاختراق قانون الاعتدال والوسطيَّة بسبب الحرمان تنخفض السَّعادة في المجتمعات الفقيرة، وبسبب التَّرفيه الزَّائد لدى الطَّبقات المخمليَّة ترتفع درجات الكآبة والانتحار في مجتمعاتها، الَّتي لم يشعر أبناؤها أبدًا بشيء من الحرمان أو ضرورة الانضباط تحت سقف القوانين الاجتماعيَّة والواجبات الأخلاقيَّة؛ لذلك يمكنك-قارئي العزيز-أن تتخيَّل سعادة طفلٍ جائع في المخيَّم بعد حصوله على رغيف خبزٍ أو قطعة من الحلوى أو ثمرة من ثمار الفاكهة.

التَّعاسة وتقسيم الأدوار والعمل

تقلَّبت أحوال البشر في المجتمعات البشريَّة القديمة تلقائيًّا بين الجوع والشَّبع والصِّحَّة والمرض والنَّوم والسَّهر، ولم يكن جسم الإنسان البدويِّ الصَّائد الجامع يُعاني من مخاطر الإسراف في تناول الثِّمار الغنيَّة بالسُّكَّر أو السُّعرات الحراريَّة، الَّتي يستهلكها خلال يومه الطَّويل، وهو يمشي بحثًا عن طعامه، ويركض لملاحقة طرائده، وقد يعاني من الجوع بضعة أيَّام. وتكَّفَّل تقلُّبُ أحوال الإنسان وصِراع الأضداد بين الرَّغبات والحاجات وبذل الجهد لإشباعها في صناعة سعادته الكبيرة كما تبيَّن لنا في مطلع هذا المقال. وبعد أن دجَّن الإنسان القمح، واستوطن في القرى، وصار فلَّاحًا مزارعًا، ومن أجل تنظيم الإنتاج وزيادته قسَّم المجتمع الأدوار والعمل بين كهنة وجُباة ضرائب يشرفون على العمَّال والفلَّاحين والحرفيِّين والجنود والعساكر ورجال الاتِّصالات والأطفال والنِّساء، وعندما استغلَّ الكهنة نفوذهم الدِّينيَّ، واحتكروا ما يفيض عن حاجتهم من طعام وشراب، ردَّ عليهم المتميِّزون في أداء بعض الحرف، واحتكروا ما تنتجه أيديهم الماهرة؛ فانخفضت السَّعادة مع اضطراب ميزان الاعتدال بسبب نشوء التَّفاوت الطَّبقيُّ بعد مرحلة وجيزة من تطبيق المساواة في اشتراكيَّة بدائيَّة مُمتعة.

وبسبب صراع الأهواء والرَّغبات والطَّبقات الاجتماعيَّة لم يكن بوسع الأجيال الجديدة والطَّبقات الاجتماعيَّة المسحوقة أن تنتقل من طبقة آبائها إلى طبقة اجتماعيَّة أرقى منها نتيجة للصِّراع الطَّبقيِّ مرَّة، ولعدم امتلاك الإمكانات والمهارات مرَّة أخرى؛ فشعر الأبناء بالعجز، واستسلم بعضهم لواقعه، أو رضي به طوعًا أو كرهًا، وزادت نسبة التَّعاسة نتيجة الحرمان بين أفراد الطَّبقات المسحوقة، مثلما زادت الكآبة بين أفراد الطَّبقات، الَّتي يستمتع آباؤها وأبناؤها بمنسوب عالٍ من الرَّفاهيَّة والحرِّيَّة الشَّخصيَّة؛ نتيجة لابتعاد أبناء الطَّبقتين عن الحدِّ المتوسِّط المقبول عند الجميع. لكن لم تكن هناك هوَّة كبيرة بين طبقتين اجتماعيَّتين؛ لذلك نشأت الفنون الشَّعبيَّة الجميلة في حقول الفلَّاحين والمزارعين، وكان بمقدور مواويل العتابا والميجانا والأناشيد الشَّعبيَّة في الحقول أن تزيد منسوب السَّعادة بين عُمَّال الحقول، وتقضي على الإحساس بالتَّفاوت الطَّبقيِّ من خلال الإمتاع والمؤانسة.

