فنون وآداب

“أدونيس والثورة السورية: تنظير من المنفى أم قراءة قاصرة؟”

قراءة في لقاء أدونيس التلفزيوني مع الفنانة اللبنانية كارمن لبّس وتناقضاته المثيرة

نوار الماغوط – العربي القديم

منذ اندلاع الثورات العربية التي عرفت بثورات الربيع العربي، احتدم النقاش حول ماهية هذه الحركات، ومدى أصالتها كثورات حقيقية، وتأثيرها على بنية المجتمعات العربية. أحد أبرز الأصوات التي شككت في هذه الثورات كان الشاعر والمفكر السوري أدونيس، الذي اعتبر أنها لم تكن ثورات حقيقية، بل مجرد انتفاضات لم تؤدِّ إلى تغيير جذري، بل ربما زادت الأوضاع سوءًا. كما طرح فكرة أن الثقافة العربية الإسلامية بطبيعتها تعيق حدوث ثورة حقيقية، كونها قائمة على نصوص دينية يُنظر إليها على أنها نهائية وغير قابلة لإعادة التفسير.

في لقاء تلفزيوني جمعه بالفنانة اللبنانية كارمن لبّس، بدا أدونيس وكأنه يتحدث من خارج الزمن، أو من مسافة لا يصلها ضجيج الشوارع ولا صدى الحناجر التي هتفت للحرية. تحدث عن الثقافة العربية الإسلامية كعائق أمام الثورة، عن نصوص دينية مغلقة تمنع أي تحول حقيقي، عن مجتمعات محكومة بالماضي تعيد إنتاجه دون مساءلة.

لكن، هل تكفي هذه القراءة لتفسير ما حدث؟ هل يمكن اختزال كل هذه التضحيات في لحظة واحدة؟ التاريخ لا يُكتب هكذا، بعبارات قاطعة ونهائية. فالثورات ليست مجرد مشاريع عقلانية تنطلق وفق خريطة واضحة، بل هي فوضى الضرورة، لحظة انفجار لا يمكن التنبؤ بنتائجها، تمامًا كما كانت الثورة الفرنسية حين بدأت بلا يقين، وكما كانت الثورات الكبرى التي لم تُفهم إلا بعد عقود.

 في هذه المقابلة عبّر أدونيس عن قلقه من الواقع الثقافي والسياسي والاجتماعي الذي يحيط به، مؤكّدًا أنه لا يشعر بالراحة بسبب الظروف التي يعيشها العالم العربي.

 انتقد أدونيس مفهوم الثورة كما طُبق في الدول العربية، معتبرًا أن ما حدث لم يكن ثورات حقيقية بل مجرد انتفاضات غير منظمة لم تؤدِّ إلى تغيير جذري في بنية المجتمع. كما رأى أن الثقافة العربية الإسلامية بطبيعتها تعيق أي ثورة حقيقية بسبب اعتمادها على نصوص دينية يُنظر إليها على أنها نهائية وغير قابلة للتغيير، مما يجعل أي تحول سياسي أو اجتماعي محكومًا بإطار ديني ثابت.

تناول أدونيس مسألة الفرق بين الثورة والانقلاب، مشدداً على أن الثورة لا تعني فقط إسقاط الأنظمة، بل يجب أن تكون عملية منظمة تشمل مختلف جوانب المجتمع، من الثقافة إلى السياسة إلى الاقتصاد. وأوضح أن ما جرى في دول مثل سوريا ومصر وتونس وليبيا واليمن ولبنان لم يكن سوى تحركات شعبية تفتقر إلى قيادة فكرية واضحة، مما جعلها عاجزة عن تحقيق تغيير حقيقي، بل في بعض الأحيان ساهمت في تفاقم الأوضاع بدلاً من تحسينها. كما اعتبر أن غياب مشروع فكري وتنظيمي واضح هو ما جعل هذه الحركات غير قادرة على الاستمرار كثورات ناجحة.

