مقامات أمريكية | فليذهب الاستقرار إلى الجحيم
د. حسام عتال
لابد لي من أن أكتب شيئاً، أن أدلو بدلوي كما تقول الكليشيه… كيف لي أن أفوت فرصة للظهور بمظهر المُحلل كلّيّ المعرفة في أيام الانتخابات. هذه الفرصة لن تتكرر حتى عام ٢٠٢٨، و أنا بصراحة لا استطيع الانتظار!
من الصحيح أني لا أفقه شيئاً في السياسة، وهذا ليس لقلة في البحث والقراءة، ولكني كلما تعمقت في الاطلاع على أمور السياسة، أجد نفسي أكثر جهلاً وغباء من الوقت السابق. تخليّتُ عن تلك المحاولات، وقررت أنه من الوهم التظاهر بمعرفة ما يحصل في عالم السياسة، فحتى الساسة أنفسهم لا يفقهونها، كما أظن. في المحصلة، هناك فقط قوى تفرض نفسها على الأحداث، لا أكثر. قد يقول البعض أن هذا تحليلاً بذاته، ولكني لأجده تحليلاً، بل منطقاً بسيطاً، منطق القوة. المنطق الذي يمارسه البائع في السوق، والمدّرسة في صفها، والقسيس في كنيسه، والزوجة في بيتها. وهو ماثل في كتابات صن تسو، وابن خلدون، ومكيافللي، وبسمارك، وكيسنجر، وهنتنجتون. فأصبحت بسبب ذلك مقتنعاً بنظريات المؤامرة، وبأن الغاية تبرر الوسيلة، وبأن الحضارات في صراع دائم تتخلله فترات سلم، هدنات قصيرة تحضّر فيها الشعوب معركتها القادمة.
لذلك عندما يسالني الناس عمّن سأصوت في الانتخابات الأميركية القادمة، هل هو ترمپ أم هي هاريس، أخبرهم أني سأصوت لمرشحة أخرى، وهي امرأة يهودية اسمها جيل ستاين.
من؟ يتسأل الأصدقاء، هل هناك خيار ثالث غير مرشحي الحزبين الديمقراطي والجمهوري؟ والجواب هو بالإيجاب، نعم هناك آخرين، لكن من الصعب التعرف عليهم في الولايات المتحدة، أو خارجها، لأن التركيز الإعلامي هو على مرشحي الحزبين الديمقراطي والجمهوري – أمريكا بلد حزبين وليس بلد متعدد الأحزاب.
كيف حصل ذلك؟
لكي نفهم ذلك علينا العودة إلى وقت نشوء الولايات المتحدة عند استقلالها عن بريطانيا في القرن الثامن عشر. بعد الثورة وحرب الاستقلال أحس المواطنون بالاستقرار، ثم بدأ الاختلاف فيما بينهم والتحزب. كبار الساسة وقتها خشوا من هذا التطور، وكانوا محقين، فقال هاملتون “إن الأحزاب مرض مميت”، أما واشنطن فقال “هذه الأحزاب ستؤدي إلى دكتاتورية مخيفة”، وردد تلك المخاوف آخرون.
الاختلافات، في البداية، كانت على دور سلطة الفيدرالية المركزية مقابل السلطات الممنوحة للولايات. الفيدراليون، بقيادة هاملتون، خسروا المعركة في النهاية لصالح مناصري سلطة الولايات. وهؤلاء الرابحون كانوا نواة الديمقراطيون والجمهوريون الذين نعرفهم اليوم. في البداية كان الديمقراطيون هم اليمينيون (المناصرون للعبودية) ومعظهم في الولايات الجنوبية، بينما كان الجمهوريون اكثر ليبرالية ومعظمهم في الشمال (أبراهام لنكولن الذي حرر العبيد كان جمهورياً). انقلبت هذه الأدوار في خمسينيات القرن الماضي عندما سيطر المسيحيون الأصوليون على الحزب الجمهوري فأصبح حزب اليمين، وأخذ الحزب الديمقراطي دور اليسار (هذا طبعاً نسبة إلى الجمهوريين فهو في واقعه حزب يميني، إذا قورن بأحزاب أوروبا اليسارية مثلاً).
الرابح يأخذ الكل
إضافة لذلك يجب علينا أيضاً فهم ما يمليه الدستور الأمريكي بما يتعلق بطريقة الانتخابات. في أمريكا يأخذ المرشح كل الأصوات في المقاطعة التي نجح فيها، فالذي يربح أكبر عدد من المقاطعات هو الفائز، وليس الذي يحرز أكبر عدد من الأصوات بالمطلق. بمعنى آخر، الرابح يأخذ الكل وليس فقط الجزء من الأصوات التي أحرزها. الناخبُ ذكيٌ يفهم ذلك، مما يؤدي أنه يفكر بشكل استراتيجي عندما يصوّت، فهو لا يصوت لمرشحه المفضل، ولكنه يصوت للمرشح الأكثر قدرة على النجاح، رغم أنه قد يكون الأقل تفضيلا بالنسبة له. فهو يريد أن يهزم خصمه باختيار المرشح الأكثر قرباً لمصالحه، ولكن بنفس الوقت القابل للفوز، بدلاً عن المرشح المثالي بالنسبة له، والذي قد يكون غير قابل للفوز.
