دلالات وقضايا | لماذا نحبُّ تشومسكي: شعبيَّة المثقَّف العضويِّ وجماهيريَّة الأقزام
بقلم: مهنا بلال الرشيد
وُلد أفرام نعوم تشومسكي في السَّابع من ديسمبر/ كانون الأوَّل 1928 في مدينة فيلادلفيا أكبر مُدن ولاية بنسلفانيا الأمريكيَّة، أبوه وليام زيف تشومكسي مهاجر أوكرانيٌّ هرب من التَّجنيد الإجباريِّ في الإمبراطوريَّة الرُّوسيَّة سنة 1913، ودرس في جامعة جون هوبكينز، وتزوَّج من المهاجرة البيلاروسيَّة إلسي سيمونفسكي، وعمل أستاذًا ثمَّ مديرًا في مدرسة يهوديَّة، ثمَّ أنجب ابنه الأوَّل أفرام نعوم تشومسكي من زوجته إلسي سنة 1923، ثمُّ عُيِّن في كلِّيَّة غرانز بوصفها أقدم مؤسَّسة لتدريب المعلِّمين، ثمَّ صار رئيسًا لهيئة التَّدريس فيها سنة 1932. شُغِف والد تشومسكي بفقه اللُّغة العبريَّة وتاريخها، وآمن بنشر الوعي بين النَّاس؛ ليكونوا مستقلِّين وجديرين بالعيش الحرِّ الكريم، وقد تأثَّر الابن بأفكار أبيه؛ فنشأ في جوٍّ من الحرِّيَّة الفكريَّة، وتربَّى في كنف عائلة مناهضة للظُّلم والطُّغيان، الَّذي اكتوت بناره، وهربت من لظاه، وكانت هذه العائلة محبَّة للعلم والتَّعليم والحرِّيَّة وفقه اللُّغات القديمة، فكانت ظروف نشأة تشومسكي الابن شبيهة بظروف نشأة علماء العصور القديمة والوسطى من تلامذة أفلاطون وأرسطو والقدِّيس أوغسطين، الَّذين نهلوا من مبادئ الفلسفة وأساسيَّات الجدل والتَّأويل، وحفظوا أساليب البلاغة القديمة، وتعلَّموا أساسيَّات الحِجاج والخطابة؛ وهذا سينعكس غِنًى وتنوُّعًا على شخصيَّة ابنهم أفرام نعوم تشومسكي.
نشأة تشومسكي ودراسته
تلقَّى أفرام نعوم تشومسكي -الَّذي سيشتهر باسم تشومسكي أو نعوم تشومسكي فيما بعد- تعليمًا أساسيًّا مختلفًا، يمكننا أن نعدَّه مزيجًا من التَّعليم التَّفاعليِّ مع التَّعليم القائم على الميول والاتِّجاهات. وبالإضافة إلى جوِّ الحرِّيَّة الفكريَّة، الَّذي تربَّى عليه في عائلته، حصل على تعليمه الأساسيِّ في مدرسة أوك لين كونتري دي المستقلَّة، الَّتي تراعي ميول تلاميذها، وتنمِّي اهتماماتهم، الَّتي يحبُّونها بعيدًا عن مسابقات القبول التَّنافسيَّة، الَّتي تنحِّي بعض الطُّلَّاب بعد امتحانات للقبول، قد لا تكون عادلة، وربَّما لا تكون نتائجها صادقة، وفي هذه المدرسة كتب تشومسكي مقالته الأولى عن انتشار الفاشيَّة بعد سقوط برشلونة في الحرب الأهليَّة الإسبانيَّة، ثمَّ انتقل إلى مدرسة سنترال فلادلفيا الثَّانويَّة، وراح ينتسب إلى مجموعة من النَّوادي الفكريَّة في ظلِّ معاناته مع أسلوب التَّعليم التَّقليديِّ الصَّارم في هذه الثَّانويَّة. وانتسب بعد الثَّانويَّة إلى جامعة بنسلفانيا سنة 1945، وراح يدرس الفلسفة واللِّسانيَّات فيها، وتأثَّر بأستاذ اللِّسانيَّات زيليج هاريس، خلال دراسته في مرحلة البكالوريوس، وتزوَّج سنة 1949من زميلته كارول دوريس كاتس، الَّتي عرفها منذ طفولته، وأنجب منها ابنتيه: أفيفا ودايان وابنه هاري، وعاش معها في فلسطين مدَّة من الزَّمن؛ لكنَّه لم يستطع تحمُّل الشَّحن الأيدولوجيِّ الصُّهيونيِّ والحماسة القوميَّة اليهوديَّة بسبب نشأته الفكريَّة المتحرِّرة.
