تاريخ العالم

عبد الناصر ظالماً ومظلوماً: 1958 -1961

سأستعير فكرة مجلة “العربي القديم” العابرة للأزمنة، للمستقبل لا إلى الماضي، مجموعة من الباحثين والكتاب الصحفيين على بعُد خمسين عاماً من اليوم، في سبعينيات الألفية الثانية يناقشون نقداً وتحليلاً ثلاث مقالات كتبت عن وضع متأزم عصف بسوريا منذ عام 2011.

جاء في الأول “سنوات العدوان الماضية أجبرت الغرب الاستعماري على استخدام مختلف أساليب وطرائق العدوان المباشر، بدءاً من أكذوبة المطالب كوسيلة للتظاهر، مروراً باستخدام المجموعات الإرهابية على اختلاف أشكالها وتسمياتها، وصولاً إلى التدخل العسكري المباشر في محاولات لتنفيذ الفقرات التفصيلية للمخطط العدواني الهادف إلى السيطرة على مقدرات وثروات المنطقة وسلب قرارها وإرادتها*”.

أما المقال الثاني فحلل الوضع القائم آنذاك، “بينما تريد أنقرة فرض دور لها في أي مفاوضات مستقبلية، ونيل حصتها من كعكة التسوية؛ فإن اللاعبين الكبار، في واشنطن وموسكو، لديهم حسابات ومصالح مختلفة، منها ما يتعلق بمناطق النفوذ، ومنها ما يتعلق بالسباق على قيادة الساحة الدولية. لكن أياً تكن هذه الحسابات؛ فإن الشعب السوري هو من يدفع ثمن فاتورتها الباهظة، سواء بالعقوبات، أو باستمرار النزيف الدموي، طالما أن التسوية المنشودة لا تزال مغيبة*”.

وتَحَدَّثَ المقال الثالث عن “عشرة أعوام رهيبة شهد العالم خلالها حمام الدم السوري، بأكثر من مليون قتيل ومعوّق ومصاب، بلا أي مبالغة، وكارثة إنسانية مراوحة بين مجازر سجون النظام ومآسي عائلات المفقودين، وبين ستة ملايين ونصف مليون مهجر ولاجئ وغارق في مياه المتوسط، ودمار عمراني هائل نال من الحواضر التاريخية وتراثها مع ما رافقه من نهب منظم للآثار وتشويه لمعالم بعض منها عمّر أكثر من ألفي عام، وتمزيق لنسيج اجتماعي عريق صهر التعددية في تعايش مشهود له بسلميته”.

ما النتائج المتوقعة؟ هل ستعتمد الدراسة الصادرة حينها على عوامل موضوعية، سياسية واجتماعية قادرة على تفنيد الكارثة السورية؟ إن فكرة “دراسة الحادثة التاريخية” من المغالطات المنطقية الموروثة، التاريخ ليس عِلماً يقبل الدراسة والبحث، فالعامل الذاتي مدمر للمنهج التجريبي الذي تعتمد عليه العلوم الأكثر دقة كالفيزياء والكيمياء.

مَن الذي يكتب؟ تجاربه، سماته الأخلاقية، تقلباته وتقلبات الحياة معه تحتوي نصف الإجابة، النصف الآخر هناك عند الذي يقرأ ويحلل؟

الموضوعية مسألة شديدة التعقيد في مجال تحكمه الجوانب الذاتية، السوري “البعثي” الذي يكتب عن عبد الناصر، ليس كالسوري الآخر، البرجوازي، الريفي والمدني، كلها صراعات تطرح إشكالاً واسعاً، يقول محمود رياض أحد رجال الوحدة الأوائل والسفير المصري في دمشق: “الصراع لم يكن بأي حال بين عبد الناصر وحزب البعث، وإنما بين السوريين أنفسهم؛ لأن القوى غير البعثية كانت ترفض سيطرة البعثيين على الحكم في سوريا”.

في كتاب (The Black Swan) “البجعة السوداء” للكاتب الأميركي، نسيم نيكولا طالب، الفيلسوف وأستاذ “اللايقين” في جامعة نيويورك، والبجعة السوداء رمز للأحداث النادرة وغير المتوقعة التي تحدث تأثيراً كبيراً في التاريخ والعلم والفن، ينتقد الكتاب بشكل قاطع التفكير العقلاني والمنطقي الذي يحاول قراءة الماضي وتحليله، ويوجه دعوة مفتوحة “للتواضع” خاصة أولئك الذين يعتبرون أنفسهم “خبراء” في مختلف ميادين الحياة، يحثهم على إعادة النظر والتساؤل من جديد حول كل ما يعتبر أمراً بديهياً، فما من يقين فعلي ودائم لأي فكر أو قناعة أو توجه في مسيرة الحياة بشكل عام، ولا لمسيرة الفرد الشخصية، نتيجة وجود “البجعات السوداء” المجهولة، غير المتوقعة واللامنطقية التي تتحكم بنا وبعالمنا.

يبدو محمد حسنين هيكل صديق الريّس ونديمه أول من اكتشف محدودية ناصر في قراءة المستقبل عندما حَمَّلَهُ في كتابه “سنوات الغليان” مسؤولية الكثير من الأخطاء التي ارتُكبت في جمهورية الوحدة، نتيجة اعتماده على مسلمات سياسية قديمة دون أية رغبة منه في تقييمها أو تعديلها، للخسارة في التاريخ أو الإنجاز حكم قطعي جمعي وحيد، حاضر مصر وسوريا اليوم.

هوامش

*مقال نشر في صحيفة الثورة التابعة للنظام

*مقال نشر في صحيفة الخليج الإماراتية

*مقال نشر في الوطن السعودية

*من كتاب البجعة السوداء

_________________________________________

من مقالات العدد الثالث من صحيفة (العربي القديم) الخاص بذكرى مرور 62 عاماً على الانفصال-  أيلول/ سبتمبر 2023

زر الذهاب إلى الأعلى