أرشيف المجلة الشهرية

حماة في حديث السياسة وروايات الأدب

العربي القديم – غسان المفلح
2 فبراير 1982 – 28 فبراير 1982. مجزرة حماة، حينما أطبقت القوات البرية الأسدية، وسرايا الدفاع حصاراً على مدينة حماة، بناءً على أوامر من حافظ الأسد، ولمدة 27 يوماً، حيث دمرت المدينة القديمة من جهة، ووصلت أعداد الضحايا، حسب غالبية المصادر الدولية والحقوقية، إلى ما بين 20 ألفاً، و30 ألفاً من الضحايا والمفقودين. طبعاً لا يمكننا نسيان النهب، والسرقة والتعفيش الذي تعرّضت له منازل المدينة، من قبل القوات الفاشية الأسدية.
الكتابة عن مدينة حماة، وعن تلك المجزرة أمر يتكرر كل عام، من قبل المهتمين. ثمة أيضاً من يحاول أن يؤرخ، من خلال كل أنواع الأدب.

رواية “سكوت” للمنتصر بالله

“كانت سماء مدينة حماة السورية في شباط من عام 1982 رصاصية رمادية ضبابية، فقد وضعوا أيديهم الوسخة على أرواحنا، حطموا أرواحنا، وهذا أكثر أذية من تمزيق أجسادنا، في لحظة ما أصرخ، وبكل ما أوتيت من صمت: يا الله امنحني نعمتك، نعمة النسيان”. بهذه الكلمات الحادة، كنصل سكين الواخزة، كجرح مفتوح يستهل الكاتب السوري “المنتصر بالله”-اسم مستعار– روايته الأولى “سكوت” التي تتحدث عن أحداث حماة، عام 1982، والنتائج الكارثية التي حلت بأهالي المدينة عموماً، وصولاً إلى ثورة عام 2011 في سوريا ككل، والنتائج التي ترتبت على الشعب السوري.

رواية “طاحون الشياطين” لشريف الراس

يقول الأديب محمد الحسناوي – رحمه الله – في دراسة له عن رواية (طاحون الشياطين) لشريف الراس، تقول الرواية: “لو أننا جمعنا كل وحوش الغابات، وأطلقناها على سكان مدينة محاصرين بسور من نار، فهل تستطيع أن تأكل أربعين ألف إنسان أعزل بريء، خلال تلك الفترة الزمنية القاسية؟! ثم خبـّـرني؛ لماذا حين كانت تتاح فرصة المفاضلة، بين الموت والحياة كان أعوان هذا الوحش يختارون من بين الحشد الأطباء، والمهندسين، والمعلمين، وكل من يحمل شهادة عالية ؟!”، فالرواية ليست خيالية، وليست تتحدث عن بلاد (الواق واق)، بل تحكي مأساة العصر في مدينة سورية، وبالذات 1982، ولا علاقة مباشرة بينها، وبين رواية (العالم 1984) لجورج أورويل، على الرغم من أنهما تصنفان في الأدب السياسي، وتمجدان الحرية، وتنضحان بالسخرية.

رواية “عذراء حماة” لعبد الله الدهامشة

أما رواية (عذراء حماة) لعبد الله الدهامشة، فتعود بنا، إلى ما قبل المذبحة بسنوات طويلة، عندما تمكن الحزب المتسلل في عام 1963 من القفز على السلطة، وهو لا يملك أهلية بفكره، ولا ممارساته، ولا أكثرية في عدد منتسبيه! كما يكتب الشاعر السوري أنس الدغيم.

الرواية التي صدرت في عمان، عام 2010، تتناول انتفاضة حماة عام 1964 لكن ثمن من يلاحظ أن الراوي حرّف الأحداث واستخدم بعض وقائع مجزرة عام 1982  ووضعها في 1964 فختم روايته بذلك الانفجار الكبير، ليبدو الزمن الحموي المتمرد على الطغيان دائرياً متصلاً يكرر  انفجاراته وصداماته.
كما كتب كمال القبيسي من لندن للعربية نت:
طرحها إلى الجدار، وراح يمزق ثيابها.. روى في إحدى المرات عن شقيقته الصغيرة مريم، وكانت البنت الوحيدة في العائلة، وعمرها عام المجزرة 14 سنة تقريباً، أي أصغر منه بعشرة أعوام، فقال: إنها اختبأت تحت السرير، مع والدته بعد قصف مفاجئ من الدبابات، على حي الباشورة، حيث كانت العائلة تقيم، ثم علا الصراخ في البيت، منه ومن بقية أشقائه الأربعة، ورأى والده يسرع؛ ليطلب من الجميع البقاء كل اثنين في غرفة، وبقيت مريم وأمها تحت السرير. فجأة بدأت العائلة تسمع طرقاً قوياً على الباب تلك الليلة المأساوية، فتضاعف الهلع داخل البيت، وفجأة اقتحم الباب 4 جنود من الجيش، ومعهم آخر بقي خارج الباب، وأسرعوا ينهالون ضرباً على كل من رأوه، وهم يبحثون عن كل غالٍ خفيف. ولمح أحدهم مريم الصغيرة، حين نظر تحت السرير، فنسي أطماعه المادية، ومد يده إليها، وأمسك بها، وجرها إلى الخارج، كغنيمة يسيل لها لعاب الأعصاب المحرومة، وحملها وهي تبكي، وتصرخ، وأمها تمسك بثيابه مذعورة لا تقوى معه على شيء، فتبرع زميله، وطعنها في بطنها بسكين، ومضى يحمل مريم إلى جدار الغرفة، وطرحها إليه، وهناك مزق ثيابها مستعجلاً إشباع الغرائز. وأطل الأب من الغرفة المقابلة على مسرح المأساة، وهو يبكي ويسترحمهم، فطعنوه مرتين في الحال، واقترب ابنه الأوسط؛ ليدافع قدر المستطاع، فأردوه ضرباً وركلاً بالأقدام، ثم خنقاً حتى أغمي عليه. وفجأة سيطر عليهم مزيد من الشر، فأشعلوا النار بالبيت، وألقوا على مريم بطانية، وحملوها وهي نصف مغمى عليها، ومازالت مريم مختفية، ولا أثر لها إلا في الكوابيس.

غيض من فيض

هذا الاستعراض غيض من فيض، من تلك الحقيقة البشعة التي مارستها الأسدية في سورية، على مدار ستة عقود تقريباً.
في الحديث السياسي عن تلك المجزرة التي كان سببها انتفاضة مدينة حماة، ضد النظام الفاشي البعثي- الأسدي للمرة الثانية. المرة الأولى كانت في عام 1964. الحجة كانت أن الاخوان المسلمين هم من يقود الانتفاضة، على فرض أن هذا الكلام صحيح، هل يمكننا الحديث عن حق هذا النظام الفاشي في إبادة المدينة، والقيام بما قام به من مجزرة لن ينساها التاريخ؟ دون أن ننسى أيضاً مجزرة حي المشارقة في مدينة حلب في 12.08.1980. ما حدث بعد الثورة آذار 2011 تعد مجزرة حماة، كأنها نزهة إجرامية للقوات الأسدية.
النقطة التي لم تستوفِ حقها في النقاش، في ظل هذه الوضعية السورية الشاذة، على مختلف الصعد هي مسألة أن العنوان العريض للمواجهة كانت الحرب مع الأخوان المسلمين. هل هذا مبرر لكل هذا القتل، لكل هذا التدمير، لكل هذا النهب؟ المجازر التي حدثت بعد الثورة لا تعد، ولا تحصى في الواقع. لا يمكنا أبداً معرفة الحقيقة السورية، دون النظر إلى وضعية  الأخوان المسلمين في سورية، دون أن نضع هذا التنظيم في موقعه السياسي الطبيعي كجزء من اللوحة السياسية الحزبية في سورية، لا يمكننا كما قلت معرفة الحقيقة. الأخوان تنظيم مثله مثل أي تنظيم سوري. التنظيمات القومية كانت تعتبر نفسها جزءاً من التنظيمات، والأفق العروبي، والتنظيمات اليسارية كانت تعتبر نفسها جزءاً من المعركة الأممية، بقيادة السوفييت مع الإمبريالية. والأخوان المسلمين ليسوا استثناء، عندما يعتبرون أنفسهم جزءاً من حركة الأمة الإسلامية السياسية، إذ على قدر ما هم أمميون إسلامياً، على قدر ما هم سوريون! هذا ينطبق على الجميع كما قلت. حتى الحركة السياسية الكردية التي تأسست، بعد استقلال سورية باتت تعتبر نفسها جزءاً من الحركة القومية الكردية، مع بقية أجزاء كردستان. انطلاقاً من  القانون 49 القاضي بإعدام كل منتمٍ لحركة الأخوان. القانون 49 تاريخ 7/8/1980.

نصت المادة الأولى من القانون 49 الذي أقره مجلس شعب الأسدية القاتلة في جلسة 7 تموز 1980 – يعتبر مجرماً، ويعاقب بالإعدام كل منتسب لتنظيم جماعة الأخوان المسلمين. لماذا تم تخصيص هذا التنظيم بهذا القانون؟ سؤال يجب الإجابة عنه في السياق الأسدي لسورية، رغم وجود تنظيم البعث القومي المدعوم من بعث العراق الصدامي آنذاك، كان تنظيماً واسع الانتشار، ويريد القضاء على الأسدية، وفقاً لخطابه، ولم يصدر بحقه مثل هذا القانون، حتى إن هنالك تنظيمات يسارية كانت تطرح آنذاك إسقاط الأسد، بكل السبل المتاحة وبقيادتها. ببساطة لأن الأخوان المسلمين هم التنظيم الأقوى سياسياً على الساحة المعارضة من جهة، وهو التنظيم الذي يتلمس الأسد منه الخطر الأكبر على مستقبله في حكم سورية للأبد. على هذا الأساس فقط نجد أن العنوان أن مجازر الأسد تمت في المعركة مع الأخوان ما هي إلا ذريعة تلطّى خلفها من تلطّى، منذ تلك المرحلة وحتى بعد الثورة السورية. لهذا دون فهم هذه المعادلة، لا يمكننا فهم كل المجازر التي قامت بها الأسدية. هي قتل وتدمير كل المدن التي هي سنّية بالولادة. للحديث بقية.. ربما بعد عام، وربما لا بقية لما آلت إليه سورية بفضل الأسدية الآن.

_____________________________________________

 من مقالات العدد الثامن من مجلة (العربي القديم) شباط/ فبراير 2024

زر الذهاب إلى الأعلى