التقط تشومسكي من أستاذه زيليج هاريس فكرة التَّحوُّلات في التَّحليل الرِّياضيِّ قبل حصوله على الإجازة الجامعيَّة أو درجة البكالوريوس، وراح ينظر إلى تحوُّلات المفاهيم الإدراكيَّة عند تحويلها إلى بنية لغويَّة ودمجِها في ضوء نظريَّات التَّحويل والتَّحوُّلات الرِّياضيَّة، وقدَّم رسالته في الماجستير حول قواعد الصِّيغ الصَّرفيَّة في اللُّغة العبريَّة سنة 1951، وقرأ لجورج أورويل وبرتراند راسل وروزا لوكسمبورغ وكارل كورش، وراح يقرأ في مجلَّة السِّياسة اليساريَّة ومجلَّة الماركسيَّة الحيَّة في ظروف عالميَّة استثنائيَّة، كان يراقب خلالها تحوُّلات العالم كلِّه في ظلِّ الحرب العالميَّة الثَّانية بين 1939-1945، ثمَّ حصل تشومسكي على درجة الدُّكتوراه في الدِّراسات اللُّغويَّة من جامعة بنسلفانيا عام 1955، وراح يطوِّر أفكاره في أطروحة الدُّكتوراه، وتوسَّع فيها، ونشرها بعنوان: (التَّراكيب النَّحويَّة) سنة 1957.
كيف صار تشومسكي كاتباً موسوعيّاً؟
حتَّى تكون كاتبًا أو مفكِّرًا موسوعيًّا مثل تشومسكي في وقتنا الرَّاهن تحتاج إلى أربعة عوامل رئيسة لا يمكن الاستغناء عن أيِّ واحد منها؛ أوَّلًا-وقبل كلِّ شيء-يجب أن تمتلك الاستعداد الفطريَّ أو الحيويَّ؛ أي يجب أن تمتلك درجة عالية من درجات الذَّكاء مع القدرة على تنظيم وقتك وترتيب أفكارك للاستفادة من ذكائك وتوظيفه. وثانيًا: لا بدَّ من أن تنشأ على التَّفكير الحرِّ بعيدًا عن أيديولوجيَّتك الحزبيَّة الضَّيِّقة أو أيديولوجيَّة مموِّلك الممزِّقة، ويجب أن تُربَّى أيضًا تربية ديمقراطيَّة تنهل من روافد متعدِّدة بجوار تلقِّي مبادئ العلوم المهمَّة، وتتفوَّق منذ صغركَ في أساسيَّاتها؛ مثل الفلسفة والمنطق والرِّياضيَّات وأساليب البلاغة وفقه اللُّغات. وثالثًا: يجب أن تملك البصيرة النَّافذة إذا عشتَ في ظروف تَحَوُّلٍ واضطراب استثنائيَّة؛ مثل ظروف ما بعد الحرب العالميَّة الأولى وخلال الحرب العالميَّة الثَّانية، الَّتي عاش فيها تشومسكي، وعاش مثلها من قبله عبد الرَّحمن بن خلدون صاحب المقدَّمة؛ فراقب سقوط الأندلس والممالك الأندلسيَّة، وكتب مقدِّمته الخالدة، وأخذ منها العِبَر في كتابه: العِبَر وديوان المبتدأ والخبر. ورابعًا: يجب أن تكون قادرًا على تطوير نفسك من خلال فهم آراء الآخرين المهمَّة؛ للاستفادة منها، والبناء عليها، قبل تخطِّيها أو تجاوزها أو إضافة شيء جديدٍ إليها؛ كيلا تكون مجرَّد ببَّغاء مقلِّد أو آلة تسجيل، تحفظ آراء الآخرين، وتروي أشعارهم، وتنشدها، وتنقل آراءهم دون أن تفهمها أو تعيها، فكم نصطدم بنقلة نصوص التَّراث وحفظة آراء الأئمَّة المجتهدين دون وعيها في أبواب العلم والمعارف كلِّها.
