الديكتاتورية بين السياسة والاقتصاد
العربي القديم – غسان المفلح
الفكر الماركسي منذ تأسيسه ينص على ان السياسة هي امتداد للاقتصاد. أو هي انعكاس فوقي كما يقال ماركسيا للبنية التحتية. بغض النظر عن مدى الدقة في هذا القول، لكن في النهاية لابد لنا من التأكيد في العصرين الحديث والمعاصر، أن السياسة هي امتداد للاقتصاد بشكل أو بآخر، وتتجلى هذه العلاقة بأشكال شتى تختلف من بلد لآخر على وجه هذا الكوكب. من هذا المنطلق يمكننا محاكاة مقالة الصحفي البارز في تاريخ سورية نجيب الريس بعنوان” هل يجمع الاقتصاد ما تمزقه السياسة؟” التي كتبها عام 1936. الذي يتحدث فيها عن تأسيس معرض دمشق الدولي لأول مرة ويعطيه مثالا على رأيه الوارد في المقال.
بداية لابد لنا من تأكيد التالي ربما كنقد للمقال نفسه. الريس يطالب “دول الامة العربية” آنذاك بالتوحد، لهذا يرى أن الاقتصاد يمكن أن يوحد السياسة. حيث يكتب” إن اضرابا واحدا في ناحية من نواحيها- يقصد البلدان العربية- يشل حركة جميع النواحي، إن سوقا تجارية- يقصد معرض دمشق الدولي ومشاركة العديد من الدول العربية فيه- تقام في دمشق تجعل هذه الامة تهرع إلى هذه السوق من أقصى الحدود ومن وراء الحواجز، تبيع وتشتري وتتبادل الربح والمنفعة”. كيف لدول منها ما هو خاضع لاستعمار مباشر ومنها ما هو خاضع لاستعمار غير مباشر أن يكون قرارها الاقتصادي مستقلا؟ مثال العراق كان تحت الاحتلال الإنكليزي وسورية تحت الاحتلال الفرنسي في ذلك الوقت، فهل من مصلحة الاحتلالين قيام سوق مشتركة بين الدولتين المحتلتين؟ من جهة أخرى لو كان الأمر كذلك لماذا قسم الفرنسيون والانكليز بلاد الشام إلى دول صغيرة فاشلة نسبيا؟ بالطبع لم يكن هنالك مصلحة لتلك الدول في قيام سوق عربية مشتركة، حتى اللحظة أيضا لا مصلحة لهذه الدول في تسليم القرار السيادي الأهم على الصعيد الاقتصادي إلى سلطات محلية، خاصة في ظل اكتشاف النفط واهميته بالنسبة للاقتصاد حتى اللحظة. من هنا يمكنا الآن الحديث عن مضمون عنوان مقالنا لهذا الملف الهام الذي عنوانه مستقى من عنوان مقالة الأستاذ الريس. الحديث عن سورية في هذا المضمار معقد وصعب وقاس في نفس الوقت. هل يمكن للاقتصاد أن يوحد سورية الممزقة؟ باعتقادي وعذرا من الأصدقاء هذا العنوان لا يصلح في كلا النطاقين سواء العربي او النطاق السوري.
أولا- معقد لأن سورية مسألة دولية منذ تأسيسها فرنسيا. كنت قد عالجت هذه القضية في مقالات عدة في بداية الثورة. السورنة syriaization أزعم من خلال هذا المفهوم يمكننا الدخول لمعالجة مسألة الملف، والتي قاربتها آنذاك انطلاقا من مفهوم البلقنة والعرقنة والافغنة واللبننة أيضا. يمكن للقارئ الكريم العودة لتلك المقالات وغيرها حول نفس القضية. كما كان البلقان فخا دوليا أدى لنشوء حربين عالميتين، أيضا سورية بتلك الأهمية بالنسبة للمؤسسين الفرنسيين والانكليز ولاحقا بالنسبة لأمريكا وإسرائيل والاتحاد السوفييتي ثم روسيا وريثته. كل هذه الدول متواجدة في سورية السياسية بشكل رئيسي دون منفعة اقتصادية واضحة أو منفعة مباشرة قائمة. أما بالنسبة لبعض الدول العربي ربما كانت معبر نقل بري إلى تركيا وأوروبا لكن النقل البري لم يعد ثمنا كبيرا لدفعه. إضافة إلى أنه جرى الحديث عن خطوط للغاز والنفط عبرها، كل هذا كان توليفة إعلامية لمد الاسدية بمانشيتات خلبيه. لكنها في العمق لا قيمة لها وغير مطروحة. نحن إذا نتحدث عن موقع جيوسياسي بالدرجة الأولى يتوسط شرق أوسط مليء بالنفط وإسرائيل وقضايا أخرى أكثر تعقيدا واقل فائدة بالمعنى الاقتصادي، كقضية الفسيفساء الشرق أوسطية في تنوعها الاثني والديني والطائفي. التي هي كانت مادة ولاتزال للعب بهذه المجتمعات. لغياب حقوق الجماعات والافراد، نتيجة دول فاشلة محكومة بديكتاتوريات سافلة محمية من الخارج.
