نوافذ الاثنين | القبعات والصبايا والهويات
يكتبها: ميخائيل سعد
أنهيت أعمالي في غازي عنتاب في نفس اليوم الذي وصلت فيه إليها، وكانت الخطة أن أنام في المدينة لأنني قدرت أن أعمالي قد تستغرق يومين، ولكن الحظ حالفني وأنجزتها في يوم واحد، لذلك قررت العودة مساء إلى ماردين.
محطة انطلاق باصات غازي عنتاب.
وبعد أن أجريت بعض الحسابات وصلت إلى نتيجة مفادها أن النوم في الباص أرخص من النوم في الفندق، مستبعدا حسابات الإرهاق، واحتمال وجود جار غليظ في المعقد المجاور، مع ذلك ركبت سيارة تكسي قاصدا محطة الحافلات التي تربط المدينة بمعظم المناطق التركية، مما يتيح للمسافر، الذي يملك متسعا من الوقت، وعينين ناقدتين، تمضية الساعات وهو يراقب حركة الناس وثيابهم وسلوكهم واستقبال وتوديع الأقارب والأصدقاء، وخاصة في الأيام التي تسبق عطلة الأعياد كما هو الحال في وقفة عيد الأضحى.
وصلت إلى المحطة في الساعة السابعة من مساء يوم الجمعة 14 حزيران، وكان الباص الوحيد الذي يمر في ماردين سينطلق في منتصف الليل، فحجزت مقعدا، ثم بدأت جولاتي في المحطة الكبيرة التي عرفتها في زيارات سابقة. أول ما قمت به، بعد الاطمئنان على حجز مقعد السفر، تناول العشاء المكون من قطعتي لحم بعجين وكأس من العيران، الذي ذكرني بأسعار المطارات الخيالية، فقد دفعت مائتي ليرة تركية، وهو مبلغ كبير مقارنة مع الأسعار خارج المحطة التي لا تتجاوز المئة ليرة لنفس كمية الطعام ونوعيتها.
أُقيم بناء المحطة على شكل دائرتين، واحدة بقلب الأخرى، في الدائرة الخارجية المحلات التجارية والمطاعم والمقاهي، وفي الداخلية مكاتب السفريات. وقد ذكرني تصميم المحطة بثقافة الأبنية الدائرية في حضارات العالم، فبالإضافة إلى الموقع الأثري الذي بني على شكل دائري، والمعروف باسم”غوبكلي تبه“، قرب مدينة أورفا، وعمره بحدود 12 ألف عام، والذي تم فيه تدجين القمح للمرة الأولى، تداعت إلى ذاكرتي الأبنية التاريخية الدائرية مثل هياكل ستونهنج في إنجلترا والمباني الدائرية في منغوليا وإيران. كانت هذه الأبنية عادة مرتبطة بالطقوس الدينية والفلكية.
وفي أمريكا الوسطى، طورت الحضارات الأزتكية والمايا والإنكا أشكالاً دائرية للمعابد والقصور، مثل معبد كوكولكان في تشيتشين إيتسا بالمكسيك.
وفي الشرق الأوسط، نجد أمثلة على المباني الدائرية في الحضارات القديمة، مثل القصر الدائري في سامراء بالعراق والقلاع الدائرية في سوريا. في الحضارة الإسلامية، كان هناك تقليد من البناء الدائري في المدن والجوامع والمقابر، مثل قبة الصخرة في القدس وقبر السلطان قلاوون في القاهرة.
ومن المعروف أن الأبنية دائرية الشكل تعكس اعتبارات متنوعة تتعلق بالجانب الروحي والثقافي والهندسي والاجتماعي والبيئي، وذلك بحسب سياق ووظيفة كل منشأة. وربما كان بناء محطة الباصات في غازي عنتاب، رغم حداثته، لا يبتعد كثيرا عن المعاني المذكورة.
تركت الدائرة الأولى من البناء، بعد أن تأكدت من موعد الباص الذي سأسافر به ومكان وقوفه، وانتقلت إلى الدائرة الأوسع، باحثا عن مأخذ كهربائي لأشحن هاتفي منه، وأشرب كأسا من الشاي، وبعد نصف ساعة قررت الخروج من البناء للتجول على الأرصفة الموزعة على مواقف للباصات.
