الرأي العام

بصمات | الآثار الوحشية لانعدام التفكير

د. علي حافظ

حضرت المفكرة حنّا آرنديت محاكمة أدولف أيخمان – أحد القادة النازيين – في القدس عام 1961 كمراسلة لـ “مجلة نيويوركرر” الأمريكية. ومن وحي تلك المحاكمة ألفت كتابها الإشكالي “أيخمان في القدس. تقرير عن تفاهة الشر”، الصادر عام 1986.

هناك جزئية في هذا الكتاب، قلما ينتبه إليها أحد؛ وتتلخص بوصف الكاتبة لأيخمان بـ “المهرج المضحك”، و”المواطن العادي عديم اللون”، وصبغ تصرفاته بـ “البيروقراطية البرجوازية”… مما دفع الكثير من معارفها القدامى، لاسيما بين الكتاب والنقاد اليهود، إلى التهجم عليها وانتقادها بشكل عنيف وقطع العلاقة معها لاحقاً، لأنها بذلك “قللت من شأن فظائع النازية” – على حد قولهم!

ومن ثم تحول الأمر إلى موجة عارمة من الكراهية، اضطرها أخيراً للسفر إلى سويسرا والانعزال في قرية (تيغنا) للتعافي من تلك الآفة، حيث ماتت هناك عام 1970!

لم يشفع للكاتبة والمفكرة الألمانية ذات الأصول اليهودية تركها جامعتها وعملها، وتكريسها 6 سنوات من عمرها لخدمة الدولة الإسرائيلية عبر انخراطها بكل حماس، ليس من أجل المساعدة في تهريب الشباب اليهودي الألماني إلى فلسطين فحسب، وإنما كل الشباب اليهودي في أوروبا!

رغم كل ذلك، أصرت حنّا على أن أيخمان لا يمثل سوى “الوجه المبتذل للشر”؛ وأن “الوحشية في بعض الأحيان لا تتمثل في نية فعل الشر، ولكنها تظل مبتذلة إلى حد سخيف عندما يتم ارتكابها دون تفكير، وتُنفذ كعمل بيروقراطي”.

تقر حنّا بأن جريمة أيخمان تمثلت لها، ليس من خلال عدم تفكيره في الغرض من تجهيز لوجستيات نقل الضحايا بالقطار التي خطط لها بشكل مثالي، وإنما التزامه فقط بإنجاز المهمة وإنقاذ حياته الشخصية والمهنية…

ربما تكون هنا أول من لفت الانتباه إلى الآثار الوحشية لعدم التفكير لأولئك الناس الذين يملكون القرار ولا يفكرون بنتائج قراراتهم متجاهلين العواقب الوخيمة لأفعالهم، والتي تؤدي، في كثير من الأحيان، إلى كوارث ومآسي بشرية!

تؤكد حنّا أن كل هذا يحدث من خلال طيش غالبية مرتكبي الجرائم، ورفض رؤية المجرم نفسه كمجرم على الإطلاق… هذا يقودنا إلى أن تفاهة الشر تكمن في حقيقة أن الكارثة تبدو طبيعية وتأخذ مجراها بين الناس الذين يغضون الطرف ويهزون أكتافهم ويؤدون عملهم على أكمل وجه وكأن شيئاً لم يكن!

وإذا أسقطنا هذا على وضعنا في سورية، فسنجد أن جزارها بامتياز بشار الأسد هو صاحب اليد العليا ويمسك بكل الأوراق الرابحة بيديه ويدي زوجته؛ وأولئك المغفلون الذين يدافعون عنه لا يملكون شيئاً سوى حياتهم التي يعطونها من أجل حمايته مع عائلته، ليتوارثوا عرش ما بقي من البلاد إلى الأبد؛ هم أناس لا يفكرون؛ رغم أنهم يرتكبون الجرائم والمجازر بحق السوريين بكل دماء باردة، ودون أي رادع أخلاقي أو حس إنساني أو شعور بالذنب… هنا، حتى ولو حاولنا وصف هؤلاء بـ “الأشرار التافهين”؛ أو “أدوات الشر” التي يستخدمها الشرير الأكبر؛ فإن الكلمات نفسها ستثور ضدنا أو ربما تخرس كلياً من هذه الأوصاف وتعتزل العمل؛ لأنها ستخجل وسيلاحقها العار طوال حياتها من استخدامها لهذه المهمة!

أما بالنسبة لأولئك الرماديين الأنانيين الذين آثروا الصمت أو التزموا الحياد حفاظاً على أوضاعهم مصالحهم، فسنعتبرهم أناساً عاديين لا حول لهم ولا قوة رغم ضررهم وسلبيتهم القاتلة!

هنا، لا يسعني إلا أن أسوق لهؤلاء ما قاله الشاعر والفيلسوف الإيطالي دانتي أليغيري، بأن: “أحر مكان في الجحيم هو لأولئك الذين يظلون محايدين في الأزمات”!

في النهاية، لابد من تذكير كل من يسلب السلطة بطرق غير شرعية، أو يأتي إليها عن طريق المجازر والمحارق وسفك الدماء وبناء تلال من الجماجم، بينما يبقى هو حياً يعيش في رفاهية مطلقة؛ بأنه إذا لم يحل العقاب به، فسيحل بأولاده أو أحفاده، مسترجعين التزام الفيلسوفة الفرنسية سيمون فايل في كتابها “الحاجة إلى الجذور”، الذي أنهته قبل وفاتها بوقت قصير عام 1943، تجاه الجماهير، من خلال تعايش دائماً مع حساسية ميل نظام الحكم كي يصبح وسيلة أخرى لهيمنة جماعة استبدادية، أطلق عليها أفلاطون في جمهوريته وصف “الوحش العظيم”.. هذا الوحش كشف عن حقيقة لا يستطيع أي جيش أن يقهرها: وهي أن أي جماعة تحكم بالقوة، ستُحكم بها ذات يوم!

من كل ذلك نستنتج، بالنسبة لنا نحن كسوريين، أنه من الممكن أن تشكل مصلحة طائفة أو جماعة الأسد دولة تكون أقرب للمافيا أو الشركة الفاسدة، ولكنها لا تشكل مجتمعاً يستحق هذا الاسم. إن بناء دولة يتطلب قيماً روحية سامية في المقام الأول؛ وهو ما تصفه فايل بـ “التجذر”، أي مشاركة الجميع في المجتمعات التي تربط بين الماضي والحاضر والمستقبل. وهنا أقتبس مما كتبت: “فقط الضوء الذي يسقط باستمرار من السماء هو الذي يزود الشجرة بالطاقة اللازمة لغرس جذورها في أعماق الأرض”.

أجل، يا جماعة الأسد: نحن لسنا لقطاء ووحوش مثلكم، فجذورنا كسوريين متجذرة حقاً في السماء مثل تلك الشجرة العظيمة!

زر الذهاب إلى الأعلى