دلالات وقضايا | بُرْج بابل والأهرامات وطيور أبابيل
مهنَّا بلال الرَّشيد
كانت ثورة تدجين القمح في كوبكلي تبَّه (Göbekli Tepe) حوالي (10000) قبل الميلاد نقطة تحوُّل جوهريَّة جدّاً في حياة البشريَّة كلِّها، وتحوَّلَ الإنسان بعدها من إنسان بدويٍّ صائد جامع إلى فلَّاح أو مزارع حضريٍّ أو متحضِّر؛ لأنَّه بدأ يسير على رَكب الحضارة؛ لتصير قريته الزِّراعيَّة الصَّغيرة بعد سنين مدينة كبيرة؛ فيغدو بذلك إنساناً مَدَنيّاً (بمعنى ساكن المدينة المتقدِّم والمتحضِّر)؛ ثمَّ ستصبح بعض هذه المدن دُوًلاً أو ممالك أو عواصم ممالك مهمَّة؛ فمدينة شانلي أورفا التُّركيَّة بجوار حرَّان وكوبكلي تبَّه صارت -على سبيل المثال- مركزاً دينيّاً مهمّاً لأجداد إبراهيم عليه السَّلام وأبيه (آزر أو تارخ)، قبل أن تغدو مكَّة المكرَّمة عاصمة التَّوحيد، وينهض فيها إبراهيم -عليه السَّلام- بالدِّيانة الحنفيَّة الإبراهيميَّة، وما يزال هناك في أورفا مقام لإبراهيم -عليه السَّلام- يؤمُّه السَّائحون والزُّوَّار في كلِّ وقت، وفي مكَّة المكرَّمة مقام إبراهيم -عليه السَّلام- وموطئ قدمه موجود في وقتنا الرَّاهن بجوار الكعبة المشرَّفة؛ عاصمة الإسلام وقبلة المسلمين. وبعد اكتشاف موقع كوبكلي تبَّه في تسعينات القرن الماضي تغيَّرت نظرات معظم علماء الفيلولوجيا والآثار والتَّاريخ القديم حول تقسيم العصور التَّاريخيَّة القديمة؛ ممَّا يدفع نحو إعادة كتابة تاريخ هذه المنطقة وتصحيح كثير من النُّقاط الجوهريَّة فيه، وما تزال نتائج الكشوف الأثريَّة والتَّاريخيَّة ذات الدَّلالة المهمَّة تصدرُ حتَّى يومنا هذا عن دراسة آثار موقع كوبكلي تبَّه في مكان إقامة أجداد إبراهيم -عليه السَّلام- بين حرَّان وأورفا وكوبكلي تبَّة، وصار هذا الموقع يدلُّ على مرحلة تاريخيَّة مبكِّرة، اصطلح القائمون عليه أن يطلقوا عليه اسم: (النُّقطة التَّاريخيَّة صفر)؛ للدَّلالة على بداية مرحلة التَّمدُّن البشريِّ؛ نتيجة انطلاق ثورة تدجين القمح وبداية الثَّورة الزِّراعيَّة والتَّحوُّلات الاجتماعيَّة والتَّاريخيَّة والسِّياسيَّة والثَّقافيَّة والقانونيَّة الكبرى، الَّتي ترافقت مع هذه الثَّورة، أو نتجت عنها.
