الرأي العام

تفاصيل سورية | تجربة السجن الأسدي بوصفها حالة تناص

يكتبها: غسان المفلح  

  يَستخدم أغلب الدارسين والمنظّرين النقديين الغربيين مصطلح “التناص” في لغته الأصلية intertextualité تيمنا بجوليا كريستيفا، باعتبارها الأولى التي اقترحت هذا المصطلح في تقديمها للترجمة الفرنسية لكتاب ميخائيل باختين حول “شعرية دوستويفسكي”. وكما هو معروف فإن مصطلح التناص جاء من ترجمة جوليا كريستيفا لمصطلح “الحوارية” الذي وضعه ميخائيل باختين، ومقولة التناص كلها انطلقت من فكرة باختين عن “الحوارية” وتنظيره لها: الحوار داخل الدائرة التواصلية، والحوار بين النصوص الفلسفية والأدبية وغيرها، والحوار بين الثقافات… إلخ. وبالنسبة إلى جوليا كريستيفا فإن كل نص هو صدى لنصوص أخرى، هو مكان تتقاطع فيه النصوص، والنصية نفسها هي مجموعة من النصوص المتداخلة، حيث يحيل النص بالضرورة إلى نصوص سابقة أو معاصرة له.

نقل تجربة كل سجين، شفهية كانت أو مكتوبة، تحمل هذا النوع الخاص من التناص الخاص والمؤلم. نصوص السجن الأسدي نصوص فيها من التناص الكثير أدبا وبحثا ورأيا. التناص أنواع تتراوح بين غير المباشر في حضور نصوص الما سبق في النصوص اللاحقة، وبين السرقة الأدبية، والتناص الذي يبنى على تراكم القراءة والمعرفة والتجربة لصاحب النص. في الحقيقة حتى النصوص الدينية المقدسة فيها من التناص الكثير.

 ما جرى معي مثلا في هذا الملف… عندما بدأت الكتابة عن السجن الأسدي العام والسجان الأسدي العام، شعرت أنني قد قرأت مصطلح “السجان العام” لكن أين؟ قلبت في ذاكرتي فوجدت أن المفكر ياسين الحاج صالح بوصفه خريج السجن الأسدي أيضا قد استخدم هذا المفهوم.  لهذا أعدت صياغة ما كتبته لأحيله إلى صاحب المفهوم نفسه. مما جعلني أيضا أعيد قراءة أغلب ما كتبه ياسين عن السجان العام والسجن الأسدي الفظيع. وهذه ربما للمرة الثالثة لبعض ما كتب ياسين. كوني سجين سابق في سجون الأسد، ورغم متابعاتي لهذا الملف، وجدت أن ما كتبه ياسين يصلح لأن أن يكون مرجعا ووثيقة تاريخية بالآن معا. لهذا فعلا أنصح كل مهتم في هذا الملف أن يعود لكتابات ياسين.

هذه المقدمة في الواقع هي لتأكيد أن نصوص ما يسمى أدب السجون أو غيرها من النصوص الذي تتحدث عن هذه الكارثة الأسدية، نجد فيها من التناص الكثير. لهذا عندما أكتب في هذا الملف لا تغيب عن بالي هذه المقدمة التي حاولت تلخيصها في هذه الزاوية، كي لا نظلم نصا سبقنا أو تجربة. بتقديري أيضا أن لكل معتقل سياسي في سورية مهما كان انتماؤه، تجربة مؤلمة بحد ذاتها مهما تقاطعت مع تجارب المعتقلين الآخرين. مثال من تجربتنا عندما يتحدث معتقلا من آل البني أكرم البني أو سحر البني أو يوسف البني عن تجربة السجن نجد أن كل منهم له تجربته الفردية. آل البني دفعوا نتيجة الانتماء لحزب العمل الشيوعي عشرات السنين من أعمارهم في سجون الأسد. حتى الصديق مصطفى خليفة صاحب رواية (القوقعة) الشهيرة، وزوج الصديقة سحر البني كان له هموما أخرى في روايته هذه. هموم هو يراها تحتل الألوية بالنسبة له. أيضا تجربة آل سفر كذلك علي سفر وبسام سفر يتحدثان بطريقة مختلفة عن تجربة السجن. أيضا المتابع للأصدقاء الذين كتبوا عن سجن تدمر الاسدي، وهم كثر مع ذلك نجد هنالك ما يجمعهم وهنالك ما له خصوصية لكل كتابة عن السجن. لهذا حتى الكتابة عن السجن ليست خالية من دوافع أيديولوجية وسياسية وثقافية. ملف الاعتقال في عهد الاسدية يحتاج لورشات عمل مؤسسية وليس فقط لمحاولات فردية رغم كثرتها لكنها تضيع في زحام الفردي. عندما استمع مثلا لمقابلات الرفاق والأصدقاء في بودكاست قصة سجين الذي يديره بجهد واضح الرفيق مروان محمد أرى كل واحد منهم لديه هموم سجنية مختلفة. أتذكر مثلا الصديق راشد صطوف في لقائه وحديثه الكومو- تراجيدي عن” شاروخه الديري” يمكن للقارئ الكريم أن يعود لمشاهدة هذه السلسلة التوثيقية.

منهم من يهتم بتفاصيل السجن اليومية ومنهم من يهتم بتعب أهله في زياراتهم له. وأيضا نلاحظ عند بعضهم موقع الام والأب أيضا عند الحديث عن هذه التجربة. أيضا مثال آخر عن الصديق بسام جوهر عندما تحدث عما كان يحدث في السجن، عن شبه اضطهاد بعض رفاقنا لبعض من انهاروا تحت التعذيب. كان بسام متفردا في طرح هذه القضية حتى تاريخ تصويره لحلقته مثلا.

في النهاية نريد العودة من كل هذه الزوايا التي كتبتها في ملف الاعتقال الأسدي الرهيب. إلى سؤال: ماذا كان يعني هذا السجن السياسي المديد بالنسبة للأسد الاب؟

  
يتبع…

زر الذهاب إلى الأعلى