مخترعات الثَّورة الصِّناعيَّة كرَّست التَّعاسة والعبوديَّة

زادت وطأة التَّفاوت الطَّبقيِّ بعد الثَّورة الصِّناعيَّة وظهور المعامل، وتمادى أصحاب رؤوس الأموال في استقطاب الفلَّاحين من حقول القرى إلى معامل المدينة؛ فظهرت الهجرة من الرِّيف إلى المدينة، وتفاقمت مشكلة العشوائيَّات داخل المدن الصِّناعيَّة الكبرى، وتمادى أصحاب المعامل في تقسيم العمل لتبسيطه وزيادة الإنتاج والقضاء على الإنسان الماهر، الَّذي يعرف أسرار العمل كلَّها؛ وهذا ممَّا يزيد إنتاج الإنسان، ويحوِّله إلى روبوت أو رجلٍّ آليٍّ، ويزيد من قدرة أصحاب المعامل على إدارة العمل من خلال أتمتته أو المبالغة في تقسيمه وتبسيطه والتَّحكُّم عن بُعد بالعمَّال أو قولبتهم أو تحويلهم إلى ما يشبه نحلات عاملات في خليَّة كبيرة؛ فتقلَّص بذلك عدد الفلَّاحين الشَّباب في الأرياف، وازادت عمالة الأطفال، واختفت-على سبيل المثال-مهنة الخيَّاط أو البزَّاز، وأغرق المعمل سوق الاستهلاك بالثِّياب اللَّائقة وبأسعار تنافس أسعار الإنتاج اليدويِّ، وتلغي وجود هذه المهنة، وتُجبر أربابها على الالتحاق بالمعامل، بعدما صارت تكلفة إنتاج ثوب واحد من لحظة زراعة قطنه أو الحصول على صوفه أو حريره حتَّى الانتهاء من حياكته أو خياطته أعلى بكثير من سِعره المعروض في السُّوق.

ولكي يغري صاحب المعمل الفلَّاحين وأصحاب المهن والأيدي الماهرة بالالتحاق بمعمله زاد من دخلِ جنوده في المعمل؛ لينعموا بالفائض من رواتبهم؛ لكنَّ هذه البحبوحة من الاستمتاع بالدَّخل الفائض نتيجة العرض والطَّلب وتنافس الأسعار في السُّوق لم تَدُمْ طويلًا؛ فَرَبُّ العمل هو المستفيد الوحيدة من الثَّورة الصِّناعيَّة؛ ورغبته الكبرى تتمثَّل بتحويل القرى والمدن إلى معمل كبير، وتحويل العمَّال والفلَّاحين إلى جنود في معمله، سيرجع فائض إنتاجهم إلى جيب صاحب المعمل؛ لذلك انتظر عمَّاله بُرْهَةً حتَّى اختفى الإنسان الماهر تمامًا، وعندما تأكَّد من عدم قدرة العمَّال على النُّكوص والارتداد إلى حياة الزِّراعة؛ خفض أجورهم، وجعلها بمقدار ما يكفي لمأكلهم ومشربهم وملبسهم. وإنْ عَمِلَ العبيدُ ساعات يوميَّة قليلة في بناء الأهرامات في ممالك بلاد النِّيل والزَّقُّورات في ممالك بلاد الرَّافدين مقابل الأكل والشُّرب فإنَّهم -وبرغم فرحهم الكبير بظهور آلات الثَّورة الصِّناعيَّة- استسلموا لعبوديَّتهم، وصارت مصيرهم المحتوم، وزادت ساعات عملهم في المعامل، وقلَّت ساعات النَّوم والرَّاحة، وبقي الدَّخل على قدر ما يكفي للأكل والشُّرب والملبس دون زيادة أو نقصان؛ وتكدَّس الدَّخل الفائض في المستودعات، وتوجَّه التَّصدير نحو البلدان العذراء؛ لمقايضة أعداد قليلة من منتوجات المعامل بكمّيَّات كبيرة جدًّا من المواد الخام؛ ولم يكن بوسع العُمَّال إلَّا أن يستسلموا لعبوديَّتهم، مقابل تمادي أرباب العمل في تكريس نفوذهم ونفوذ رؤوس أموالهم، وتفاقمت الهوَّة الفاصلة بين الطَّبقات الاجتماعيَّة، وارتفعت نسبة الفقراء الَّذين يعيشون تحت خطِّ الفقر، ولا يشعرون بالسَّعادة الطَّبيعيَّة نتيجة الحرمان، وظهرت الطَّبقة البرجوازيَّة، الَّتي يتمادى أبناؤها بثراء فاحش، ويشعرون بالكآبة نتيجة تطرُّفهم في الاستمتاع والملذَّات، وصدق معهم قول المتنبِّي، عن تلك المرحلة، الَّتي لم يشعر أحدٌ بالسَّعادة فيها غير طبقة الجهلاء:

