همسُ السّتائر: تأمّلات في لوحات التّشكيلي الإدلبي سمير حميدي
عبد الرزّاق دحنون- العربي القديم
أحبُّ إطّلالة نافذة مُشرفة على الحديقة، في البيت الذي أسكنه نازحاً من مدينة إدلب من سبع سنوات، مع أسرتي في المرتفعات الجبليّة في مدينة إزمير على شاطئ بحر إيجة، والمُطلّة جبالها على البرّ الإغريقيّ في اليونان الحديثة، نافذة جميلة بتفاصيل غريبة تُطابق في إطّلالتها، وألوان ستائرها تلك اللّوحة العبقريّة التي رسمتها أنامل التشكيليّ السوريّ ابن مدينة إدلب سمير حميدي.
في ركن الأريكة المكسوّة بالطّنافس العجميّة اتّكأت تلك المزهرية مُطلّة على شباك، من شبابيك الوجود الغارق في صفار كالشّهد، وحلو كالشّهد. من متّكئها يلمع بريق أوراق شجرة كساها الخريف بألوانه، ويُخيّل للمرء أنّ الشجرة تهتزّ أغصانها، كأنّها لا تقوى على حمل كلّ ذلك الجمال المكدّس فوقها، فيهتزّ معها الوهج الذهبيّ. وعلى السّتائر الحريريّة الخشنة الممتدّة، على طول النافذة العالية، ترتمي بين الفينة والفينة ظلال عجيبة هي ظلال اللّون، يا الله ما أبدع تلك الظّلال! تخلق في ركن الغرفة جواً خريفياً مذهلاً، وكأنك في حُلم فُرشت حواشيه بألوان صفراء زاهية من ذهب أيلول، وأتساءل: وهل للون ظلال؟
يمكن أن نسميّ اللّوحة “خريف في مزهريّة” تأمّل اللّوحة جيّداً، وتمتّع بتلك الألوان البهيّة الباهرة التي ميّزت لوحات التشكيليّ سمير حميدي. وتقول زوجتي-حفظها الله- أنتَ من عُشّاق لوحاته؛ لأنّها لا تخلو من اللّون الأصفر، لونك المُفضّل، بتدرجاته المختلفة، وهذه اللّوحة على حدّ زعمك، عَشّشَ فيها اللون الأصفر، كما يعشّش طائر السُّمان في حقل قمح اصفرّت سنابله. يبرز الأصفر في اللّوحة بكامل حُسنه وأناقته وإشراقه، ونَضارته، ولمَعانه، وزُهوّه، وأَلَقه، هذا بَهاءُ اللون وظلّه، فكيف لا تعشقها، وأنتّ في العمود تحبّ الألوان الدافئة، والتي تعكس الشغف، والسعادة والحماس والطاقة. وأنتَ أيضاً تعشق همس تلك السّتائر التي تتدلى ساكنة في هذه اللّوحة التي تقول عنها بأنّها مذهلة. وتابعت الزوجة حديثها: على كلّ حال، قم الآن، فكّ تلك الستائر التي تُحرّكها الريح بين الفينة والفينة؛ لأغسلها؛ لأنّ نافذتك المحبوبة تُطلّ على الحديقة مباشرة، وغبار التلال المحيطة بنا هُنا في المرتفعات الجبلية، في مدينة إزمير يعلق في قماش السّتائر الأصفر الخشن، فيكلح لونها.
يا الله ما أسعدني!
وأقولها جادّاً: أفرح لأنّ التشكيليّ سمير حميدي من إدلب، ومُقيم فيها ما يزال، وهي مدينتي التي أحبُ طبيعتها، وناسها حباً جمّاً، وأترجم ذلك مُحوّراً بيت الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري:(حَيّيتُ سفحَكِ عن بُعْدٍ فحَيِّيني/يا إدلب الخيرِ، يا أُمَّ البساتينِ). أسعد الله أوقاتك بكلِّ خير يا سمير، حيَّاك الله ورعاك. وأسأل: من أين لي كلّ تلك السعادة التي تغمرني، وأنا أتأمّل هذه اللّوحات بفرشاة مُبدع حقيقي؟
أتخيّله يتأمّل لوحته السّاحرة التي أبدعتها أنامله التي تُحرك الفرشاة بدقّة ومهارة عالية، شاعت في محياه ابتسامة الرضا، ثم استقرّت الابتسامة على شفتيه. ولكن نهض فجأة، ووضع أصابع كفّه اليمنى على جفنيه، كأنه يريد بذلك أن يحبس في مُخيلته حلماً عجيباً، خشي أن يزول. هل وضع في لوحة “إدلب تاريخ وحضارة” من نفسه أكثر، مما ينبغي لرسام أن يضع؟ التشكيليون في العموم أرواح بشريّة ممزوجة بالألوان الدّافئة والباردة، بقدر كثير أو قليل؛ لإثارة أحاسيس معينة في النفس، كما أنهم يستعملون أساليب مختلفة؛ لجعل الألوان وسائل أسلوبية تُعبّر بأشكال مختلفة عن الانسجام والتّضاد، وقد أبدع التشكيلي سمير حميدي في لوحته إبداعاً عالياً.