الفتيات والقبعات والأزياء
كان أمامي أربع ساعات قبل الصعود إلى الباص المتجه إلى ماردين، وفي محاولة لتمضية هذا الوقت الطويل كان لا بدّ لي من تسلية نفسي فبدأت بمراقبة أزياء المسافرين محاولا تصنيفها فوجدت: أزياء قومية كلباس الرجال من أصل كردي، وثياب نسائية ملونة والتي يمكن أن تكون ريفية الطابع أو كردية، كما كان واضحا الزي الإسلامي ( الحجاب السوري والتركي) مع ثياب حديثة أو مع ثياب إسلامية (مانطو، ثياب طويلة يغلب عليها اللون الأسود)، ثياب رجالية أوروبية الأصل كالطاقم، ثياب عربية (كلابية وحطاطة)، قبعات نسائية متنوعة الأشكال من الصعب تصنيفها، ولكن بعضها له طابع ريفي، وآخر مديني، وثالث أوروبي وهي قليلة. ثياب الشباب والمراهقين، والكثير من الفتيات، رغم الحجاب، كانت أوروبية الطابع وحديثة جدا، وكذلك موديلات حلاقة الشعر. كنت أسمع لغات متعددة: تركية، عربية، كردية، وبعض المفردات الإنكليزية، ومفردات لم. أستطع تحديدها. الظاهرة الأكثر وضوحا وانتشارا كانت الهواتف النقالة، فهي بيد الجميع دون استثناء تقريبا، تصنع وتدير الحياة اليومية للبشر بغض النظر عن أديانهم ومعتقداتهم وأيديولوجياتهم وأعمارهم وقومياتهم.
بعد ساعة من التجول والمراقبة تعبت، ووجدت مقعدا فارغا يتسع لشخصين، فجلست. مرت عدة دقائق قب أن تقف أمامي صبية عشرينية جميلة، تحمل محفظة ظهرة كبيرة، وتضع على رأسها قبعة قش أوروبية دائرية، عريضة الحواف، كي تحمي الوجه والعيون من أشعة الشمس، قالت كلاما لم أفهمه، فأجبتها بالفرنسية، لتقديري أنها أوروبية، بسبب قبعتها وثيابها، قائلا: إنني لم أفهم ما قلته.
صاحت بالفرنسية مسرورة: آه، أنت تتكلم الفرنسية؟
قلت لها: نعم.
قالت: أتسمح لي بالجلوس بجانبك؟
قلت لها بلهجة حيادية، رغم سعادتي ”الباطنية“: تفضلي، مشيرا إلى المقعد الشاغر.
كانت فتاة تركية، تدّرس اللغة الإنكليزية، وتعرف الفرنسية قليلا، تبلغ من العمر 30 عاما، متزوجة دون أطفال، وكانت تريد اللحاق بزوجها الذي سبقها إلى انطاليا لقضاء الإجازة الصيفية. تحدثنا في كل شيء: عن التعليم في تركيا، عن موقع المرأة التركية وحقوقها، عن الزواج والطلاق. كانت لطيفة جدا وشفافة وواثقة بنفسها وتعرف حقوقها وواجباتها، بالخلاصة فيها كل صفات المرأة الغربية.
قبل أن أترك مقعدي، لتفقد حافلتي، سألتها السؤال الأخير: لماذا اخترت الجلوس بقربي؟
قالت: رأيت قبعتك الأوروبية، التي لفتت انتباهي، فقررت الجلوس.
جاء الباص المتجه إلى أنطاليا، فساعدت الصبية في نقل أغراضها، وودعتها متمنيا لها سفرا مريحا، وقمت بجولة جديدة في المحطة متفقدا حافلتي التي قيل لي إنها ستتأخر ساعة، شربت خلالها كأسا من الشاي، وعدت باحثا عن مقعد شاغر للجلوس. لمحت من بعيد امرأة تتهيأ لترك مقعدها فأسرعت باتجاهها، ووصلت في الوقت المناسب، فجلست دون أن أنظر من يجلس بجواري: كانت فيه صبية ثلاثينية محجبة، تحمل وجها طفولي الملامح، قالت بالعربي: كأني أعرفك.
قلت لها: لا أظن، أنا أعيش في ماردين.