ثانيا- صعوبة البحث في الوضعية السورية تتأتى مما سبق وذكرت أولا وثانيا نتيجة لعدم توفر المعطيات التي يحتاج إليها الباحث من جهة، ومن جهة أخرى الآن لدينا تواجد جيوش منها أكبر جيشين في العالم أمريكا وروسيا ومنها أكبر جيشين في الإقليم الإيراني والتركين إضافة إلى قواعد دول أخرى كفرنسا وبريطانيا. دون أن نتحدث عن تواجد سياسي مالي لبعض الدول الأخرى. كل هذه الدول تدخلت في الشأن السوري وستبقى تتدخل، تدخلت لهزيمة ثورة الشعب السوري، منها من دفع أموال طائلة من أجل أن يتواجد مثل إيران التي كلفها هذا التواجد أكثر من 30 مليار دولار حسب كل المصادر التي اطلعت عليها، فماذا ستجني؟ ثم الامارات العربية المتحدة وكثير من الدول الاخرى ما هو المردود الاقتصادي التي جنته أو يمكن أن تجنيه. هذه التدخلات التي يمكن اعتبار تفاصيلها كملف إكس أسود، تجعل الامر أكثر صعوبة للباحث عندما يريد الحديث عن علاقة الاقتصاد بالسياسة في سورية. هنا أيضا تكمن الصعوبة إذا اضفنا لها السلطة الفاشية الاسدية الكتيمة.
ثالثا- قساوة هذا الملف تأتي من خلال الدمار الذي احدثته الاسدية المحلية والإقليمية بزعامة إيران والاسدية الدولية بزعامة أمريكا وروسيا في سورية، حجم الخسارات البشرية، حجم المشردين واللاجئين وسكان المخيمات الذي اقتلعوا من بيوتهم وارزاقهم اعداد الضحايا والمفقودين، أعداد المعتقلين في السجون الاسدية. كل هذا يجد الباحث الانسان نفسه في أمام ملف بحثي قاسي وموجع وكارثي بالآن معا.
بالتالي عن أي اقتصاد وسياسة يمكننا الحديث في ظل هذه السورنة المخيفة التي لم يشهد بلد مثلها في العالم أبدا. كل هذه الدول المتواجدة بشكل مباشر عسكريا والدول المتواجدة بشكل غير مباشر ماليا وسياسيا، تجعل الحديث عن هذا الامر مجرد تمضية وقت عذرا من الجميع.
أخيرا لابد لنا من القول أن علاقة الاقتصاد في السياسة تختلف بين بلد يحكمه نظام ديكتاتوري بشكل عام وبين بلد يحكمه نظام ديمقراطي نسبيا أو بشكل كاملن ما بالنا عندما تكون هذه الديكتاتورية فاشية وطائفية من جهة وارتكبت من الجرائم بحق شعب تحكمه بالحديد والنار ما لم ترتكبه أي سلطة أخرى في العالم. لأن السياسة بالنسبة لأي نظام ديكتاتوري هي التي تتمحور حول مصلحة الديكتاتور وأية حسابات أخرى تأتي لاحقا. ما بالنا إذا كانت هذه الديكتاتورية وغيرها من الديكتاتوريات محكومة من قبل قوى عظمى ودول تتحكم بسوق النفط والثروات الأخرى، وتكون هذه الديكتاتوريات كحارس له نسبة من هذه الثروات. أيضتا لسورية كما قلت وضعا مختلفا لأنها لا تملك تلك الثروة النفطية الكبيرة، والاسدية تركتها خرابة اقتصادية بعد خمسة عقود من حكمها بالفساد والطائفية والنهب والقتل والتدمير، لكن كما اسلفت موقعها الجيوسياسي الفاعل هو الهم، ليس لأنها فقط في قلب الشرق الأوسط، بل لأن لها حدود مع إسرائيل أيضا وهذا عامل إضافي لتعقيد الوضعية السورية، لكنه يحتاج لوحده لبحث خاص.
الوضعيات الاقتصادية للأطراف المتواجدة في سورية وحواملها من السوريين تمنع أية افق في أن يؤثر الاقتصاد في السياسة من أجل لم شمل سورية. أعرف أن كل موضوع طرح هنا يحتاج لبحوث لكن حاولت قدر الإمكان توضيح الصورة كي أقول: عذرا إذا كنت قد أغلقت الأفق السوري. طبعا أتمنى أن أكون على خطأ.
هوامش:
السورنة syriaization على الأبواب رغم الحرية!!