لا شك في أنني مُعجب بالمفردات اللونية الواسعة، أو الهائلة التي تُبدعها فرشاته الفصيحة، وأكاد أقول: إنها تنطوي على إشعاع روحيّ يتجسّد في ضربة فرشاة، أو سكين رسم في يدٍ جرّبت الحياة بكلِّ ما فيها من فرح وترح، من سعادة وشقاء، من خُبث وطهارة، من خير وشر، من سلم وحرب، من رذيلة وفضيلة، وسعت كي تتوازن الأضداد في عالم الله الرَّحيم.
هذا البعد الروحي في لوحات الخط العربي مثلاً يدفعنا لنذوب فيها وجداً، بل نُحس كأننا نعيش في داخلها، وننتمي إليها، ونستعذب ديمومتها في دواخلنا، وعندما نُغادر مرسمه يستمر تأثير اللّوحة فينا، ويجاذب نفسي دوماً شعور غريب، فيما أنا أفكر في تلك الهبة العظيمة التي مُنحها الله لعباده، الموهبة. ما السرُّ وراء هذا السحر والإدهاش اللوني الباهر؟ ما سرُّ انشراح الصدر الذي يغمر المرء، وهو يشاهد لوحات الحبر الصيني التي يبدع فيها سمير حميدي، وتذكَّر هي بالحبر الصيني الأسود، ما هذا التضاد؟ سواد في بياض، فرح في ترح، سلام في حرب، هل لتتناغم مع أيامنا العجاف هذه التي نعيشها في إدلب؟
ما السرُّ هنا؟ وقد ذُهلتْ رسَّامة صينية زارت مرسمه في إدلب من لوحات الحبر الصيني تلك، ولم تُصدق بأنها من رسمه، حين كان يقف أمامها مزهواً بما فعلت يداه، وفي الحقيقة ظنَّت بأنّ هذه اللوحات لرسام صيني مشهور؛ لأن رسم اللوحة بالحبر الصيني لا يحتمل الخطأ، ويتعذَّر على الرسام تصحيح هذا الخطأ، وعليه في حال الخطأ أن يبدأ من جديد في لوحة جديدة.
يُفضّل التشكيلي سمير حميدي الألوان الدافئة أكثر من الألوان الباردة في لوحاته؛ لتعكس الشغف، والسعادة والحماس والطاقة، وتتضمن: الأحمر، والبرتقالي، والأصفر، والبنفسجي بإمكانياته اللونية الغامرة ومتدرجاته العديدة، وهي ألوان النار، أوراق الخريف، الشروق والغروب، وهي بشكل عام توحي بالطّاقة. الأحمر والأصفر كلاهما ألوان أوليّة والبرتقاليّ يقع بينهما، مما يعني أن الألوان الدّافئة دفئها أصيل، ولا ينتج عن الجمع بين لون دافئ ولون بارد. ما السرُّ في هذا السحر؟ بالنسبة لي أجد بأنّ التشكيليّ سمير حميدي خُلق لهذا العمل؛ كي يكشف أسرار الكون؛ لأن الكلمة وحدها لا تستطيع التعبير عن الرمزيّة الكونيَّة، فتحضر الألوان الدافئة، فيحوِّلها الرّسام بهجة شاملة، تسمو بنا فوق هموم الحياة اليومية، وقد فعلها في أحدث لوحاته، حيث جسّد إدلب كما يراها، أو كما هي فعلاً، تاريخاً وحضارة، فجاءت لوحته في مكانها تماماً، حيث تروي سيرة مدينة كانت وادعة منسيّة في هذا الزمن الصعب.
وعلى كل حال يزعم أهل محافظة إدلب في الشمال السوريّ أن بلداتهم الصغيرة المتناثرة على الهضاب والجبال الكلسية – والتي كان زيت زيتونها يُضيء شوارع روما، ونبيذ عنبها يُسكر أهلها – هي سرة بلاد الشام، والوارثة لملاحة الحضارات القديمة في الشرق العربي، على الرغم من إهمال ياقوت الحموي ذكر معظم بلداتها وقراها في معجمه؛ لأنها لم تكن في أيامه إلا قرىً زراعية صغيرة، أو مدناً أثرية مهجورة، أو رسوماً دارسة، في حين ذكر تلك البلدات الكبيرة العامرة بالحياة، كمعرّة النعمان بلدة فيلسوف المعرّة “أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي” المكنَّى بأبي العلاء المعرّي، ونحن نفتخر بأن تربتنا تحتضن رفات ذلك الإنسان الجليل. وعلى بُعد بضعة كيلو مترات إلى الشرق من معرة النعمان يرقد الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز في الدير الشرقي، والناس تظن قبره في دمشق. هذه الملاحة الحضارية انعكست انعكاساً مذهلاً في لوحة “إدلب تاريخاً وحضارة” أحدث ما خطته فرشاة التشكيلي الإدلبي سمير حميدي.
__________________________________________
من مواد العدد العاشر من (العربي القديم) الخاص بإدلب، نيسان / أبريل 2024