شبكة تلال الحضارات القديمة في بلاد ما بين النَّهرين:
بعدما استصلح المزارعون الأوائل في كوبكلي تبَّه الأراضي الزِّراعيَّة، وزرعوها بالقمح، وقسَّموا العمل، وسنُّوا القوانين المناسبة لتنظيم الأسرة، وتقسيم العمل؛ تنبَّهوا إلى ضرورة حماية حقولهم من الحيوانات ومن أيِّ غزو خارجيٍّ محتمل؛ ونظرًا لصعوبة تسوير الأراضي وتحصين الحقول الواسعة بنوا التِّلال المحيطة بمستوطناتهم الزِّراعيَّة من جهاتها الأربع، ووضعوا (النَّواطير) من رجال الاتِّصال ورُماة السِّهام فوق تلك التِّلال، واهتدوا إلى إشعال النَّار وإطلاق دُخانها عند ملاحظة أيِّ عدوٍّ خارجيٍّ قادك؛ ليهبَّ في وجهه باقي سُكَّان القرية الزِّراعيَّة لحمايتها، ويتَّجهوا جميعهم نحو الجبهة أو الجهة، الَّتي يُنذر نواطيرُها بقدوم الخطر منها؛ وربَّما يكون احترام دور النَّار في التَّدفئة والطَّبخ والتَّواصل والتَّنبيه إلى الأخطار القادمة قد تسبَّب في تقديسها وظهور عبادتها في الدِّيانة الزُّرادشتيَّة وغيرها، ويوجد سورة في القرآن الكريم اسمُها سورة الدُّخان، وخلال عمل الفلَّاحين في الحقول الزِّراعيَّة لموسم طويل قد يبلغ مداه تسعةَ أشهر ظهرت طقوس جميلة أدَّت إلى ولادة كثير من فنوننا التَّراثيَّة والشَّعبيَّة الرَّاهنة؛ فعند احتباس المطر بعد البِذار يخشى المزارعون من القحط والجفاف؛ فيصعدون إلى رؤوس التِّلال والجبال، ويلبسون ثيابهم الرَّثَّة والمقلوبة كناية عن تغيُّر أحوالهم؛ وهذه هي جذور الفنِّ المسرحيِّ الأولى في العالم؛ ثمَّ يبتهلون وينشدون للآلهة؛ وهذه أيضًا طقوس الاستسقاء وصلواته وابتهالاته الدِّينيَّة الأولى، وعندما تنبت المزروعات، يبدأ المزارعون بتعشيب الأرض أو تنظيفها من النَّباتات الضَّارَّة بجوار القمح النَّابت، ثمَّ يُردِّد المنشدون كلامهم المسجوع، ويُلقي الشَّعراء قصائدهم، ويُنشد المنشدون أناشيد العمل بعد مواويل العتابا والميجانا؛ وهذه هي الجذور الأولى لفنون الرَّجز والشِّعر وأغاني العمل والأهازيج التُّراثيَّة والشَّعبيَّة، وفي نهاية الموسم، يتركون حصَّة لبذار موسم جديد، ويتركون مؤونة الشِّتاء، ويبيعون الفائض، ويزوِّجون بأثمانه أبناءهم وبناتهم، ويبنون لهم بيوتًا جديدة خارج أسوار التِّلال المحيطة بالقرية، ويرفعون وراء بيوت الأبناء الجديدة تلالاً أخرى جديدة وبعيدة لحمايتها؛ فتتَّسع بذلك حدود المستوطنة الزِّراعيَّة، وظلَّت الأمور تسير بسعادة وسلام؛ حتَّى اصطدمت حدود تلال هذه المملكة الزِّراعيَّة مع حدود مملكة زراعيَّة أخرى؛ تقدَّمت بتلالها، وزحفت بأراضيها وبيوتها نحوها؛ فظهر الصِّراع على الحدود والمجال الحيويِّ الغنيِّ بالتُّربة الخصبة ومنابع المياه والأنهار الغزيرة، وتَكَشَّفَ دورُ ساسة المملكة الزِّراعيَّة وحكمائها في تقسيم العمل وإعداد العساكر والجنود المدرَّبين لحماية المملكة والدِّفاع عن تلالها وحدوده، وظهر دور أصحاب الفكر السِّياسيِّ والتَّخطيط العسكريِّ لتطوير الأسلحة مع وسائل الاتِّصالات وأجهزة الاستخبارات والأمن السِّيبرانيِّ لحماية المملكة الزِّراعيَّة من أيِّ خطر قادم؛ فكان لا بدَّ من تطوير التِّلال، وتحويلها إلى زَقُّورات أو أهرامات مُدَرَّجة أوَّلاً، ثمَّ طوَّروها إلى أهرامات تقليديَّة ثانيًا، وبعد مرحلة تاريخيَّة فقدت فيها التِّلال والزَّقُّورات والأهرامات التَّقليديَّة أهمِّيَّتها؛ ظهرت أهمِّيَّة الأبراج والحصون والقلاع الاستراتيجيَّة.