ويومًا بعد آخر-وفي ظلِّ ثورة السُّوريِّين ضدَّ المجرم بشَّار الأسد على سبيل المثال-تجد مِن المؤدلجين بوعيٍ أو دونَ وعيٍ مَنْ يردِّد آراء البوطين معًا، ويقول لك: قال البوطي، أو قال ابنه، مع أنَّ البوطي وابنه ليسا من قادة المؤدلَجين المستفيدين من الأدلجة بعيدًا عن الحرِّيَّة وحسب، بل هما مِن عُمدة مروِّجي أيديولوجيا البعث بقناع دينيٍّ، وإن كان البوطي وابنه مثالًا واضحًا عن تأثير الأيديولوجيا الدِّينيَّة أو القوميَّة في نشأة الباحث الموسوعيِّ فإنَّ أيديولوجيا التَّربية الأساسيَّة والتَّعليم الأكاديميِّ تفعل فعلها في المؤدلَجين أيضًا؛ فَكَمْ مِن أستاذ لسانيَّات جامعيٍّ أو باحث في علم اللُّغة الاجتماعيِّ يكرِّر قول الأستاذ محمود السَّعران؛ فيقول: نحنُ نفكِّر بجمل؛ مع أنَّنا نفكِّر بعمليَّات منطقيَّة، والجمل مُخرجاتها، والجملُ ليست أدوات تفكيرنا أبدًا! وكم من أستاذ آخر يردِّد آراء الأستاذ تمَّام حسَّان بوصفها مسلمَّماتٍ أو نصوصًا مقدَّسة، مع أنَّ حسَّان ترجم كثيرًا منها كآراء فيلولوجيَّة تصدق على اللُّغة الإنكليزيَّة، ولا تصدق على اللُّغة العربيَّة، وهناك آخرون يردِّدون آراء علي عبد الواحد وافي أو كمال بشر أو عبدة الرَّاجحيِّ أو عمر عبد الكافيِّ أو فاضل السَّامرَّائيِّ وغيرهم من اللِّسانيِّين العرب، وأنا ههنا لا أنتقد هؤلاء الأساتذة الأجلَّاء كلَّهم بل أنتقد عَجزِ الببَّغاوات المقلِّدين من الحفظة النَّاقلين عن الفهم والاستيعاب مقابل امتلاك بعضهم ذاكرة حفظيَّة ببَّغاويَّة متميِّزة، أمَّا التَّجديد المؤصَّل فيعجز عنه الكثيرون، وليس ببَّغاوات الحفظ وحدهم.