ذو العقل يشقى في النَّعيم بعقله        وأخو الجهالة في الشَّقاوة ينعم

التَّافهون ملاذُ ثورة العولمة في صناعة الوعي الزَّائف

استعان السَّاسة بالمهرِّجين والبهاليل وأصحاب الطُّرفة لصناعة السَّعادة أيَّام ثورة النَّسيج وظهور المدن الإسلاميَّة الكبرى مثل بغداد والبصرة والفسطاط للحدِّ من تفاقم الكآبة وتحوُّلها إلى إحساس بالنَّقمة، قد يقود إلى ثورة تقتلع الطَّبقة الحاكمة من جذورها؛ وتبيَّن لهم أنَّ متعة المهرِّجين الرَّخيصة تصنع وعيًا زائفًا بخلاف المسرح، الَّذي لم يهتمُّوا به؛ لأنَّه صناعة ثقيلة، يمكن أن تُحرِّض على الثَّورة، وتُضرم نارها بين الجماهير المستلبة، إذا كتب نصوصه مبدعون مثل شكسبير أو موليير. وبعد ألف سنة تقريبًا على ثورة النَّسيج ظهرت الثَّورة الرَّقميَّة بعد المرور بالثَّورة الصِّناعيَّة، وتحوَّل العالم إلى قرية صغيرة أو معمل كبير، وصرنا جنودًا من جنود العولمة إن شعرنا بذلك، أو إن لم نشعر به، وظهرت مهنٌ إمتاعيَّة محضة، وعلا شأن المهرِّجين والجواكر، وتمتَّع الفارغون بجماهيريَّة عالية، وأثري لاعبو كرة القدم، وحصل لاعب محترف مشهور على دخل يفوق ميزانيَّة دولة كاملة، إن كان رئيسها مستبدًّا يحتكر السَّلطة، ويشعل فيها حربًا من أجل البقاء على الكرسيِّ مثلما يفعل المجرم بشَّار الأسد وأعوانه داخل سوريا.