بناء الأهرامات
بعد مرحلة زمنيَّة غير قصيرة أدَّت فيها تلال الحضارات الأولى في بلاد ما بين النَّهرين دورَها في حماية القرى والمستوطنات الزِّراعيَّة، وساعدت سُكَّانها على التَّواصل فيما بينهم، تحوَّل كثيرٌ من تلك القرى إلى مدنٍ كبيرة أو عواصم ممالك تتنافس مع مُجاوِراتِها على الحدود والمجال الحيويِّ؛ لذلك كان لا بدَّ من تطوير الأسلحة وأنظمة التَّواصل، وكانت فكرة رَفْعِ التِّلال نحو الأعلى فكرة جوهريَّة؛ لأنَّ مَن يُسيطر على التَّل أو الجبل العالي سوف يُراقب المجال الحيويِّ في مسافات بعيدة، وسوف يُهيمن على عدد كبير من التِّلال والقُرى والمستوطنات الزِّراعيَّة، ورُفْعُ أتربة التَّلِّ إلى أكثر من (15) مترًا سيحتاج إلى آلاف المترات المكعَّبة من الأتربة، وسوف يستنفذ جهدًا كبيرًا جدًّا من ساعات العمل؛ إن لم يُطوِّر المهندسون فكرة بناء التَّلِّ ذاته؛ وهنا ظهرت فكرة الزَّقُّورات أو الأهرامات المُدَرَّجة؛ أي تحويل أتربة التَّلِّ إلى مصاطب يرتفع بعضها الأصغر فوق بعضها الأكبر؛ ويكون ذلك بخلط التُّراب بالماء والقشِّ والتِّبن، وحرقه بالنَّار أو تجفيفه تحت أشعَّة الشَّمس؛ لتحويله إلى اللِّبن الطِّينيِّ؛ وقد مكَّنت هذه الفكرة من بناء زَقُّورات أو أبراج هَرَميَّة مُدرَّجة؛ تتألَّف من مصاطب وطبقات، قد يصل ارتفاعها إلى (50) متراً، وبذلك مهندسو البناء والاتَّصالات من رصد مجال حيويِّ بعيد عن الزَّقُّورة أو الهرم المُدَرَّج، كما استفادوا من مصاطب الزَّقُّورة بتحويل طبقاتها إلى قبور وغُرَفٍ لتخزين الحبوب والأسلحة والوثائق الكتابيَّة المهمَّة المدوَّنة على ألواح الطِّين؛ ويوجد هذا النَّوع من الزَّقُّورات في أكثر من مكان في الكرة الأرضيَّة، وأشهرها يقع في العراق ومصر وشمال السُّودان؛ ولأنَّ فكرة الزَّقُّورات والأهرامات المدرَّجة قدَّمت فوائد رَصْدِيَّة -تواصليَّة- تخزينيَّة كبيرة ظلَّ التَّنافس مشتعلاً بين الممالك القديمة المتصارعة على المجال الحيويِّ بين النِّيل والفرات؛ حتَّى استطاع أشهر ملوك الأسرة الفرعونيَّة الرَّابعة خوفو (ـت: 2566) قبل الميلاد من بناء هرمٍ يُسمَّى باسمه هرم خوفو، وهو دُرَّة العمارة العالميَّة القديمة، وهو أكبر هرم مصريٍّ في العالم كلِّه، ويُعدُّ من عجائب الدُّنيا السَّبع، ويصل ارتفاعه إلى (149.4) متر، وعدد حِجَارته حوالي (3) ملايين حجرٍ، يبلغ وزن حجر السَّقف في أعلى الهرم حوالي (70) طنًّا، وتتراوح أوزان الحجارة الأخرى بين (2-15) طنًّا، وفي الهرم مجموعة كبيرة من الأسرار والظَّواهر الغامضة، الَّتي حيَّرت العلماء الَّذين درسوها، وقد وصل كثيرٌ منهم في أبحاثهم المتعدِّدة إلى نتائج متناقضة حول أسرار التَّحنيط، وأسباب جفاف أيِّ قطعة من اللَّحم وفقدانها سوائلها دون أن تتعفَّن بعد وضعِها في الهرم، ووقفوا عند مقاومة الخناجر الفرعونيَّة للصَّدأ مع حفاظها على حِدَّتها، ولاحظوا تكسُّر موجات أجهزة البثِّ الصَّوتيَّة وفقدان الاتِّصال داخل الهرم، كما تنبَّهوا إلى جملة كبيرة من الظَّواهر الأخرى، الَّتي يمكن أن يقرأ عنها كلُّ شغوف بعلم المصريَّات والتَّاريخ الفرعونيِّ القديم؛ لكنَّ السُّؤال الأبرز الَّذي حيَّر العلماء، وما زال يُحيِّرهم؛ يقول: كيف بنى الفراعنة هذه الأهرامات؟