وجه أدونيس انتقاداً لاذعاً للخطاب الديني الذي يهيمن على المجتمعات العربية، معتبراً أن أي محاولة للتغيير يجب أن تبدأ بفصل الدين عن السياسة، لأن الفكر الديني القائم على نصوص مقدسة نهائية يعيق أي إمكانية للتجديد الحقيقي. في رأيه، لا يمكن تحقيق ثورة حقيقية في مجتمع لا يزال أسير الماضي، ويرى أن الثقافة السائدة لم تسمح بحدوث تغيير جوهري لأن البنية الفكرية للمجتمع لم تتطور بما يكفي لاستيعاب ثورة حقيقية.

رغم أهمية بعض النقاط التي طرحها أدونيس، فإن رؤيته قد تكون محل نقد من عدة جوانب. أولًا، يمكن القول إن عدم وجود تنظيم صارم منذ البداية لا يعني بالضرورة أن هذه الحركات لم تكن ثورية، فالتاريخ شهد العديد من الثورات التي بدأت بشكل عشوائي ثم تطورت لاحقًا إلى مشاريع سياسية واضحة، كما هو الحال مع الثورة الفرنسية والثورات الأوروبية في القرن التاسع عشر… إن تصوير الثورات العربية على أنها مجرد اضطرابات فوضوية يتجاهل حقيقة أن هذه الحركات مثلت رفضاً شعبياً واسعاً للأنظمة الاستبدادية، ودفعت الشعوب العربية نحو مرحلة جديدة من الوعي السياسي والمطالبة بالحقوق.

من ناحية أخرى، أدونيس يحمّل الثقافة الدينية مسؤولية الجمود الاجتماعي والسياسي، معتبراً أنها لا تسمح بالتطور أو إعادة التفكير. لكن هذا الطرح يتجاهل أن هناك دولاً إسلامية استطاعت تحقيق تقدم اقتصادي وديمقراطي، مثل ماليزيا وإندونيسيا وتركيا (قبل تحوّلها الأخير إلى نظام أكثر استبداداً). وتمكنت من تحقيق تحولات سياسية دون الحاجة إلى القطيعة مع هويتها الدينية، مما يدل على أن المشكلة ليست في الدين بحد ذاته، بل في طريقة توظيفه سياسياً.وقد  يكون ربط فشل الثورات بالثقافة الدينية أمرًا تبسيطيًا، إذ أن الدين لم يكن العائق  أمام التغيير، بل هناك عوامل أخرى، مثل القمع السياسي، والانقسامات الداخلية.

ثم هناك السؤال الذي لا يطرحه أدونيس بشكل مباشر: ماذا عن التدخلات الخارجية؟ ماذا عن القوى التي لا تريد لهذه الثورات أن تنجح، لأنها تهدد مصالحها؟ التاريخ العربي لم يكن يومًا مستقلًا تمامًا، واللعبة لم تكن محصورة داخل الحدود الوطنية. عندما اشتعلت الثورات، سارعت قوى كبرى إلى احتوائها، توجيهها، أو إخمادها. لم يكن الفشل نابعًا فقط من الداخل، بل كان جزءًا من شبكة أوسع من المصالح والتدخلات

هناك دول غربية، مثل الولايات المتحدة، التي تتمتع بتأثير ديني قوي في سياساتها لكنها لا تعاني من الجمود الفكري ذاته، لأن مؤسساتها تفصل بين الدين كقيمة اجتماعية والدولة كنظام مدني.

ويرى اللعديد من المفكرين، مثل سمير أمين وإدوارد سعيد، أن التخلّف العربي ليس فقط نتيجة ثقافة داخلية، بل أيضًا نتيجة سياسات استعمارية وتبعية اقتصادية فرضتها القوى الكبرى. أدونيس يتجاهل هذا الجانب إلى حدٍّ كبير.

أما فكرة أن المجتمعات العربية لم تشهد تغييرًا حقيقيًا بعد هذه الثورات، فيمكن الرد عليها بأن التغيير الاجتماعي والسياسي هو عملية طويلة الأمد، ولا يمكن الحكم على نتائج الثورات العربية بعد عقد واحد فقط. حتى لو لم تؤدِّ هذه الثورات إلى نتائج فورية، فإنها أسست لمرحلة جديدة من الوعي الشعبي، وأحدثت تحولات في العلاقة بين المواطن والسلطة، وهو ما قد يظهر تأثيره في المستقبل.