ضاعفت الثَّورة الرَّقميَّة والعولمة حاجة أصحاب رؤوس الأموال إلى الأيدي العاملة، وحين حلَّت العملات الورقيَّة مكان الذَّهب في بدايات ثورة العولمة والتَّحوُّل الرَّقميِّ أحكم أصحاب المصارف ورؤوس الأموال قبضتهم على العالم، وتحكَّموا بدخل أيِّ فرد في أيِّ بُقعة من بُقع العالم، وصرنا جنودًا من جنود العولمة؛ فأصحاب مزارع الموز في الصُّومال والطَّماطم في درعا والزَّيتون في إدلب والمشمش في غوطة دمشق والأشجار الاستوائيَّة في أفريقيا يدلِّلون أشجارهم، ويعتنون بها حولًا كاملًا، وعند الحصاد يأكلون الثِّمار الصَّغيرة أو غير النَّاضجة، ويفرزون الحبَّات الفاخرة للتَّصدير ومقايضة ثمنها بالعملات الصَّعبة؛ ليشتروا باقي حاجاتهم؛ فليس بالموز أو الكعك وحده تحيا الشُّعوب، ثمَّ يأتي التُّجَّار، ويلصقون ملصقات الجودة الفاخرة على هذه الثِّمار، ويشحنونها إلى أسواق الدُّول الرَّسماليَّة الكبرى.

نتيجة الإحساس بمثل هذا الاستلاب ولمحاربة الشُّعور بالكآبة حتَّى لا يموت المستلبون همًّا وغمًّا وكَمَدًا، ينام المزارع مبكِّرًا؛ ليستيقظ للعمل بنشاط في صبيحة يوم جديد، ويحمل أبناؤه في وقت الذُّروة بعد عودتهم من الحقل أو المعمل هواتفهم الذَّكيَّة وأجهزتهم اللَّوحيَّة للتَّرفيه عن نفوسهم المتعبة قليلًا؛ وهنا ينتهز التَّافهون من مهرِّجي الأيديولوجيا وجنودها وَصُنَّاع السَّعادة الزَّائفة والوعي الخُلَّبيِّ هذه الفرصة، ويقدِّمون أنفسهم كشعراء وأدباء ومنشدين وأكاديميِّين ومثقَّفين ومتصوِّفين من أصحاب الزُّهد والإنشاد والإيمان؛ فيغرقوا صفحات مواقع التَّواصل الاجتماعي بمقاطع التِّيك توك، ويعيدوا تسجيل نصوص العصور القديمة الخالدة، وقد ينظمون هُراءَهم على شكل أشعار، وربَّما أنشدوا بِنَشَاز أصواتهم، أو نشروا نصوص تهريجهم الرَّخيص، وسُرعان ما يلتفُّ حولهم أصحاب الكآبة، ويُعجب بهم وبمنشوراتهم باقي التَّافهين من جنود الأيديولوجيا؛ ونحن-كلَّنا-جنود ما عدا استثناءات قليلة جدًّا؛ يُتَّهمُ أصحابها في عقولهم؛ لأنَّ التَّافهين تنظَّموا في مجموعات، وصار إنتاجهم الرَّخيص مقياس الذَّوق العامِّ، وفي كثير من الأحيان لا يواجهك التَّافه ذاته إذا انتقدتَ إنتاجه الرَّخيص، بل ينبح عليك كلبٌ من كلابه الرَّخيصة في صفحة هُرائِه.