هناك فرضيَّات متعدِّدة لبناء الأهرامات، لم أستطع قبول أيٍّ منها؛ كالرَّأي الأوَّل القائل: برفع تلك الصُّخور عند فيضان نهر النِّيل، والرَّأي الثَّاني القائل: بسحب تلك الصُّخور نحو الأعلى على جذوع أشجار أسطوانيَّة، أو رفعها بروافع أو بَكَرَات ميكانيكيَّة، وهناك رأي ثالث يرى أصحابه: أنَّ الفراعنة عرفوا الكهرباء والرَّوافع والقواطر والدَّارات الكهربائيَّة؛ لكنَّني أستبعد هذه النَّظريَّات كلَّها؛ لأسباب كثيرة؛ أهمُّها استحالة تحكُّم مهندسي العمارة بتلك الكُتل الصَّخريَّة الكبيرة على ارتفاعات عالية مع حركة المياة أو الأسطوانات أو الرَّوافع؛ لذلك فحِجارة الأهرامات عندي حجارة صِناعيَّة مثل البيتون أو السِّيراميك أو اللِّبن الصِّناعيِّ، استخرج الفراعنة موادها العضويَّة من قلب نهر النِّيل وعلى ضفافه، ونقلوها إلى نقطة البناء، ورفعوا طينها المجبول بالرَّمل والماء والغُضار بمقدار ما يستطيع أن يحمله العامل، وبنوا منها المداميك، وأحرقوها وشووها بالنَّار واحدةً تلو الأخرى، وعندما تتصلَّب حجارة المِدماك الأرضيِّ بعد شويه بالنَّار، يشرع المهندسون والبنَّاؤون ببناء المدماك الأعلى، ثمَّ يوضع طين السَّقف؛ أي تُصنع حجرة السَّقف الكبرى، الَّتي تَزِن (70) طنًّا، ثمَّ تُشعَل أخشاب الغابات داخل الهرم، حتَّى تُطبخ حجارته، وتفخَّر، وتصبح آجرًّا مشويًّا، وما انسلاخُ طبقات خارجيَّة كُبرى من حجارة الهرم وصخوره إلَّا لفقدان تلك المادَّة الغضاريَّة صلابتها وتماسكها مع مرور الزَّمن، ولأنَّ لهب النَّار المشتعلة عند طبخها أو حرقها بعد البناء الأوَّل لم ينفذ إلى مركز الحجرة في الدَّاخل كنفاذه إلى طبَقاتها الخارجيَّة؛ بسبب حجمها الكبير جدًّا!
أين تلك المادَّة الغُضاريَّة؟ ولماذا توقَّف بناء الأهرامات؟
هنالك موادَّ عضويَّة وموارد طبيعيَّة وطاقة غير متجدِّدة على سطح الكرة الأرضيَّة؛ أو يمكن القول: هناك صخور ومواد عضويَّة ومعادن وغازات نادرة على سطح الكرة الأرضيَّة، لو نفدت سينتهي وجودها إلى الأبد، وما غلاء الذَّهب على الأرض إلَّا لأنَّه معدنٌ نادر ونفيس، ولأنَّ الذَّهب كان موجودًا بكمِّيَّات كبيرة في جبال أمريكا اللَّاتينيَّة وأنهارها لم يكن ذا قيمة كبيرة هناك، وقد ظلَّ ملوك حضارات المايا والآستيك يصنعون مقاعدهم وطاولاتهم الكبيرة وأدوات مطابخهم من الذَّهب الخالص؛ حتَّى وصل كريستوف كولمبوس في رحلته الثَّانية إلى الجُزُر الكاريبيَّة ثمَّ إلى سائر أراضي الأمريكيَّتين أو العالم الجديد بأسره بدءًا من (12 أكتوبر/ تشرين الأوَّل 1498.م)، ثمَّ سلب الإسبان والمتحالفون معهم ذَهَبَ هذه الحضارات القديمة، وصكُّوه سبائك وعملات معدنيَّة ذهبيَّة، وهذا شأنُ الغُضار داخل النِّيل وعلى ضِفافه، وهذا شأن موادِّ التَّحنيط الفرعونيَّة، الَّتي نفدت من سطح الأرض بعد أن استخدمها الفراعنة، وهناك جبال من الصَّخور الرُّخاميَّة نفدت في أكثر من موقع من مواقع الكرة الأرضيَّة؛ لأنَّ أصحاب المناشر الحجريَّة قطَّعوها، وباعوها لأصحاب القصور والأبنية العريقة، وإن فهمنا أو تصوَّرنا أسباب نفاد تلك المواد أو الموارد غير المتجدِّدة فإنَّ سؤالنا عن أسباب توقُّف بناء الأهرامات ما زال بحاجة إلى إجابة منطقيَّة؛ فما أسباب التَّوقُّف عن بناء الأهرامات؟
