العربي الآن

غزة تحت القصف… والقلوب تحت التخدير: لماذا لم نعد نشعر؟

لماذا أصبحنا نتبلد عاطفياً أمام الفواجع؟ هل مات فينا الإحساس، أم أن عقولنا وجدتها وسيلة للبقاء وسط بحر من الألم

كمال صوان * العربي القديم

تحت وطأة الحروب المتواصلة والصدمات المتكررة، يجد الإنسان نفسه في مواجهة مع ألمٍ لا يُحتمل، فيبني جدرانًا نفسية تحميه من الانهيار. لكن في غزة، حيث القصف لا يتوقف، والدماء لا تجف، والموت يطرق كل باب، يتعرض الناس لنوع من التخدير العاطفي الذي لا يعكس قسوة الواقع، بل يعكس كيفية محاولتهم البقاء على قيد الحياة. كأنما صار الألم جزءًا من الروتين اليومي، وصار القتل والموت يمرّان أمام أعيننا دون أن يشعرنا ذلك بالفزع الذي كان يطاردنا في الماضي. لم نعد نذرف الدموع كما في البداية، ولم نعد نغضب بالطريقة نفسها. أصبحنا نتعامل مع الأخبار والمشاهد وكأنها أجزاء من عالم آخر، حتى عندما تكون تلك المشاهد على بعد أمتار منا. فما الذي حدث؟ لماذا أصبحنا نتبلد عاطفيًا أمام هذه الفواجع؟ هل مات فينا الإحساس، أم أن عقولنا وجدتها وسيلة للبقاء وسط بحر من الألم، فتوقفت عن الشعور حتى لا تغرق؟

تنهال علينا الصور من غزة: أطفال تحت الركام، صرخات أمهات، وأحياء تمحى عن وجه الأرض. مشاهد لو رأينا واحدة منها قبل سنوات، لكانت كفيلة بأن تبكينا لأيام. أما اليوم؟ نمرّ عليها مرور العابر. نشاركها، نؤشر عليها بالحزن، ثم نكمل تصفحنا… وكأننا لم نرَ.

في زمن القصف المستمر، والتغطية اللحظية للمجازر، أصبح الإنسان، دون أن يشعر، ضحية تبلد وخدر نفسي عاطفي. لم نعد نبكي بسهولة، لم نعد نغضب كما في السابق، وبعضنا يشعر بالذنب فقط لأنه لم يشعر.
فما الذي يحدث لنا؟ هل مات فينا الإحساس؟ أم أن عقولنا ونفوسنا لجأت إلى التخدير كوسيلة للبقاء وسط سيل من الألم يفوق طاقتنا على التحمل؟ سنفتح باب الحديث عن ظاهرة التبلد العاطفي تجاه أحداث غزة، ليس لنلوم أنفسنا، بل لنفهم كيف تحمينا عقولنا من الانهيار، ولماذا أصبح الحزن رفاهية لا يملكها كثيرون.

الخدر النفسي: آلية دفاع أم موت داخلي؟

الخدر النفسي (العاطفي):  هو أحد الآليات النفسية التي يستخدمها الدماغ البشري لمواجهة الصدمات المتكررة والمواقف المؤلمة. إنه حالة من فقدان الشعور أو انعدام العاطفة تجاه الأحداث التي كانت ستثير ردود فعل عاطفية قوية في أوقات أخرى. في سياق غزة، حيث القصف اليومي والمجازر المتواصلة أصبحت جزءًا من الواقع، يختبر العديد من الناس هذه الحالة كوسيلة دفاعية للبقاء.

“الخدر النفسي يمكن أن يؤدي إلى فقدان القدرة على الشعور والتفاعل مع الآخرين، ويمكن أن يؤدي إلى مشاكل نفسية أخرى مثل الاكتئاب والقلق

إن الدماغ البشري، في مواجهته مع الألم المستمر، يقوم بتفعيل آليات حماية للمحافظة على توازنه النفسي. هذا يعني أن مشاعر الصدمة والحزن يمكن أن تُخزّن لفترة طويلة، ما يؤدي إلى نقص القدرة على الاستجابة العاطفية. “لا أستطيع أن أتحمل المزيد”، يصبح القول الأكثر تداولًا في الأحاديث اليومية. هذه المشاعر التي لم تعد تجد مجالًا للظهور، تساهم في تعزيز حالة التبلد، إذ يصبح الصمت هو الرد الأكثر قبولًا على الألم، لتجنب الإحساس بالعجز أمام واقع مرير.