هذا يختلف عما يحصل في أنظمة الدول المتعددة الأحزاب، حيث تتشكل الحكومة من إئتلاف أحزاب يضمن لها غالبية في البرلمان. في تلك النظم، يمكن للناخب أن يضمن المشاركة بالعملية السياسة ولو ضمن حزب صغير. إضافة لذلك، في أمريكا، وبسبب الانتخابات الأولية التي تحصل داخل كل حزب لاختيار مرشحه للرئاسة، يحصل الصراع بين الفئات المختلفة داخلياً ضمن الحزب، وبعيداً عن الموقف السياسي الخارجي العام. هذا يكثف التعاون (رغم العدوانية الظاهرة سطحياً) كي يصل الجميع لاختيار المرشح الأفضل قابلية للانتخاب، هذه الطريقة تمنع تفكك الأحزاب وتقسيمها، كما يحصل فيه البلاد المتعددة الأحزاب، ويرسخ نظام الحزبين، ويجعل إنشاء حزب ثالث صعباً، أو شبه مستحيل. لذلك كي ينشأ حزب ثالث (أو أكثر) يجب تغيير النظام كله، بدأ من الدستور وحتى طرق الانتخاب، وهذا غير ممكن عملياً… وربما أمر حميد أيضاً.
هو أمر حميد لأن معظم الأبحاث والدراسات السياسية تشير إلي أن نظام الحزبين هو نظام أصلح في تسيير أمور البلاد، فهو يضفي استقراراً في الحكم أقوى مما تتمتع به حكومات الدول المتعددة الأحزاب. نظام الحزبين يجعل الفروق بينهما أكثر وضوحاً وحدة، ويعطي الحزب الفائز فرصة جيدة لممارسة سياسته دون تدخل، ومتابعة خطته دون عوائق.
أصدقائي يقولون إنها خيانة
لكني، رغم ذلك، سأصوت لجيل ستاين! أصدقائي يقولون إنها خيانة (أسمع ذلك يومياً)، لأن صوتي سيصبُّ في مصلحة ترمپ. وحسب قاعدة أهون الشرين يقولون أنه عليّ أن أصوت لهاريس فهي أقل خطراً من طرمپ. لا أدري إن كان هذا التقييم صحيحاً فأنا كما ذكرت في البداية جاهل بالسياسة. لكني مؤمن، على الاقل، بأن الديمقراطية تعني القبول برأي الغالبية، وإن كان مخالفاً لرأيي. ففي عام ٢٠١٦، مثلاً، كان هناك ٧٤ مليون أمريكي قد صوتوا لصالح طرمپ، وهذا أمر يستحق التوقف عنده، فلا يمكننا تجاهل أن هذا الكمّ من الناس الذين وجدوا أن طرمپ هو خير من يمثلها.
هناك لاشك شروخ عميقة بين الطرفين في هذه الانتخابات (وفي المجتمع)، وهذه قد لن يمحيها فوز طرف أو آخر، فهناك أمور في المجتمعات لا يمكن تجاوزها، ويجب أن نتعلم العيش معها. الُمنظّر السياسي شانتال موفيه وضع الأمر بالشكل التالي: “هناك صراعات ليس هناك حل عقلاني لها، ولن يوجد، ولهذا السبب العداوات هي من مميزات المجتمعات البشرية.” لهذا السبب أعتقد أن قوة الديمقراطية هي في إدارة تلك العداوات (بدلاً من فرض إجماع كلي) ومنعها من التطور لتصبح حروباً دموية. شخصياً، هذا يعني أن أتنازل عن حقي في الإدارة والحكم عند الخسارة في انتخابات نزيهة، وأن أعطي الآخر حقه عند الفوز، مهما كان ذلك مؤلماً لي، ومهما كانت وجهته مخالفة لرأيي واعتقادي. أوصاف مثل “فاشي” و “عنصري أبيض” لا تفيد ولن تغير شيئاً، ولا أعتقد أنه يجب رميها ببساطة لتغطي ما يقرب من نصف الناخبين.
لكن بغض النظر عن التهمة بالخيانة، والتي لا تزعجني البتة، لا أملك إلا أن ألاحظ أن تلك القاعدة “أهون الشرين” هي نفسها التي كان يستخدمها مناصروها الدكتاتورية في سوريا، وبقية دول العرب، مدّعين أن حكم الدكتاتور هو أهون الشرين، وأنه يجلب استقراراً، وأنه أفضل من الفوضى. أسفي… قد رأينا الاستقرار الذي جلبته تلك الإتهامات التي تريد أن تجعلنا نفكر بشكل واحد، ونمارس بطريقة واحدة، ونصوّت لرئيس واحد – أهون الشرين.
أنا مع الفوضى، وسأصوت لجيل ستاين، وليذهب هذا النوع من الاستقرار إلى الجحيم.