فنون وآداب

الكتابة بالتفاصيل: قراءة في رواية (خفّة يد)

للوهلة الأولى، تبدو الجملة الافتتاحيّة لرواية الكاتب (إسلام أبو شكير) المعنونة: (خفّة يد) كما لو أنّها مشهد رأسيّ للسياق الحكائي في الرواية فحسب:

ـ “أحتفظ بحقيبة ضخمة أجمع فيها أوراقي عادة، وللتوضيح، ولكي يكون المشهد المتخيّل دقيقاً، فقد كانت حقيبة ملابسٍ في الأصل، عدد هائل من الوثائق الرسميّة، وقصاصات الصحف، والدفاتر، ومسودات القصص، والمقالات، والصور، والرسائل، وفواتير الشراء والبيع، والإيصالات، ووصفات الأدوية، وبطاقات الأعمال لأشخاصٍ لم أعد أذكر معظمهم، وأشياء أخرى كثيرة.. فوضى تراكمت مع الزمن” ص3 من الرواية

ولكنّ القارئ المتمرّس سيكتشف لاحقاً أن الكاتب سيستفيد من هذه (الفوضى العارمة) في تشكيل الخيط الناظم لتفاصيل الرواية، من بطون هذه التفاصيل التي (لن يعود الكاتب إلى ذكرها إلّا فيما ندر) سوف يولد الفعل الروائيّ، وسوف ترسم الشخصيات مصيرها من دون تدخّل الكاتب.

من قصاصات الصحف، ومسودات القصص، والدفاتر، والمقالات، والصور، والرسائل، سيخرج (مودلياني المجرم) ، و (سوسن ملّاك)، و (سمر التي يخصّها الراوي باسم تدليل: سيمو)، و  (عروة المدني)، و (فاتن).

ولكن، لا الراوي ولا الكاتب سيعترفان بأنّهما عثرا على سوسن في قصاصة جريدة أو مقال، أو أنّ سيمو كانت إحدى بطلات المسودات القصصيّة، أو أنّ صورة عتيقة تجمعهما معاً (ربّما) قد أحضرتها لتكون شريكة في الفعل الروائيّ الذي يهجس به الروائي، أو أنّ عروة أو دلال كانا رقماً مدوّناً على الوجه الخلفي لإحدى الفواتير أو الإيصالات القابعة في حقيبة الملابس (أو حقيبة الذاكرة).

فالنص الروائي ليس معنيّاً بحياة أبطاله كما يرسمها الواقع، بل إنّ إحدى أهمّ وظائفه هي إعادة خلق الشخصيّة بما ينسجم مع منطق الإبداع.

سوسن، على سبيل المثال، ليست مجرّد ممثلة موهوبة أو ناشطة سياسيّة أو مدنيّة بحت، بل هي كينونة تغضب وتشعر وتلفّق شائعات عن الحبّ (كما فعلت عندما صرّحت في مكان عام أنّ الراوي صاحب ألذّ قبلة في العالم) وهي شخصيّة غامضة، عصيّة، ملتبسة كالتباس وجود الراوي ذاته، أو كالتباس الحكاية وتفاصيلها كما يرويها الراوي الملتبس.

فالرواية تضع القارئ أمام خيارين لا يملك أيّ منهما قطعيّة واضحة، الكينونة والعدم:

عروة ينكر معرفته بسوسن

والمقال ليس موجوداً

والجريدة ترسل إشعاراً للراوي بأنّه لم يرسل المقال بعد

وحتى هذا الإشعار لا يعدو أن يكون إمّا أمراً قد حدث بالفعل، أوفكرة توهّمها الراوي وهو يبني استيهاماته وتهويماته

الكتابة بالاستيهام

الكتابة بالتفاصيل

الكتابة كفعل افتراضيّ

هكذا جاءت خفّة يد.

ثمّة لغز، وثمّة غموض، وثمّة فتاة طاغية الأنوثة تسرّبت من ثقوب الذاكرة، ولم يبق منها كحضور واقعيّ إلّا صورة توحي بالحبّ والرغبة، صورة يمكن أن تكون جسداً أو فكرة

وجوداً أو عدماً

حضوراً أو غياباً

أو ربّما وجوداً داخل العدم  أبلغ أثراً من الكينونة ذاتها

حضوراً على هيئة غيابٍ أشدّ كثافة من الحضور ذاته.

أمّا اسمها فلا يهمّ إن كان سوسن أو فاتن أو سيمو أو أيّ اسم آخر.

ولكنّ الصورة ما زالت حاضرة، وربّما ستختفي كما يختفي كلّ شيء في هذا النص الباذخ والراوي ما زال يحاول القبض على الكائنات الأثيريّة في النص قبل أن تفلت منه ، أو ربّما كان الكاتب هو من يقوم بتقطيرها ليستخرج عطرها كما فعل جان باتيست غرنوي في رواية العطر، ها هو الراوي يكتشف أنّ بطل الصورة ليس هو بالضرورة؛ ليعصف بأيّة حتمية يحاول القارئ الإمساك بها في هذا النص المبتكر.

على القارئ ـ إذن ـ أن يجلس داخل الفقاعة الشفّافة التي أوحى بها الكاتب ليراقب تحوّلات الشخوص من وراء خلفيّة شفّافة وينساب كما تنساب الفقاعة بين ثنايا جسد النص.

يبني إسلام أبو شكير فصول روايته كلّ على حدة ، وفي الوقت ذاته يبني تواتر الزمن والبنية الحكائيّة والمشهد السردي بشكل هندسيّ بارع لا يتقنه سوى من كان مهجوساً بالقصّ الروائيّ.

