أرشيف المجلة الشهرية

يتبقى الشاعر المُغرم.. علم دمشق الشعري

العربي القديم- غسان المفلح

ما الذي يتبقى من نزار؟ سؤال طرحته  مجلة (الأهرام العربي) على مجموعة من النقاد والأدباء في الملف الذي خصصته لمواكبة حدث رحيله  قبل ربع قرن، وعادت مجلة (العربي القديم) لتطرحه في عددها الخاص عن نزار، على عدد من الكتاب السوريين ضمن [قضية العدد]، هنا مساهمة الأستاذ غسان المفلح

***

الحقيقة لست ناقداً شعرياً، رغم أني توهمت في مرحلة ما من شبابي، بأنني شاعر، ومزقت ديواناً، كان قد قدّم له الصديق الدكتور فادي الصغير الله يذكره بالخير، كتب مقدمة “مطنطنة”، كما يقال. مزقته رغم حصولي على موافقة دار النشر، لأنني اكتشفت في لحظة إلهام أنني لست شاعراً.

 أحد الأسباب في ذلك كان نزار قباني، الذي كنت أعتبر شعره رجعياً باعتباري يسارياً صاعداً، عندما قرأته مرة أخرى بعد صعودي اليساري، جاملت نفسي، ويساريتي، ورفضت الاعتراف بجمال هذا الدمشقي الشعري. كنت في الأول الثانوي، عندما شاهدت مرة في سيارة صديق والدي ديوان” طفولة نهد”. سألته، كي يسمح لي بقراءته. ضحك، وقال لي: فقط لا تقل لوالدك، وأعده لي. قرأته وأعدته له، وكان والدي رحمه الله كلما رآني لعدة أيام يبتسم. لأول مرة أذكر هذه القصة؛ لأنني بعدها صرت قارئاً للشعر، ومحاولاً الكتابة. بعد ذلك بدأت بقراءة محمود درويش، وأدونيس، وسميح القاسم، وسماع مظفر، وأحمد فؤاد نجم، بصوت الشيخ إمام، وترجمات بابلو نيرودا، وناظم حكمت، وغيرهم من معبودي يسار تلك المرحلة. هنا لست بوارد الحديث عن صحة، أو عدم صحة موقف اليسار آنذاك، من نزار قباني وأم كلثوم وعبد الحليم، وكانت معبودتنا فيروز. هذه المفارقات تحتاج لمواد وحدها، كما بيّن التاريخ لاحقاً. وقبل أن أرسل النسخة النهائية للمطبعة، بعدما كتب المقدمة الصديق فادي، وقع في يدي ديوان نزار قباني “أنت لي”. قرأت بعضاً منه وبعدها قلت للصديق فادي: أنا لست شاعراً، ومزقت تقريباً كل ما كتبت.

في فترة متأخرة قرأت لنزار كل ما وقع تحت يدي من دواوينه. إنه شاعر دمشق قبل البعث، دمشق بعد البعث لم تعد دمشق نزار قباني.

“الذين سكنوا دمشق، وتغلغلوا في حاراتها، وزواريبها الضيقة، يعرفون كيف تفتح لهم الجنة ذراعيها، من حيث لا ينتظرون” هذا ما كتبه نزار في إحدى مقالاته عن دمشق.

 في الواقع لا يمكننا فصل نزار السياسي، عن نزار الشاعر المغرم بدمشق، فهو غنّى لحرب تشرين:

“شمس غرناطة أطلت علينا بعد يأس، وزغردت ميسلون

يا دمشق البسي دموعي سواراً، وتمني، فكل شيء يهون”.

ثم أطلق قصيدته الدمشقية:

“هذي دمشق.. وهذي الكأس والراح إني أحب… وبعـض الحـب ذباح.

أنا الدمشقي.. لو شرحتم جسدي           لسـال منه عناقيـدٌ.. وتفـاح

ولو فتحـتم شراييني بمديتكـم سمعتم في دمي أصوات من راحوا”

كما أنه أعلن موقفه من الديكتاتوريات العربية، رغم التباسات موقفه، بما عرف عن مهرجان المربد في العراق، وانتقاد بعضنا له، على موقفه من نظام صدام حسين. هذا الموقف تجلى في قصيدته” السيرة الذاتية لسياف عربي”

أيّها الناسُ”: لقد أصبحتُ سُلطاناً عليكمْ

فاكسروا أصنامكم بعدَ ضلالٍ،

واعبدوني..

إنّني لا أتجلّى دائماً

فاجلسوا فوقَ رصيفِ الصبرِ، حتّى تبصروني .

أتركوا أطفالكم من غيرِ خُبزٍ”.

لكن القصيدة الأكثر حضوراً، على المستويات كافةً، بالنسبة لي هي قصيدته بلقيس 1982 التي أطلقها، بعد حادثة مقتل زوجته بلقيس، في تفجير السفارة العراقية في بيروت.

بلقيس

كانت أجمل الملكات في تاريخ بابل

بلقيس..

كانت أطول النخلات في أرض العراق

كانت إذا تمشي..ترافقها طواويسٌ..

وتتبعها أيائل..

بلقيس يا وجعي..

ويا وجع القصيدة حين تلمسها الأنامل

هل يا ترى..

من بعد شعرك سوف ترتفع السنابل؟ “

في هذه السيرة السياسية يمكننا أن نرى أن لا شاعراً نجا من تحولات السياسة في عالمنا العربي، لا شاعراً أيضاً، إلا له مصالحه كإنسان! هذه معضلة تتعلق بالنظر، إلى ما يمكننا تسميتهم رموز الأدب، أو غيره من صنوف الإبداع.

شعراء كبار باعوا ضمائرهم، مثلاً محمد مهدي الجواهري، أدونيس وغيرهم. بقي نزار إشكالياً على هذا الصعيد، كما أنه لم يصدر منه موقف واضح، تجاه الفاشية الأسدية حسب معلوماتي.

نزار من أكثر الشعراء إشكالية، بالنسبة لنقاد الشعر والسياسة، خاصة في ما أبدعه من شعر، كانت المرأة موضوعه الأساسي؛ حيث الغزل والعشق، ووضعية المرأة عموماً في مجتمعها الدمشقي الذي عاشه نزار.

لست معنياً بإضافة مادة عن شعر نزار على هذا الصعيد، فقد أُشبع شعر نزار قراءة ونقداً، مدحاً وقدحاً، لكنني أردت القول في خاتمة هذه العجالة التي يستحق نزار كتباً تُكتَب عن شعره: إن  معظم من تناول نزاراً، في هذا الحقل جردوه من علاقته بالبيئة الدمشقية المحافظة بشكل عام تجاه المرأة، لهذا جاء شعر نزار فتحاً جديداً في الكتابة شعراً عن المرأة، وإن كانت المرأة في شعر نزار امرأة عامة غير معينة، ربما باستثناء بلقيس كما أسلفت.

 في جوهر روحية التمرد، عند هذا الشاعر كانت المرأة الدمشقية، بين الكلمات حاضرة في تفاصيل القصيدة النزارية عن المرأة، رغم عموميته الشعرية كانت المرأة الدمشقية خصوصيته، التي بشعره تمرد نزار على واقعه الاجتماعي وواقعها. هنا كان الفتح النزاري في الحقيقة.

لكنه يبقى عَلَم دمشق الشعري.

_____________________________________________

من مقالات العدد السادس من مجلة (العربي القديم) الخاص بالذكرى المئوية لميلاد نزار قباني – كانون الأول/ ديسمبر 2023

زر الذهاب إلى الأعلى