طرابلس الشام: جنّة السوريين المقفلة بالشمع الأحمر!
حسيب الزيني – العربي القديم
لم يكن يعلم أبو بلال الثائر على حكم الأسد، أن اسمه كان متداولًا على ألسنة أهل منطقة باب التبانة بمدينة طرابلس اللبنانية، كيف لا وهو أحد أبرز ثوار حي باب السباع الحمصي الذي ذاع صيته كأبرز أحياء المعارضة لحكم الأسد عام 2011.
ما إن ترجل من الحافلة واجماً، ووطأت أقدام عائلته الهاربة أحد الأزقة، حتى تجمهر حولهم الأهالي واحتفوا بهم، وتدافع بعضهم من أجل تقديم المساعدة، من مسكن ومأكل، وكلام طيب يشي بالأمان المنشود، بعد خراب حمص، وتدمير المدفعية والطائرات الحربية البيوت فوق رؤوس أصحابها.
كان التعاطف السمة الأبرز التي اتشحت بها مدينة طرابلس، مع أهالي حمص التي كانت أسواقها مقصدًا موسميًا لهم للتبضع، فأكرموا وفادتهم قدر المستطاع مدركين أن الحماصنة دفعوا كغيرهم من السوريين ثمن مطالبتهم بالحرية دمًا وتعذيبًا ومجازر، قبل أن يتبين أخيرًا أن الخطوط الحمر التي وضعها أوباما أمام الأسد لم تكن سوى حزامًا ناريًا، ضربه حول كل سوري يحاول إسقاطه.
يتوافد ضيوف أبي بلال من أهالي الحي الطرابلسي، وهم ينصتون مشدوهين لحكاياته الملحمية عن المظاهرات السلمية التي يمطرها رجال الأمن والشبيحة بالرصاص، وعن وحشية جيش طائفي متعطش لدماء الشعب منذ عصور، وعن كل ذلك الدم والخراب، فتؤجج قصصه عمّا جرى في حمص ذلك الغضب الدفين في المدينة الشقيقة طرابلس، ويفتح سيلًا من الشتائم لهذا الرئيس “الولد”، ولأبيه الخبيث الذي عاث فسادًا في لبنان، وأدخل أهالي طرابلس طوال عقدي الثمانينيات والتسعينيات في دوامة من القمع والترهيب والاغتيالات.
ولم يكن يعلم أبو بلال الثائر الحمصي البسيط، أن طرابلس الحاضنة الرؤوم، ستتحول إلى جهنم مستعرة تتقلب فيها أجساد السوريين!
فمع شظف العيش، وألاعيب السياسة، وقلّة الحيلة أمام جبروت وفساد، وتبعية الضغمة الحاكمة في لبنان، أصبح السوري منبوذًا في مدينة كريمة، وذليلًا في مدينة رشيد كرامي!
لكن أبا بلال الثائر الحمصي العتيق واللاجئ المتعب، برر لأهل طرابلس انقلاب مزاجهم التعاطفي إلى تململ صارخ من وجود السوريين، “الناس يا أخي ليسوا ملائكة”، قال ذلك بمرارة، وهو يحك جبينه المغضن.
بعد أن سُرقت دراجته النارية، من أمام مدخل البناية مرتين، وزاد صاحب البيت المهترئ الإيجار إلى الضعفين، وأجلست قرارات محافظ الشمال ولديه الشابين في المنزل خوفًا من حملات الملاحقات الأمنية لترحيل السوريين، عاد وبرّأ أهالي طرابلس من حملات العنصرية والكراهية، “الناس يا أخي ليسوا ملائكة”، لكن هذه المرة قال هذه العبارة بصوت مرتجف وعينين هائمتين.
تحدثت إلى ابنه بلال، خريج جامعي، انشق عن جيش النظام عام 2011، وفرّ لاحقًا إلى طرابلس، وطرد من عمله في إحدى مقاهي طرابلس، ثم من مصنع بلاستيك، بسبب قوانين مشددة تمنع تشغيل السوري.
لم يكن بلال مختلفاً عن والده سوى بطريقة الخلاص، فأبو بلال مازال متمسكًا بأمل العودة إلى حمص بعد زوال النظام، أما ولده بلال، فلا خلاص كما يرى إلّا بالهجرة من لبنان إلى أوروبا، لكن طريقه مسدود، إذ حاول الهرب عبر البحر بصحبة أصدقائه من مدينة طرابلس نفسها، لكن محاولاتهم باءت بالفشل، فالأمن اللبناني، “عادل في إذلال السوريين وإذلال أهل طرابلس”، يقول ذلك ضاحكًا.