واليوم لم نعد نستغرب شيئًا، ونحن نرى جنود أيديولوجيا العولمة الرَّخيصين، وهم يحملون شهادات الدُّكتوراه من دَكاكين بيع الشَّهادات عن بُعد أو قرب؛ تلك الَّتي تنتشر من جنوب ليبيا إلى جنوب دمشق والسُّودان، وينزوي أصحابها في زواريب كثيرة، ويتصدَّر بعض حملة شهاداتها المجالس تحت لقبِ أُستاذ جامعيٍّ أو تحت لقب شاعر أو ناقد أو كاتب، ويحيط بهم أصحاب الكآبة من كلاب الصَّيد النَّبَّاحة في كلِّ مكان، وبعدما ينتهي التَّافهون من تفريغ غرورهم وإنتاجهم الرَّخيص في حفلة السَّمر الفيسبوكيَّة أو مهرجان توزيع الألقاب الخنفشاريَّة، يخلع كلُّ واحد منهم قناعة الدِّينيَّ أو الأدبيَّ أو الثَّقافيَّ، ويقبض من مموِّليه -وبصدق هذه المرَّة- ثمن تمثيله زُجاجةَ نبيذ رخيصة بعد أن كان منشدًا صوفيًّا قبل قليل، وقد يستلم التَّافه حفنةً من الأموال أو شهادة خنفشاريَّة جديدة أو صدارة موقع نشرٍ إعلاميٍّ أو مهرجان شعريٍّ أو محطَّة فضائيَّة؛ ليُغيَّبَ أصحاب الكفاءة الحقيقيِّون، ويحافظ التَّافهون على تنظيمهم، وتنقرض السَّعادة الحقيقيَّة، ويستمتع التَّافهون ومموِّلوهم بانتشار هرائهم كالنَّار في هشيم المجتمع؛ وأجمل ما يصوِّر هذه الحالة مقدَّمة كتاب (نظام التَّفاهة) لآلان دونو يُصارح فيها المثقَّف الحقيقيَّ بهيمنة التَّافهين ونهاية زمن القيم والواجب الأخلاقيِّ والاعتدال والسَّعادة؛ فيقول: (ضَعْ كتبَك المعقَّدة [كاليورانيوم] جانبًا، فكُتُب [أو دفاتر] المحاسبة صارت الآن أكثر فائدة. لا تكن فخورًا، ولا روحانيًّا، ولا حتَّى مرتاحًا؛ لأنَّ هذا يمكن أن يُظهرك بمظهر المغرور. خفِّفْ من شغفك؛ لأنَّه مُخيف. وقبل كلِّ شيء، لا تُقدِّم لنا فِكرة جيِّدة من فضلك، فآلة إتلاف الورق ملأى بها سلفًا. هذه النَّظرة الثَّاقبة في عينيك مُقلقة: وسِّعْ حَدَقَتي عينيك، وأَرخِ شفتيك! ينبغي أن تكون للمرء أفكار رخوة، وينبغي أن يُظْهِرَ ذلك. عندما تتحدَّث عن نفسك، قلِّل من إحساسك بذاتك إلى شيء لا معنى له: يجب أن نكون قادرين على تصنيفك. لقد تغيَّر الزَّمان).

آلان دونو محقٌّ في كلِّ كلمة قالها في هذه المقدَّمة، لقد شهدتُ مسابقة من مسابقات التَّوظيف، أبعدوا منها المتفوِّقين من حملة شهادة الدُّكتوراه، وَعَيَّنَ المتنفِّذون أصحاب شهاداتٍ جامعيَّة تجاريَّة رخيصة، وعندما سألناهم عن السَّبب قالوا: لن نوظِّف بيننا مَن يُنازعنا على سُلطتنا حتَّى لو تدهور الإنسان والتَّعليم. ولم يقف الأمر عند هذا الحدَّ؛ بل عدَّلوا شهادة جامعيَّة تجاريَّة صادرة من دُكَّان رخيص لبيع الشَّهادات غير المعترف بها، ومنحوا صاحبها شهادتي الماجستير والدُّكتوراه، وعيَّنوه على مبدأ أيزنهاور في سدِّ الفراغ؛ كيلا يأتي أصحاب الكفاءة ويشغلوا المكان؛ ويقضوا على وجود التَّافهين. وفي مكان آخر تحالفت جوقة التَّافهين، وراحت تقدِّم لنا المُهرِّج ناقداً، والدَّعيَّ الرَّخيص أستاذاً جامعيّاً، والطَّبول الفارغة شعراء ونُقَّاداً وأدباء؛ وبعد هذا كلِّه لا بدَّ من ضحكة سعادة حقيقيَّة، نستمتع بها داخل هذه الكوميديا السَّوداء، عندما نضحكها أو نقهقه بها حين نراهم يباركون لبعضهم مناصبهم الجديدة، ومواقعهم المهمَّة، ويتبادلون على منشوراتهم الرَّخيصة شعارات الضَّحك والدَّعم والتَّقبيل والإعجاب!

زر الذهاب إلى الأعلى