قالت: ّل أنت في الجامعة؟
قلت لها: نعم في قسم التاريخ.
قالت: الآن عرفتك، كنت أراك في الجامعة وأنت تضع قبعتك الأوروبية هذه، وكان طلاب قسمنا، أنا في العلوم السياسية، يتحدثون عنك لأنك كبير السن، وقادم من كندا، ودائما تضع هذه القبعة المميزة.
عرفت أنها لاجئة سورية، وعندها ثلاثة أطفال، وهي في الثلاثين من العمر، وتسكن مع عائلتها في انطاكية، ولكن تذهب في الامتحانات إلى ماردين لتقديم الامتحانات، وإنها سنة ثالثة علوم سياسية. أكبرت فيها هذه الهمة والرغبة في الدراسة، رغم ظروفها العائلية الصعبة. قلت لها: ما دور قبعتي في تذكرك لي؟
قالت: لو كنت في سورية لما لفتت انتباهي، لأن بعض الرجال هناك يضعون هذه القبعات، ولكن في ماردين هي ملفتة للانتباه لأنها نادرة، كما أن وجود طالب في الخامسة والسبعين نادر أيضا. وتذكرت أن أكثر من طالبة جامعية كانت قد سألت الصبية التركية التي تمشي معي: لماذا هذا الرجل يضع هذه القبعة ”الجميلة“؟
فتجيب: إنه كندي. وكان الجواب كافيا في الغالب.
القبعة والهوية
في العودة لسؤال القبعة، لا بدّ من الإشارة إلى أن هناك مجموعة من الأسباب وراء تغطية الرأس للرجال، منها: الأسباب الدينية والروحية، والأسباب التقليدية والثقافية، والأسباب التاريخية.
بشكل عام، تغطية الرأس للرجال في الأديان ترتبط بالجوانب الدينية والروحية والثقافية والتاريخية والاجتماعية المختلفة لكل دين، ومثال ذلك الواقعة التالية:
في الشتاء الماضي كان أحد الدكاترة في الجامعة يضع على رأسه قبعة (كاسكيت) تحمي صلعته من البرد القارس. أحد الأيام رأيته دون قبعة، فسألته: لما لا تضع قبعتك في هذا البرد الشديد؟ قال: نصحني أحد الزملاء بعدم وضع هذه القبعة ”الغربية“ على رأسي، لأن بعض الدكاترة المؤدلجين يقولون عن لابسي القبعة الأوروبية ”إنهم متأوربون“، أو هم من أنصار كمال أتاتورك، وفي كلتا الحالتين هذا اتهم خطير، لذلك لم أعد أضع قبعة. وكانت مناسبة لقراءة قانون القبعات الذي أصدره كمال أتاتورك في عام 1925، والذي ينص على منع لبس الطربوش أو القبعات الإسلامية، والحكم بالسجن على من يخالف القانون بثلاث سنوات سجن، وقد وصل الأمر إلى إعدام أحد المشايخ الذي رفض تنفيذ قانون أتاتورك.
كان أتاتورك يهدف من وراـد سن قانون القبعات إلى إحداث تغيير ثقافي وإنشاء هوية تركية جديدة تقوم على القيم العلمانية والعصرية..
كان إصدار قانون القبعات في عام 1925 أحد الإجراءات التعسفية التي اتخذها كمال أتاتورك لتعزيز التحديث والعلمانية في تركيا الحديثة.
قبل هذا القانون، كان الرجال التقليديون في تركيا يرتدون العمائم والأغطية الرأس الدينية الأخرى. ولكن أتاتورك رأى أن هذه الممارسات كانت تعكس تمسك المجتمع بالتقاليد القديمة والقيم الدينية، والتي كانت تتعارض مع رؤيته لتحديث وعلمنة المجتمع التركي.
قلت للدكتور، عندي سؤال: كيف نفسر قبول الأتراك لفرض السلطان محمود الثاني للطربوش، الذي جاء في إطار الإصلاحات التي قام بها بضغط من الأوروبيين، بينما رفضوها عندما جاءت من قبل أتاتورك، الذي أراد، ربما، تقليد الغرب؟
هل القبعة هي فعلا مسألة هوية؟؟؟
QyIPXVsa