استغرق بناء الهرم الواحد سنوات عمل طويلة، واستنفذ طاقات عمَّاليَّة كبيرة جدًّا، وملايين من ساعات العمل، وأدَّى الهرم بعد طبخ حجارته وطلائه من الخارج بالفوسفور المضيء ليلاً أدوراً اتِّصاليَّة جليلة، ترتبط بهيمنة الفراعنة، وتُفسِّر سطوتهم على العالم القديم، لكنَّ التَّنافس المحتدم على المجال الحيويِّ أفقد الأهرام قيمتها مع مرور الزَّمن، أو بمعنى آخر: استطاعت الأبراج والحصون والقلاع المبنيَّة بجهود بسيطة (مقارنة بجهود بناء الهرم) أن تنافس الهرم على مكانته، وأن تقوم بدوره، لا سيَّما إن كان البرج أو القلعة أو الحصن في موقع استراتيجيٍّ مهمٍّ، فقد نافس برج بابل أهرامات مصر، وتمكَّن حسن الصَّبَّاح (زعيم حركة الحشَّاشين الشِّيعيَّة الإسماعيليَّة) أن يقتل (نظام الملك الطُّوسيِّ ووزير ألب أرسلان السَّلجوقيَّ وابنه مَلِكشاه ت: 1092.م) بعد سيطرته على (قلعة آلموت-تعني: وَكرُ العُقاب بالفارسيَّة)، وتبعد (100) كيلومترٍ شمال غرب طهران، وتمكَّن صلاح الدِّين الأيُّوبيِّ (ت: 1193.م) من فتْحِ بيت المقدس وتحريره من الصَّليبيِّين بعد القضاء على الشِّيعة الفاطميِّين في مصر، وبعد السَّيطرة على قلعة الكَرَك شَرقَ بيت المقدس في الأردن؛ ويتَّضح لنا في نهاية هذا المقال أنَّ العِبرة ليست في الأوابد التَّاريخيَّة الكبرى ذاتها، وإنَّما العِبرة في طريقة توظيفها والاستفادة منها؛ فلربَّ حصاة صغيرة أفضل من صخرة كبيرة بعض الأحيان؛ ولكن -والحقُّ يُقال- لم تبزُّ الحصون والقلاع والأبراج الصَّغيرة لوحدِها دور الأهرام؛ بل اجتمع تأثيرها مع تأثير فكر القادة الفاتحين، بالإضافة إلى اعتمادهم على التَّواصل بالنَّار على رؤوس الأبراج والتِّلال والجبال، مع تسخير الطُّغراءِ والحمام الزَّاجل أيضاً؛ والطُّغراء مصطلح دلَّ على رِجال الاتِّصالات فيما بعد، والطُّغرائيُّ رجل اتِصالات وشاعر حكيم (ت: 1121.م)، قال يصف عِبْرَتَه من تَغيُّر الدُّول، وتداول الأيَّام بين الأُمم:
أُعلِّلُ النَّفس بالآمال أرقُبُها ما أضيقَ العيش لولا فُسحة الأملِ
بقي أن نُشير إلى دور المنجنيق؛ تلك الآلة الحربيَّة العُظمى، الَّتي كان لها دورها في ظهور حضارات واندثار أُخرى، كما أسهمت في تراجع دور الأهرامات وتحطيم أَحْصَنِ الأبراج والقلاع؛ فَما معنى المنجنيق؟ ومَن أوَّل من استخدمه؟ وما علاقته بسورة الفيل وطيور أبابيل وحِجارة سِجِّيل في القرآن الكريم؟ آملُ أن تأتي الإجابة على هذه الأسئلة المثيرة من خلال قراءة فيلولوجيَّة خالصة ومُغايرة في سورة الفيل في القرآن الكريم من خلال دلالات القضيَّة القادمة في مقال الأسبوع القادم!