كيف صار تشومسكي مثقَّفاً عضويّاً ذا شعبيَّة واسعة؟
سنشير في نهاية هذه الفقرة إلى بعض من كُتب تشومسكي ونظريَّاته الَّتي تكشف عن موسوعيَّته وشعبيَّته بوصفه مثقَّفًا عضويًّا لا كاتبًا جماهيريًّا؛ وههنا لا بدَّ من التَّفريق بين الشَّعبيَّة والجماهيريَّة قبل الحديث عن مفهوم المثقَّف العضويِّ؛ فَبَيْنَ الشَّعبيِّ والجماهيريِّ فرق كبير؛ فقد تَرُوجُ أغنية هابطة برغم كلماتها البذيئة أو تصويرها المخلِّ بالآداب أو مضمونها السَّطحيِّ التَّافه، وقد ينتشر بودكاست لواحد من طبول صانعي المحتوى أو مسِّيحة الخوج المحاورين من المهووسين بالظُّهور الإعلاميِّ؛ فتحظى بودكاستاتهم بمشاهدات لا بأس بها أو إعجابات مقبولة نسبيًّا برغم عدم تناسب جماهيريَّتها مع الإنفاق الكبير على الإعلانات المموَّلة أو البروبّوغاندا والضَّخِّ الإعلاميِّ، الَّذي يروِّج لها؛ لكنَّها-برغم هذا كلِّه-لن تصبح تراثًا شعبيًّا؛ لأنَّ الجمهور يشعر ويميِّز تمامًا مَنْ يصنع المحتوى والفُرجة الاستعراضيَّة لترويج نفسه مِمَّن يصنع وعيَها بكُتبه أوَّلًا ومناظراته ثانيًا ومحاضراته ثالثًا ونقده اللَّاذع رابعًا بعيدًا عن التَّكسُّب من خلال ترويج أيديولوجيا المموِّلين خامسًا؛ فيغدو بذلك الكاتب-النَّاقد مثقَّفًا شعبيًّا عضويًّا لدى الجماهير برغم عدم اهتمامها بتسجيل إعجابها بنقودِه مقابل تبنِّيها كمنهج في الحياة وصناعة الوعي، ويرفعونه فوق مروِّجي الأيدولوجيا من طُبول المموَّلين، الَّذين يدسُّون السُّموم في الدَّسم، ويضلِّلون بعض الجماهير، ويخدعونها بدعوى أنَّهم يقدِّمون لها الثَّقافة، ويصونونها من الضَّياع، والحقُّ أنَّ طبول المحاورين والمقدِّمين المسبِّحين بمجد المموِّلين يقودون الجماهير مثلما يقود المرياع القطيع نحو الهاوية بعدما استعذبت نِعاجُه موسيقا جرس المرياع المنفوخ.
وهذه بعض عناوين كتب تشومسكي، الَّتي تكشف عن انتشار أفكاره حتَّى صارت ثقافة شعبيَّة، وغدا بسببها مثقَّفًا عضويًّا ذا شعبيَّة واسعة؛ لأنَّه عايش هموم الشُّعوب المقموعة في لحظات حرجة من لحظات الاضطراب السِّياسيِّ على مستوى العالم خلال أكثر من نصف قرن، واستطاع أن يبسِّط التَّحليل اللِّسانيَّ بعيدًا عن تعقيد المعادلات الرِّياضيَّة برغم استفادته منها؛ فقدَّم تحليلات منطقيَّة، وتأويلات مقنعة، راجت من خلالها نظريَّاته حول الدَّمج والتَّحويل وأحيائيَّة اللُّغة وتشابك العلوم البينيَّة أو نظريَّة كلِّ شيء في محاولة واضحة للاستفادة من تشابك العلوم البَينيَّة أو من كلِّ فكرة مجدية لتحويلها إلى أداة أو وسيلة يمكن دمجها وتوظيفها والاستفادة منها في التَّحليل الشُّموليِّ ضمن نظريَّته في كلِّ شيء؛ ونذكر من كتبه:
بنيان اللُّغة
اللُّغة ومشكلات المعرفة
غريزة الحرِّيَّة
ماذا يريد العمُّ سام؟
قراصنة وأباطرة
أوهام الشَّرق الأوسط
أشياء لن تسمع بها أبدًا
نظريَّات تشومسكي
تطوَّرت أفكار تشومسكي كثيرًا قبل كشفه عن رغبته بإيجاد نظريَّة متكاملة ضمن منهج نقديٍّ وأدوات تحليل شاملة تصلح لدمجها والاستفادة منها في دراسة كلِّ شيء، أو في دراسة أيِّ قضيَّة بوصفها نصًّا قابلًا للتَّحليل والدِّراسة؛ كالحرب العالميَّة الثَّانية مثلًا، أو حرب تمُّوز أو طوفان الأقصى، أو تحليل لغة الجسد أو سيمياء الصُّورة في مقابلة ما، أو تفكيك نصٍّ شعريٍّ أو خطابٍ سياسيٍّ أو محاضرة أو نبوءة من نبوءات التَّعافي المبكِّر! لكنَّ نظريَّة التَّوليد والتَّحويل أو النَّحو التَّحويليِّ أو اللِّسانيَّات التَّوليديَّة تبقى واحدة من أشهر نظريَّات تشومسكي في المجتمعات العربيَّة برغم أنَّ تشومسكي ذاته تجاوزها، وبنى عليها في إطار نظريَّته عن كلِّ شيء؛ تلك الَّتي وصل إليها بعدما طوَّر الحديث عن التَّحويل والتَّوليد إلى نظريَّة الدَّمج، ثمَّ وظَّف نظريَّة الدَّمج خلال حديثه الواسع وتحليله لنظريَّته حول أحيائيَّة اللُّغة أو أصلها البيولوجيِّ الأحيائيِّ وتوظيف هذا الأصل الأحيائيِّ مع الدَّمج والتَّحويل والتَّوليد في إطار نظريَّة واسعة قد تغدو صالحة لدراسة كلِّ شيء.
برغم شهرة تشومسكي الواسعة ومناظراته مع كبار الفلاسفة والعلماء والمثقِّفين واستضافته ليحاضر في كبرى المراكز الثَّقافيَّة وأشهر الجامعات العالميَّة، برغم انتشار أفكاره وتناميها وتطوُّرها ما زال كثير من الدَّارسين العرب والجامعات والمراكز البحثيَّة العربيَّة لا تعرف عن تشومسكي إلَّا بعض أفكاره عن التَّحويل والتَّوليد؛ أي النَّحو التَّحويليِّ واللِّسانيَّات التَّوليديَّة؛ أي أنَّهم لم يُحدِّثوا أفكارهم عن تشومكسي منذ خمسين سنة تقريبًا، وإن استطعت بشكل من الأشكال أن تتغاضى عن جهل بعض مراكز الأبحاث العربيَّة بتطوُّر فكر تشومسكي فإنَّك قد تشعر بالاستغراب إذا عرفتَ أنَّ بعض الأقسام المختصَّة باللِّسانيَّات والدِّراسات والمخابر اللُّغويَّة في بعض الجامعات العربيَّة ترفض دراسة تشومسكي أو ترفض تسجيل بعض الأبحاث الَّتي تدرس نظريَّاته القديمة أو الحديثة، وينطلق بعضهم من منطق الحرص على التُّراث العربيِّ، ويرى بعضهم أنَّ توجيه الطُّلَّاب إلى دراسة التُّراث العربيِّ أكثر نفعًا من دراسة فكر تشومسكي، وربَّما لم يقرأ الرَّافضون أيَّ كتاب من كتب تشومسكي بلغته الإنكليزيَّة الأصليَّة أو في نسخته المترجمة إلى اللُّغة العربيَّة.
تزبَّبَ قبل أن يتحصرم!