حين قال أدونيس إنه شارك في تظاهرة بباريس لأنه رأى أن القتل في الساحل السوري كان على أساس طائفي، ويعتبره ظاهرة غير مسبوقة في التاريخ الإسلامي. بدا كمن يكتشف التاريخ متأخراً. الطائفية لم تكن وليدة هذه اللحظة، بل كانت جزءًا من تاريخ طويل من الصراعات، فالصراعات الطائفية كانت موجودة منذ قرون، مثل الفتنة الكبرى، والمذابح المتبادلة بين السنة والشيعة في عصور مختلفة، واختزال الثورة إلى طائفية هو اختزال للمأساة، وتجاهل لكل تلك الحناجر التي صرخت يومًا: “واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد.”  في سوريا لم تكن الثورة مجرد صراع طائفي، بل كانت صراعًا سياسيًا معقّدًا تشابكت فيه المصالح الإقليمية والدولية. اختزال المشهد السوري إلى صراع طائفي فقط يُعدّ تبسيطًا مخلًا.

المفارقة أن أدونيس، رغم رفضه للثورات، يتحدث عنها كمن أراد لها أن تكون مثالية منذ البداية. لكنه، وهو الذي عاش بعيدًا عن سوريا لعقود، بدا كمن ينظر إليها من نوافذ بعيدة، حيث التفاصيل غير واضحة، وحيث الثورة تبدو فكرة أكثر منها واقعًا متشابكًا ومعقدًا.

الثورات ليست قصائد، وليست بيانات فكرية. هي حياة تتفجر، هي وجوه الناس في الشوارع، هي لحظة قرار بأن الصمت لم يعد ممكنًا. ربما لم تنتصر بعد، وربما لم تأتِ بالنتائج التي حلم بها كثيرون، لكنها ليست كذبة. التاريخ لم ينتهِ بعد، وما بدأ قبل عقد قد يحتاج إلى عقود أخرى ليُفهم. في النهاية، لا أحد يملك الحقيقة الكاملة، لا أدونيس، ولا الناس ولا الأنظمة. هناك فقط هذا الزمن العربي المضطرب، الذي لا يزال يبحث عن ملامحه في مرايا مكسورة.

اللافت في حديث أدونيس أنه، وباعترافه الشخصي، لا يعرف بالسياسة وليس سياسيًا، ورغم ذلك يبني مواقفه من الثورات العربية على فرضيات تبدو أقرب إلى الطرح الفلسفي المجرد منها إلى التحليل الواقعي المدعوم بالحقائق. كما أن ابتعاده عن سوريا لما يقارب السبعين عامًا يجعل قراءته للواقع العربي مشوبة برؤية تعتمد على تصورات نظرية أكثر منها معرفة مباشرة بالأحداث والتطورات التي شهدتها المنطقة. فالثورات ليست مجرد أفكار تنظيرية يمكن الحكم عليها من برج عاجي، بل هي تجارب حية تتفاعل مع مجتمعاتها، وتأخذ مسارات مختلفة قد لا تكون واضحة منذ اللحظة الأولى

يحمل حديث أدونيس بعض الملاحظات النقدية المهمة، لكنه لا يقدم تفسيرًا شاملاً ومعقدًا لما حدث في العالم العربي. إن قراءة الثورات تحتاج إلى تحليل متعدد الأبعاد يأخذ في الاعتبار العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بدلًا من الاكتفاء بتفسير ثقافوي يربط المشكلة فقط بالتراث الديني.

‫3 تعليقات

  1. أدونيس يتكىء على أكتاف فرنسا … وينسى انه في باريس التي كان بها ساركوزي ينفق من أموال القذافي على اسرته . وناهد طلاس توجه بالانفاق على حملة شيراك الانتخابية ورفعت الاسد يدعم مَحافظ باريس المصرفية ويوظف بنات أدونيس لديه..

  2. مقال مهم عن ادونيس وضعه في مكانه الحقيقي
    ادونيس المعجب بالثورة الايرانية وهرب من سوريا وهرب من لبنان ويلي صمت على قتل وتهجير الملايين السنه فجأة تذكر أنه علوي …لو استطاع ان يهرب من نفسه لفعل

زر الذهاب إلى الأعلى