ففي الفصل الواحد يفرش للشخصيّة والحدث بأسلوب واضح سلس يحتسيه القارئ بهدوء إلى أن يخطف منه فرصة التوقّع حين يقفل المشهد بطريقة إنكاريّة لافتة فلا الحدث الذي رواه يبقى يقينيّاً ولا وجود الشخصيّة ذاتها يحافظ على ثباته؛ بل إنّ المشهد بالكامل ينفتح على (ربّما) كبيرة وينفتح معه فضاء التأويل، فالراوي ربّما يكون مصاباً بنوعٍ من فقدان الذاكرة، وربّما يكون أحمقَ، وربّما يكون في مزاج العبث، بل ربّما لا يكون صاحب كينونةٍ أصلاً، كأن يكون افتراضاً أو أن يكون السياق كلّه سياقاً افتراضيّاً، إذن من هو الراوي؟ ومن هو الكاتب؟ ومن هو صانع النص؟

أعتقد بشكلٍ شخصيّ أن الكاتب يحاول أن يدفع بالقارئ ليكون صانع الحكاية، أو ربّما يريده أن يشارك في فعل الكتابة، وهنا تكمن خصوصيّة هذا النصّ وفرادته.

( الآن، وقد استعدت قليلاً من حيويّتي، عليّ أن أفعل شيئاً. لديّ الكثير من العمل. الحقيبة. هذا العبء الثقيل الذي أحتفظ به منذ سنوات. يجب أن أتخلّص منه. أيّ شيطان كان في رأسي وأنا أراكم هذا؟

تسعون بالمئة من محتويات الحقيبة تمّ الاستغناء عنه. لا شيء يستحقّ أن أحتفظ به. قمامةٌ تقريباً.. أشخاصٌ لا أعرفهم. أماكن لم أرها في حياتي. أحداثٌ لم تقع أصلاً. أوراقٌ لا تخصّني.. يا له من إحساسٍ رائعٍ بالخفّة! أشعر كما لو أنّها كانت مربوطة على ظهري طيلة كلّ تلك السنوات. أتنقّل بها من مكانٍ إلى آخر. أنام بها، وأستحمّ، وأمشي، وأضاجع، وأكتب، وأحلم.. عرفت الآن سرّ الصداع المزمن الذي أعاني منه، وآلام الرقبة، والكوابيس، وانقطاع النفس، والدوار، والرعاف، وتشنّجات المعدة..

يقول لي طبيبي:

ـ لا شيء.. آثار ما بعد الصدمة فقط..

مع أنّني لم أفهم ماذا يعني بالصدمة، فإنّني واثقٌ من أنّ تشخيصه كان مغلوطاً. ولا ألومه، لأنّه لم يرَ حقيبتي على ظهري، وأنا ـ بدوري ـ لم أحدّثه عنها) ص 64 من الرواية.

هذه الحقيبة التي يصفها الكاتب (على لسان الراوي) ربّما تكون حقيبة مسودّاته الروائيّة والقصصيّة؛ فهو يتحدّث عن أشخاص لم يلتقهم وأحداثٍ لم تقع له، ممّا يوحي بأنّه يتحدّث عن نصوص.

وربّما تكون حقيبة أوراق مهملة (كما سيبدو الأمر لأيّ قارئ عاديّ لا يحبّ التأويل)

وربّما تكون حقيبة الذاكرة (كما أشرتُ أنا في بداية هذه القراءة)

الطبيب يصرّ على أنّ الأعراض التي يعاني منها الراوي هي أعراض ما بعد صدمة الاعتقال

والراوي يصرّ على أنّها إرهاصات حمله طوال الوقت لحقيبة الذاكرة، أو حقيبة النصوص

وكلاهما محقّ على طريقته.

كلّ شيء قابل للتأويل، وكما هو معروف عند الجميع أنّ النصوص القابلة للانفتاح على فضاء التأويل هي نصوصٌ ذات فرادة وأصالة.

وأخيراً، ثمّة دلالات أخرى، وتأويلات جديدة، مثلاً:

ـ المرأة التي يقول عنها الراوي أنّها جارته، ألا تكون هي ذاتها الرواية التي يكتبها إسلام أبو شكير؟!! ربّما

ـ عروة المدني، ألا يكون إسلام أبو شكير نفسه؟!! ربّما، أو ربّما يكون الراوي،! أو ربّما كليهما

أي أن يكون الراوي والكاتب شخصٌ واحد؛ وبالتالي يكون هذا النصّ ما يشبه سيرة ذاتيّة متخيّلة زوّدها الكاتب ببعض عناصر من الواقع!! ربّما، كلّ شيء وارد

وهذا ما يخلق الدهشة في هذا النصّ المبتكر والفريد

ـ السائل اللزج الذي يشعر به الراوي على جبينه، ألا يحتمل أن يكون نتيجة رصاصةً سدّدها قنّاصٍ محترف إلى رأسه؟!! ربّما؛ وبالتالي فإن الرواية كلّها تصبح هلوسات رجل ميّتٍ قبيل وفاته، وبهذا يكون إسلام أبو شكير قد كتب نصّاً مدهشاً عن الحب دون أن يقع في فخّ الايديولوجيا.

ثمّة أيضاً الزنزانة

والمرأة خفيفة اليد

أهي القنّاص؟!

أهي الرواية!

أهي حياة الكاتب

كل شيء وارد

زر الذهاب إلى الأعلى