التكرار يقود إلى الاعتياد: كيف أصبحنا نعيش في حالة من اللا شعور؟

التكرار المستمر للصور المؤلمة والفواجع عبر وسائل الإعلام يؤدي إلى ما يسمى بـ”الاعتياد العاطفي” أو التقليل من الحساسية. وهو ما يشرح لماذا لم نعد نشعر بالألم كما كنا نشعر به في بداية الأحداث. فالعقل البشري، بعد تعرضه المتكرر لصدمات نفسية حادة، يبدأ في تقليل درجة الاستجابة لتلك المنبهات، حفاظًا على نفسه من الانهيار. نحن نمرّ بمراحل مختلفة من الصدمة: الإنكار، الغضب، الحزن، ثم قبول الواقع. ولكن في حالة غزة، حيث يستمر الألم دون انقطاع، يمكن أن يتوقف الأفراد عن المرور بهذه المراحل ويصلون إلى مرحلة “اللاعاطفة”.

لكن في الواقع، لا يمكن استدامة هذه الحالة إلى الأبد. فمع مرور الوقت، قد تظهر آثار هذا التخدير النفسي على المدى الطويل. الخدر العاطفي قد يتسبب في اضطرابات أخرى مثل الاكتئاب، القلق المزمن، وأحيانًا الانعزال الاجتماعي. تصبح الحياة اليومية صراعًا للبقاء، فتصبح الأحاسيس والأفكار لا تتوقف عن العودة إلى الألم والحزن والافتقاد.

هل نحن بلا قلب؟

كثيرًا ما يتساءل الناس في مناطق النزاع: “هل أصبحنا بلا قلب؟ هل فقدنا قدرتنا على التعاطف؟” الجواب ليس بسيطًا. الحقيقة هي أننا نحن لا نكون بلا قلب، بل أننا نحاول أن ننجو بأي وسيلة ممكنة. عندما يُشبع الإنسان بألم متواصل، يصبح من المستحيل أن يظل يتفاعل مع كل حدث بنفس الحدة العاطفية كما كان في البداية. لأن مشاعر الغضب، الحزن، والخوف تصبح مكملًا لهذا الواقع الحزين، والمواجهة مع هذه المشاعر يؤدي في النهاية إلى حالة من الانقطاع العاطفي.

قد يعتقد البعض أن فقدان المشاعر يعني قسوة القلب، لكن الحقيقة أن الخدر العاطفي هو شكل من أشكال البقاء. هو استجابة بيولوجية لحماية الذات، لا أكثر. لهذا فإن الناس الذين يبدو عليهم الخدر في غزة، في الواقع، هم أول من يعاني من الألم، إلا أنهم يختارون إخفاء هذا الألم كي يواصلوا حياتهم.

كيف نتجاوز هذا الخدر؟

لكن هل الخدر العاطفي هو حالة دائمة؟ بالطبع لا. فالإنسان قادر على التجاوز، والنهوض مرة أخرى، إذا توفرت له المساحات والفرص للتعبير عن مشاعره بشكل صحي. المفتاح هنا هو التوعية والحديث. يجب أن يتعلم الأفراد في مناطق النزاع أن التحدث عن الألم ليس دلالة على الضعف، بل هو الطريق إلى العلاج. هناك أساليب متعددة لدعم الناس نفسياً، مثل التأمل، التنفيس عن الغضب، والمشاركة في الأنشطة المجتمعية التي تساعد على إعادة وصل الأحاسيس المفقودة.

من المهم أن نُذكّر أن التغيير ليس أمرًا مستحيلاً، وأن الإنسان في غزة – رغم مرارة الواقع – يمتلك القوة للمضي قدمًا، ولكن بشرط أن نعيد الوعي إلى معنى الحياة، ونحوّل الحزن إلى أمل، والألم إلى تغيير.

وممكن أن نتكلم عن نوافذ لتجاوز هذا الخدر أو الصمود على الأقل أمامه نحو مايلي:

على الصعيد الشخصي:

-1  الاعتراف بالمشاعر دون إصدار أحكام

من المهم إدراك أن الخدر العاطفي لا يعني اللامبالاة أو القسوة. هو ببساطة أحد ردود فعل الجهاز العصبي في حالات الإرهاق النفسي الشديد.

2 تحديد مصادر المعلومات وتنظيم استهلاك الأخبار

التعرض المستمر لمشاهد العنف والمعاناة يمكن أن يسبب “الإرهاق التعاطفي” (compassion fatigue). جرب الحد من الوقت الذي تقضيه في متابعة الأخبار، واختر مصادر موثوقة لا تكرر نفس المشاهد الصادمة.

3 – تفعيل الشعور بالقدرة على العطاء:

قم بخطوة عملية، حتى لو كانت بسيطة مثل:

  • التبرع.
  • نشر الوعي.
  • التطوع في أنشطة داعمة.

