الواقع المزيف لأعداد السوريين: حقائق وشهادات
نوار الماغوط – العربي القديم
في مقال سابق، استعرض صديقي محمد منصور، قضية تضخم أعداد السوريين، مشيراً إلى تصريحات مسؤولي الدول المستضيفة للاجئين السوريين. حيث أضحت الأرقام المعلنة هي نتاج مبالغة تهويلية غير معلنة، مثل المائة وخمسين ألف لاجئ التي تتحول إلى مليون ونصف مليون، وأحيانا تصل إلى خمسة ملايين على لسان رئيس دولة تعبيراً عن حالة من المبالغة المفرطة.
في هذا السياق، أود أن أضيف فصلًا ثانياً لمقال الأستاذ محمد للحديث عن دور السوريين أنفسهم في تضخيم هذه الأرقام، بالإضافة إلى تسليط الضوء على معاناتهم في الشتات، وخاصة في ألمانيا.
اقرأ أيضاً:
المقال | حين أصبح عدد السوريين فجأة 100 مليون!
تزوير الأرقام في الماضي والحاضر
في التسعينات، كانت سوريا تتصدر المشهد في مجالات مثل تربية النحل واستصلاح الأراضي الزراعية، متفوقة على دول مثل إسبانيا وهولندا. كان التعامل مع هذه الأرقام المبالغ فيها وسيلة للتحايل على البيروقراطية الحكومية. على سبيل المثال، كانت الطبقة الوسطى السورية تستخدم هذه الأرقام لتبرير ترخيص الشاحنات الزراعية واستخدامها كسيارات خاصة، عبر إضافة مقاعد خلفية وتركيب مفاصل حركية للسماح بالركوب في الخلف.
اليوم، يتكرر هذا التضخيم في أعداد اللاجئين السوريين ذوي التحصيل العلمي العالي؛ فالعديد من اللاجئين السوريين يلجؤون إلى شراء شهادات جامعية مزورة من شبكات متخصصة في بيع الشهادات المزورة في سوريا. هذه الشهادات تكون صالحة فقط خارج سوريا لأنها لا تظهر في قوائم الخريجين الرسمية للجامعات السورية. إذ يمكن لخريج ثانوية صناعية شراء شهادة بالهندسة، لكن الغالبية تختار الشهادات في العلوم الإنسانية، الحقوق، الفلسفة، وإدارة الأعمال لأنها لا تتطلب خبرة تقنية.
هذه الشهادات المزورة، التي يتم تقديمها للحكومة الألمانية للحصول على مزايا إضافية، تسببت في تشديد إجراءات معادلة الشهادات السورية في ألمانيا، مما جعل من الصعب تقريباً نعادلتها لمن تجاوز الأربعين عاماً. الناجون من هذا التشديد هم أولئك الذين وصلوا إلى ألمانيا قبل عام 2014، حيث كان يتم الاعتراف بالجامعات السورية بشكل روتيني.
معظم الشباب الذين جاؤوا إلى ألمانيا كانوا قصّراً، وهم يعانون من الهم والتعب النفسي والغربة، بالإضافة إلى التعامل البيروقراطي القاسي من قبل دوائر الدولة الألمانية. هؤلاء الشباب يرون فيهم وقوداً لتشغيل بعض المهن التي تعاني من نقص حاد، مثل رعاية كبار السن وأعمال التنظيف وقيادة الشاحنات، وهي مهن شاقة بأوقات عمل طويلة.
الفئة الأولى من الشباب ترفض العمل في هذه المهن، أما الفئة الثانية المتفوقة علمياً، فتسعى لمواصلة تعليمها. هذه الفئة تعاني أيضاً، لأنها لا تحظى بالدعم النفسي والمعنوي من الحكومة الألمانية، التي ترى أن لديها الحافز اللازم للنجاح.
القلق السوري من المجهول
من الناحية النفسية، تعود أسباب هذه المشاكل بين الشباب السوريين إلى عدة عوامل:
- الإحباط وخيبات الأمل: نتيجة التوقعات المرتفعة قبل الوصول إلى ألمانيا. قد يكون لدى الشباب تصور مغاير تمامًا للواقع، حيث يعتقدون أن الحياة في أوروبا ستكون أكثر سهولة ورفاهية، إلا أن الصدمة تكون كبيرة عند مواجهة الواقع المختلف تمامًا.
- القلق من المجهول: الخوف من التسفير أو الفشل، وعدم الاستقرار النفسي بسبب الوضع الغامض لمستقبلهم.
- صعوبات الزواج وتكوين عائلة: نتيجة للأسباب المذكورة أعلاه، بالإضافة إلى المتطلبات القانونية والمالية المعقدة التي تعرقل تكوين الأسر.
- الغربة والبعد عن الأهل: الشعور بالوحدة والحنين للوطن والأهل يزيد من الضغط النفسي.
هذه العوامل تؤدي إلى عدم الاندماج في المجتمع الألماني وسوق العمل. وتظهر النتائج غالبًا في الهروب من الواقع عبر الإدمان على مواد مثل الكحول، أو الانغماس في الألعاب الإلكترونية كالبوبجي، أو الإفراط في النوم. أما إذا كان الشاب يعمل في مهنة لا يرغب بها، مثل التنظيف، فإنه يصاب بالاحتراق النفسي.
الحياة في ألمانيا ليست كما توقعها الشباب، الذين بنوا طموحات كبيرة على رحلة اللجوء. الحكومة الألمانية لا تهتم بشكل كافٍ بالجوانب النفسية، ليس فقط بالنسبة للاجئين بل حتى بالنسبة للشباب الألماني. الدليل هو أن معظم المرشدين الألمان يعانون من الاكتئاب الحاد، ولا يعطون الجانب النفسي أهمية كافية في التعامل مع اللاجئين.
لقد حاولت التعاون مع إحدى المحطات الإعلامية لإنجاز تحقيق حول هذا الموضوع، لكن لم أجد اهتمامًا. وسائل الإعلام الألمانية تهتم فقط بقصص الاندماج السطحية، مثل فتح مطعم فلافل أو زواج سوري من ألمانية تكبره في السن.
إن الأسباب التي تعيق الشباب السوريين في ألمانيا ليست فقط البيروقراطية القاسية، بل أيضاً الإهمال النفسي وعدم توفير الدعم اللازم. وربما يكمن السبب في حكوماتنا التي صعبت ترميم ما أحدثته من خراب داخل الإنسان السوري.
الشباب السوريون في ألمانيا وربما في غيرها من بلدان اللجوء يشعرون أحياناً بأنهم مثل السجين الذي قضى عشرين عاماً في حفر نفق ليكتشف في النهاية أنه يؤدي إلى زنزانة أخرى. هذا الشعور يعكس الحالة النفسية للكثير من الشباب السوريين الذين يحلمون بحياة أفضل، لكنهم يجدون أنفسهم في مواجهة واقع مرير ومعقد.