شهدتُ بعض محاولات الأقزام للحديث في كلِّ شيء دون امتلاكهم كتابات تكشف عن ثقافتهم الموسوعيَّة؛ وههنا عندما نسمِّيهم بالأقزام ننطلق من مقاربة موضوعيَّة لا من موقف شخصيٍّ؛ فتشومسكي-على سبيل المثال- كتب عشرات الكتب، وقدَّم عشرات المحاضرات، وفي زحمة التَّنافس على استضافته للحديث عن أدواته في التَّحليل والقراءة وشرح بعض أفكاره المبثوثة في عشرات من كتبه كان مؤمنًا بأنَّ (الحكمة ضالَّة المؤمن)، وكان ينتظر مَن يريد أن يسأله أو يحاوره بعد الانتهاء من تقديم محاضراته، وكان يشرح ويُجيب بكلِّ تواضع، حتَّى لو كانت الأسئلة بسيطة، أو إن أخذت وقتًا طويلًا؛ وهذا ما أكَّد ثقافته العضويَّة بعد أن راجت أفكاره بأسلوبه المبسَّط، وصارت ثقافة شعبيَّة، ولم يتحرَّج تشومسكي من الاعتذار عن الإجابة عن سؤال يجهله، بخلاف بعض المتزبِّبين العرب، والمتزبِّبون العرب -حتَّى لا تُفهم هذه الكلمة خطأً- هم أدعياء ثقافة وممثِّلو تثقيف، ينطبق عليهم معنى المثل العربيِّ: (تزبَّبَ قبل أن يتحصرم)؛ أي صار يحكي بين النَّاضجين والنُّقَّاد والمفكِّرين من أهل الاختصاص مع أنَّه ليس منهم، ولم يسبق له أن كتب لا في اختصاصه الدَّقيق أو اختصاصهم الَّذي يتسلَّق عليه، ومن أمثلة هذا التَّزبُّب أعرفُ شخصًا غير مختصٍّ بالعلوم الاجتماعيَّة درَّس مادَّة دراسيَّة من مواد علم الاجتماع؛ فصار يفُتي في العلوم الاجتماعيَّة مثل عبد الرَّحمن بن خلدون، وراح يتحدَّث للطُّلَّاب -في كذب استعراضيٍّ- عن انشغاله في تأليف كتاب مهمٍّ في العلوم الاجتماعيَّة، وهناك مقدِّمٌ هاوٍ من مقدِّمي البودكاست ادَّعى بأنَّ شخصًا من المفتونين بالمزبَّبين العرب سأله عن رأيه بنزار قبَّاني؛ فلم يُحِلْهُ المزبَّبُ إلى النَّاقد المختصِّ؛ بل راح يهذي للمفتونين فيه عن جماليَّة الالتزام في الأدب العربيِّ وعند نزار قبَّاني، وعدَّد خصائص الأدب الملتزم، وشَطَحَ مع سائله، وراح يهذي في تعداد أسباب تفوُّق الرِّجال على النِّساء في فنون البكاء والرِّثاء، وأكَّد في خلطة هذيان غريبة أنَّ كثيراً من الشِّعر القصصيِّ شعرٌ سطحيٌّ مع بعض الاستثناءات مع أنَّ شرط الوحدة العضويَّة لقبول أيِّ نصٍّ شعريٍّ يجعل منه قصَّة شعريَّة، قد تروي مشهدًا أو لمحة قصيرة، وربَّما تطول، وتتناغم لوحاتها ومشاهدها المتعدِّدة!
والحقُّ أنَّ مثل هذا (الهذيان الموسوعيِّ) إن جاز التَّعبير لا يجرؤ على البوح به أو الحديث عنه إلَّا محبٌّ للظُّهور أو باحث عن الجماهيريَّة المزيَّفة بأيِّ شكل من الأشكال، لا سيَّما إن توفَّر لديه مَن يموِّله، أو ينفخ فيه، أو يمسح على أردانه عند كلِّ هذيان أمام آلات التَّصوير هنا وهناك! وإن كان من حقِّ أيِّ قارئ عربيٍّ أن يبدي برأيه بين خواصِّه بتراثه أو بأيِّ موضوع فيه من جانب؛ فلا شكَّ أنَّ المتابع العربيَّ يسخر من أولئك الَّذين يبدون آراءهم في مسائل لا يفقهون فيها، أو لم يؤلِّفوا في مجالها، ويعتبون على مموِّلهم الَّذي وجد فيهم ضالَّته، الَّتي تشوِّه التُّراث عندما تسلِّمهم نصوصه، وتضعها تحت مباضع المهووسين بالجماهيريَّة الزَّائفة من غير المختصِّين في التَّقديم مثل المذيعة الأمريكيَّة أوبرا وينفري أو في اللِّسانيَّات مثل تشومسكي أو في علم الدَّلالة مثل أحمد مختار عمر أو فايز الدَّاية!