الرأي العام

العدالة الانتقالية – 4 التعويضات كعبء وفرصة

إياك أن تظن عزيزي القارئ أن العدالة الانتقالية وصفة سحرية تنتهي بسلم أهلي كامل واحتفالات وشهب نارية، وعناق ومباركات

عبد الرحمن ريا – العربي القديم

يعتبر “جبر الضرر” واحداً من أهم آليات العدالة الانتقالية وأصعبها بنفس الوقت؛ فبالنسبة لأي دولة تخلصت للتو من نظام فاسد سرق العباد ودمر الاقتصاد، يُعتبر الجبر تحدياً حقيقياً، فما بالك والحديث عن سورية التي حولتها عصابة الأسد إلى مزرعة، وجعلت اقتصادها عشوائياً[1] تم تركيبه لخدمة مصالح الفاسدين. إن فكرة تعويض الضحايا لجبر الضرر الذي أصابهم أثناء الثورة، تبدو مُغرقةً في الطوباوية، ففي بلد تعاني فيه الحكومة لتأمين رواتب الموظفين، فضلاً عن الخدمات الأساسية كالكهرباء والنقل والوقود. تصبح فكرة تعويض الضحايا رفاهية يصعب تخيلها. خصوصاً إذا أخذنا بالاعتبار عدد المتضررين، زيارة واحدة إلى المدن التي تم هدمها بالكامل وتهجير أهلها، تعطي فكرة بسيطة عن تحدي التعويضات وحجمها، ونحن هنا لا نتكلم عن عائلات الشهداء أو المعتقلين والمصابين و و و.

رغم كل الوسائل التي قد تساعد في تخفيف ثقل التعويضات، إلا أنها عبئ هائل على كاهل الحكومة، مثلما هي فرصة عظيمة لإعلاء قيمة التضامن الاجتماعي مع الضحايا. لذلك فإن صعوبة تحقيق الجبر، يجب ألا يثنينا عن السعي خلفه وابتكار وسائل بديلة لتحقيقه، ليس فقط لأنه يجسد كفارة مادية رمزية، بل لأنه يعتبر تصديقاً أخلاقياً على معاناة الضحايا، وإقراراً بفضلهم فرادى وجماعات، واعترافاً سياسياً بجسامة الانتهاكات. من أجل كل ما سبق فإن مبدأ التعويضات أصبح إلزامياً بموجب القانون الدولي[2].

إن مجرد وضع لوائح تعويضات غير مدروسة ولا قابلة للتطبيق، يهدد بتكرار تجربة جنوب افريقيا التي وعدت ضحايا التمييز العنصري بتقسيط تعويضات تصل إلى حوالي 25000 دولار، لكنها لم تستطع الوفاء بأكثر من حوالي خمس المبلغ، ما أثار سخط الضحايا الذين اعتبروا أنفسهم مخدوعين[3].

في بدايات حكم الأسد الاب كان هناك قانون سُمّي بـ “العشر الصحي” لكفالة الفقراء؛ كل مشفى خاص مُلزم سنوياً باستقبال مرضى عُشر عدد أسرّته مجاناً، كان يفترض أن يستفيد من تلك الاسّرة الفقراء بموجب كتاب رسمي من وزير الصحة إلى إدارة المشفى الخاص. مقابل ذلك يتم اعفاء المشافي الخاصة من الضرائب المفروضة عليها. نظرياً كان القانون واعداً، ولكن في التطبيق استفاد منه المقربون من دوائر السلطة بالطبع.

يا ترى ألا يمكن تكرار تلك التجربة بشكل منضبط، لتكون المعالجة الطبية المجانية أحد أساليب جبر الضرر؟ 

رغم أن الامر يحتاج إلى عمل احصائي وبحثي معقد، لتحديد شرائح المتضررين الذين يندرجون تحت مثل هذا القانون، ثم عمل آخر لقوننة هذه الآلية، إلا أنه يستحق العناء. مثل هذه الآلية يمكن اقتراحها في مجالات شتى، وممكن المبادرة إليها من فعاليات مختلفة؛ لقد أعلنت نقابة أطباء الاسنان في دمشق منذ أيام عن مبادرة “تكريم أطباء الثورة” بغرض إحصاء الأطباء الشهداء والمعتقلين، وتكريمهم. لم نستطع الوقوف على آليات التنفيذ أو طبيعة التكريم، ولكن الفكرة جديرة بالاهتمام والتعميم، فهي تضيف إلى التكريم المادي تكريماً معنوياً يجب عدم إهماله، إن إقامة النصب التي تجسد كفاح الثوار من أجل الحرية، واعتماد أسماء جديدة لبعض المعالم المهمة يمكنها أن تشكل ذاكرة جمعية تُعلي من قيم التضحية، وتلهم أجيالاً قادمة، فكروا معي برمزية إعادة تسمية مكتبة الأسد “البائد”، لتأخذ اسم أحد شهداء الثورة، ومعنى أن يزور المكتبة أبناؤنا ثم يسألونا عن التسمية لنعيد عليهم سيرة بطلها.

وبعد…

في هذه السلسلة حاولنا تسليط الضوء على أهم محاور العدالة الانتقالية من محاكمات ومصارحة ولجان حقيقة، إلى التطهير “الجزاء المخفّف”، وانتهاءً بالتعويضات، دون المرور على “إعادة التأهيل” التي اعتبرناها من بديهيات المرحلة الانتقالية. وخلال حوالي أسبوعين استغرقها نشر السلسلة تلقيت العديد من التساؤلات والملاحظات التي تلوم الحكومة وتعتبرها مقصّرة بتنفيذ ملف العدالة الانتقالية، ورغم تفهّم حالة الحماس التي ترفع سقف التوقعات، لا بد من الإشارة إلى أن محاور العدالة الانتقالية تحتاج إلى أزمان كبيرة[4]، فمسارها يتطلب اجراءات معقدة ومتشعبة في مؤسسات وهياكل الدولة، وقدر من التخطيط لرسم مسارات تحقق الهدف منها وهو المصالحة والسلام والاستقرار. الامر بحاجة إلى صبر منّا وشفافية من الحكومة تضعنا بصورة كل آليات وتطورات التنفيذ.

ختاماً… إياك أن تظن عزيزي القارئ أن العدالة الانتقالية وصفة سحرية تنتهي بسلم أهلي كامل واحتفالات وشهب نارية، وعناق ومباركات، فلا شك أن هناك عقليات عصيّة على التعايش والسلم الأهلي، هؤلاء يجعلون رسالتهم في الحياة البحث عن كل ما يجرّم الآخر، ويخوّنه، ويخرجه من دائرة المواطنة. إنهم ناشطون جداً، يعتبرون ايجاد ما يؤيد المسطّر في عقولهم ثم نشره لـ “هداية الأمة“، وكشف تآمر الآخرين؛ جهاداً مقدّساً، يعوّض في كثير من الأحيان تقصيرهم بالثورة في أيامها. حسبنا فيما نحاول الدعوة له والتبشير به، أن نجعل تأثير هؤلاء أقل، أو أن ذلك ما نأمل ونتمنى.


[1] التعبير ذكره وزير الاقتصاد د. محمد نضال الشعّار في وصفه لاقتصاد سورية أيام الأسد في لقاء مع وكالة سانا.

[2] العدالة الانتقالية، دراسة في المفهوم والآليات – هند مالك حسن

[3]  المصالحة والحقيقة في جنوب أفريقيا: بحث في منجزات العدالة الانتقالية ومآزقها – أحمد إدعلى ldali Ahmed

[4] يسمونها في مراجع العدالة الانتقالية “الامتداد الزمني”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى