حين كانت أورينت إدلب الصغرى
محمد منصور
رغم أن أكثر الهويات مشروعية اليوم، هي الهوية الوطنية التي تصهر مكونات كل شعب في بوتقة واحدة، فإنني لا أعتبر أن تأمل الهويات المناطقية والجهوية أمرٌ خاطئٌ أو مستهجنٌ، وخصوصاً إذا تحدثنا عن المدن والمحافظات، حيث تتبلّور التجارب الجماعية، وتتراكم الخصوصية المحلية بملامحها. وربما كان قرار فصل “قضاء إدلب” عن محافظة حلب، واعتباره مركز محافظة مستقلة عن عاصمة الشمال العريقة، من القرارات التي كرّست هوية خاصة لهذه المحافظة، شديدة التمايز عن جاراتها، وخلقت لدى الأدالبة إحساساً متفرداً بذاتهم الجماعية، تحت مظلّة الهوية السورية الجامعة.
ومع أن الشائع أن هذا الفصل تمّ في عهد الوحدة، بين مصر وسورية على يد جمال عبد الناصر، إلا أن الثابت تاريخياً أن القانون رقم (468) لعام 1957، والصادر بتاريخ 18/11/1957 بتوقيع رئيس الجمهورية شكري القوتلي، هو الذي قضى بإحداث محافظة إدلب، إلى جانب محافظة الرقة، وقد جاء في المادة الأولى منه:
“يُحدَث في أقضية حلب الغربية محافظة تُسمّى محافظة إدلب، يكون مركزها مدينة إدلب، وتتألّف من قضاء إدلب الحالي، وأقضية جسر الشغور وحارم والمعرة، وتشكل حدود هذه الأقضية حدود المحافظة المُحدَثة”.
ولا أدري لماذا تُطمَس هذه الحقيقة، رغم وجود وثيقة قانونية منشورة تؤكدها، ويصرّ أخوتنا الأدالبة على اعتبار عبد الناصر هو صانع الاستقلال الإدلبي، رابطين ذلك بزيارة عبد الناصر التاريخية للمحافظة، مع الرئيس اليوغسلافي جوزيف تيتو عام 1959… لكن في كل الأحوال علينا الاعتراف، بأن إحداث المحافظة كان قراراً صائباً، بلوَر الديموغرافيا السورية، وكرّس هوية محلية محبّبة، تزيدها غنىً، هي الهوية الإدلبية التي تأملتها طويلاً خلال عملي لأكثر من عقد كامل، في مؤسسة إعلامية كان مالكها وغالبية موظفيها من أبناء إدلب، مؤسسة أورينت التي أغلقها مالكها رجل الأعمال غسّان عبّود في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 2023.
كانت أورينت بالنسبة لي، هي إدلب الصغرى التي حين أسير في حواريها أسمع: “أشو”، و”يَا يَاب” و”اتفضل خاي”، وتعابير من قبيل: “كَدّو”، و”شَوّلو”، و”دَحَمو” و”كَعشوا” و”الحارة الشمالـيْ”. إدلب المكونة من أبناء المدينة بمُسلميها ومسيحييها النابهين، وصولاً إلى الأرياف والمناطق الأخرى: بنش، وسرمين، وسلقين، وسراقب، وأريحا، وجسر الشغور، ومعرة النعمان، وكفرنبل، وحارم، وكفرتخاريم، والنيرب، وتفتناز، وجرجناز، وحتى معرة حرمة. لقد غادرت أورينت، قبل إغلاقها بعام، ثم انفرط عقد المؤسسة بطريقة دراماتيكية مفاجئة، إلا أنني لا يمكن أن أتحرّر من الانطباعات التي تركها أبناء هذه المناطق عن إدلب. لقد كان هؤلاء الزملاء الذين جعلوا من الشعيبيات الضيافة الرسمية المقرّرة، لمعظم احتفالاتنا في المؤسسة، عنواناً للمودة، والبساطة والحيوية، وحب العمل، ومنافساته الشريفة، ونميمته غير الشريفة أحياناً. كانوا عنوان الشهامة واللهفة الأبعد عن العنصرية، والتحيز لأبناء محافظتهم فقط. كانوا الأهل والأخوة الذين بدّدوا الكثير من آلام الغربة، وكانوا الكرم الحقيقي الذي لا يترك مناسبة لا يعبّر فيها عن ذاته… وكانوا الدأب والقدرة على التحمّل والعمل لساعات طويلة. كانوا النسخة الأصفى من إدلب، وكان بعضهم الآخر عنوان النقص الذي جُبل عليه البشر، حين يكونون بشراً لا ملائكة.
وإذ تطوف بكم (العربي القديم) في هذا العدد الخاص عن إدلب، وهو الأكبر حجماً، والأغزر مادةً بين كل أعدادها السابقة، فإنها تقدّم هذه الإضاءة عن إدلب التي كان يجهلها الكثير من السوريين، إدلب التي كسرت عزلتها، وهمّشت سطوة مَن سعى لتهميشها؛ وأبرزت فرادة إرثها باندفاع كتابها للحديث الوافي عنها، لتقول لنا كم هي غنية ومتنوعة، وكم هي زاخرة بالجمال… الجمال الذي تقول إدلب إنه يمكن أن ينبع من البساطة، ويمكن أن تُتوّجهُ الروح الساخرة، فتحيّة لكلّ مَن ساهم في نفض الغبار؛ كي يجلو لنا ثقافتها وأدبها وفنونها، والأهم: إنسانها الذي يترك بصمة جديرة بالإعجاب والتقدير في لوحة الهوية السورية الجامعة.
__________________________________________
زاوية رئيس التحرير في العدد العاشر من (العربي القديم) الخاص بإدلب، نيسان / أبريل 2024
لماذا أغلق عبود اورينت؟