تعاطف أهالي طرابلس مع عشرات آلاف العلائلات السورية اللاجئة، لم يتوقف يومًا، وإن شابت المدينة أجواء من التململ الناجم عن قسوة المعيشة، واقتصاد المدينة المتهالك، وتحريض شخصيات سياسية عنصرية على السوريين، التي تدأب بلا هوادة على سن قوانين إغلاق دكاكين ومساكن السوريين، وختمها بالشمع الأحمر، بهدف الضغط على اللاجئين السوريين للعودة إلى العيش بين أنياب الأسد طوعاً أو قسراً، وتحت شعار صبياني وضيع: “حملة تحرير لبنان من الاحتلال الديموغرافي السوري”.
بنظرة عمودية من الأعلى إلى طرابلس، يمكن رؤية المدينة بيئة حاضنة ودافئة للسوريين، بحكم روابط التاريخ والجغرافيا، فهي لا تبعد عن مدينة حمص السورية أكثر من 90 كيلومتراً، والناس في كلتا المدينتين يشبهون بعضهم بعضًا، كما يمكن رؤية مظاهرات في حي هنا وحي هناك داخل المدينة، تدعم السوريين في محنتهم، وواجه كثير من أهالي مدينة طرابلس حملات الكراهية، ومظاهر العنصرية المتنامية ضد السوريين، بالصراخ أحياناً، في البداوي والتبانة وأبو سمرا، وبالتظاهر أحياناً أخرى في ساحة التل عند الساعة العثمانية دعمًا للاجئين السوريين، رغم الحظرالأمني الذي فرضته السلطات في محافظة شمال لبنان، بذريعة اندلاع صدامات مع فئات تطالب بطرد السوريين.
لكن ما إن نهبط إلى قعر المدينة، وندخل أحياءها ونتجول في شوارعها وأزقتها، وننظر في أحداق أهلها المتعبين، حتى نرى كل ذلك الإهمال المتعمد سياسياً واجتماعياً، حيث يسود اقتناع عام لدى أهل طرابلس، بأنهم كانوا ضحايا إهمال مزمن يمتد عقوداً، فعلى الرغم من أن طرابلس هي العاصمة الثانية في لبنان، إلّا أن مشاريع التنمية البشرية والحضرية والثقافية والاقتصادية، لم تأخذ مكاناً لها في تلك المدينة.
ومن بين المفارقات المدهشة وما أكثرها، لا يختلف تقلّب المزاج السياسي والاجتماعي العام في طرابلس كثيراً عن مدن لبنانية أخرى، إذ لا يمكن التخمين عن موقف سياسي جامع تجاه أي قضية، بما فيها اللاجئون السوريون، وكأننا نُصدم في كل موقف جمعي في المدينة حيال أي قضية، حتى في اغتيال زعيم حزب الله حسن نصر الله، لم نجد مظاهر الفرح، أو على الأقل “التشفي الطبيعي، إن لم نقل “شماتة” متوقعة برجل، لم يتوقف يوماً عن خيانة وطنه وإذلال المدينة، وترهيبها طائفيًا بلثغته، وبسبابته التي يرفعها في خطاباته، وبعمامته الإيرانية.
ربما هو الكسل، فالناس لم تعد تهتم بالقضايا السياسية الكبرى التي تصدع الرؤوس بلا فائدة، ومصير المدينة بيد طغمة حاكمة تعيش في قصورها العاجية، وقد يكون الخوف الذي ما زال يستحوذ على كثير من أحرار المدينة اللبنانية التي عاشت أيامًا قليلة من العدالة في زمن رفيق الحريري ربما، واختبرت أزمنة سوداء من القمع والاضطهاد، وإذلال المحاصصات الطائفية، برعاية نظام الأسدين وملالي طهران، والابتزاز المزمن للمدينة بإلصاق تهمة معلبة جاهزة “الإسلام السياسي السني”، وكل هذا كان وما زال بمباركة دولية صامتة، وغير مرئية ومرعبة كالشياطين.
_________________________________________
من مقالات العدد السادس عشر من (العربي القديم) الخاص بطرابلس الشام – تشرين الأول/ أكتوبر 2024