القيام بفعل ملموس يساعد في إعادة الاتصال بالمشاعر وتجاوز الشعور بالعجز.

– 4 ممارسة الرعاية الذاتية

  • النوم الكافي.
  • تناول طعام صحي.
  • تمارين التنفس أو التأمل.
  • التحدث مع شخص موثوق.

5 -طلب الدعم النفسي

إذا استمر الشعور بالخدر أو تطور إلى أعراض اكتئابية، فطلب الدعم من معالج نفسي يُعد خطوة شجاعة وفعالة.

على الصعيد المجتمعي:

  • مشاركة القصص الإنسانية بدل الأرقام فقط.
  • التذكير بالكرامة والحق، وليس فقط بالموت والمعاناة.
  • تقديم الدعم النفسي للمجتمعات التي تعيش الصدمة مباشرة (أهل غزة)، وللمتعاطفين في الخارج أيضًا.

ومن منطلق وجود فعلي حقيقي للمنظمات الإنسانية العاملة في هذا المجال الجدير بالذكر أن نذكر بعض من أدوارها في تقديم العون بما يتعلق بمواجهة الخدر العاطفي عند الناس مثل :

  1. توفير الدعم النفسي والاجتماعي (Psychosocial Support)
    تقدم هذه المنظمات جلسات دعم جماعي وفردي للمساعدة في التعبير عن المشاعر المكبوتة والتعامل مع الصدمة بشكل صحي.
  2. التوعية النفسية المجتمعية
    تنظم حملات توعية لتعريف الناس بآثار الصدمة النفسية والتبلد العاطفي، وتشجع على طلب المساعدة دون وصمة.
  3. تدريب الكوادر المحلية
    تقوم بتدريب العاملين في الميدان، مثل الأطباء والمعلمين والمتطوعين، على كيفية التعرف على علامات التبلد العاطفي وتقديم التدخلات النفسية الأولية.
  4. إنشاء مساحات آمنة (Safe Spaces)
    توفر أماكن آمنة للأطفال والنساء والعائلات لممارسة أنشطة تعزز التعافي العاطفي مثل الرسم، اللعب، أو الحديث.

المناصرة العالمية والدعم المعنوي
تسهم في نقل صوت الضحايا، ما يُشعر الأفراد أنهم غير منسيين، ويعيد لهم الشعور بالكرامة والانتماء، وهو عنصر مهم في مقاومة التبلد العاطفي.

خاتمة: الشعور لا يموت… ولكنه أحيانًا يختبئ

إن ما يمر به سكان غزة اليوم هو ليس مجرد حدث مؤقت؛ بل هو واقع مرير يتكرر يومًا بعد يوم. ولكن في قلب هذا الظلام، يتسلل بصيص من الأمل. إن الشعور لا يموت، ولكنه أحيانًا يختبئ، ولا بد في النهاية من أن يجد طريقه إلى السطح، ليُعبر عن نفسه من جديد. التبلد النفسي، رغم أنه آلية دفاعية، لا يجب أن يصبح غطاءً دائمًا على الواقع. علينا أن نعرف كيف نواجهه ونتجاوزه، لأن ما تبقى من إنسانيتنا هو ما يجعلنا قادرين على بناء غدٍ أفضل.

___________________________

* باحث في مجال الصحة النفسية، السايكودراما، الكوارث والنزاعات

المراجع والمصادر:

1️. American Psychological Association. (n.d.). Desensitization to violence in media. https://www.apa.org/topics/video-games/violence-harmful-effects

2️. Cori, J. L. (2013). The emotionally absent mother: A guide to self-discovery and getting the love you missed. HarperCollins Publishers.

3️. Figley, C. R. (1995). Compassion fatigue: Coping with secondary traumatic stress disorder in those who treat the traumatized. New York: Brunner/Mazel.

4️. Inter-Agency Standing Committee (IASC). (2007). IASC guidelines on mental health and psychosocial support in emergency settings. Geneva: IASC. https://interagencystandingcommittee.org/iasc-guidelines-mental-health-and-psychosocial-support-emergency-settings

5️. Middle East Eye; Al Jazeera; United Nations OCHA; Human Rights Watch. (2024–2025). مقالات وتقارير ميدانية من غزة.

6️. PTSD.va.gov. (n.d.). Understanding emotional numbing in the context of trauma. U.S. Department of Veterans Affairs. https://www.ptsd.va.gov/understanding/common/emotional_numbing.asp

7️. Smith, J. (2018). Emotional numbing: A defense mechanism. Psychology Today, 51(3), 32–35.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى