فنون وآداب

من روايات الصوفيين إلى دراما التلفزيون: قصة الخواجة عبد القادر بين الخيال والحقيقة

عادل العوفي – العربي القديم

رغم مرور أكثر من اثنتي عشر سنة على إنتاج المسلسل المصري (الخواجة عبد القادر) للكاتب عبد الرحيم كمال والمخرج شادي الفخراني وجسد الشخصية الفنان القدير يحيى الفخراني، مازالت العديد من المنابر وحتى الباحثين سواء في السودان ومصر متشبثين بالنبش في سيرة الرجل الذي منذ وطأت قدماه الأرض العربية  انقلبت حياته رأسا على عقب ليتحول من إنسان مستسلم يتوق لمعانقة الموت، لشخص آخر محب للحياة ومتمسك بها لا بل لصاحب “كرامات” يقضي حاجات الناس وينقذهم من الأهوال والمصائب.

العديد من اللغط رافق عرض المسلسل وأجج نيران الأسئلة حول ما هو حقيقي، وما صاغه خيال عبد الرحيم كمال للتشويق والإثارة؛ وفي هذه الأسطر حاولنا الفرز والبحث عن القصة الحقيقية للخواجة عبد القادر الأصلي كما تداولها المقربون منه سواء في السودان أو مصر، ومن رافقوه في بعض المحطات المفصلية في حياته.

أصل الحكاية من النمسا

في سنة 1907 ولد “جوليوس فاجو” وهو الاسم الحقيقي للخواجة عبد القادر وليس “هربرت دوبرفيلد” كما طرح المسلسل؛ من أم ألمانية وأب نمساوي في قرية صغيرة ضواحي فيينا لعائلة ميسورة الحال  من ملاك الأراضي ذات شهرة واسعة، ويحمل أفرادها المؤهلات العلمية ويتوارث رجالها العمل ضباطا في الجيش الألماني لخدمة وحماية أملاكهم؛ عكس وصف العمل التلفزيوني له بكونه انجليزي مولود في العاصمة لندن.

في طفولته كان مختلفا عن باقي أقرانه حيث لا يرقص رغم حبه للموسيقى ولا يحب شرب الخمر. درس “جوليوس”  الطب لمدة عام ثم قرر عدم الاستمرار فيه وفضل التوجه للهندسة  المعمارية متخصصا في الجسور وبناء السدود في جامعة فيينا ثم واصل دراسته في ميونيخ الالمانية ليحصل على دبلوم طبقات الأرض؛ ليتم توظيفه في شركة “جيبسون وشركاه” الانجليزية  للإنشاءات.

كان “جوليوس” مثقفا رفيعا وقارئا نهما؛ لكن نقطة التحول الرئيسية في حياته تكمن مع بداية الحرب العالمية ويقال أنه فقد شقيقه فيها ليبدأ رحلة البحث عن الاسئلة الوجودية متجها نحو الالحاد وبسبب الاكتئاب الذي تمكن منه بعد فظاعات الحرب أضحى مدمنا على شرب الكحول متمنيا الموت كي يرتاح، وهي الصورة التي حرص المسلسل على توظيفها بشكل كبير في أولى الحلقات حيث لا تفارق الخمور يده، ويحاول إلقاء نفسه وسط أتون الحرب كي يقتل.

رحلة السودان من الحلم إلى الحقيقة

في ذروة يأس “جوليوس” كان دائما يرى في منامه شيخا سودانيا بلباس أبيض، يناديه دون ان يعي أو يفهم تفسير تلك الرؤية التي تطارده؛ حتى جاءت اللحظة الأكثر دراماتيكية في حياته حين قررت شركة “جيبسون وشركاه” الانجليزية ارساله الى السودان سنة 1933 لبناء خزان “جبل أولياء” وهو المحجر الذي اطل فيه بمشاهد المسلسل والذي جاء ليتكامل مع تعلية خزان اسوان التي تمت قبل ذلك بعام.

اعتبرها “جوليوس” فرصة ذهبية كي يركز كليا على العمل ويتناسى تلك الافكار السوداء التي تخيم على مخيلته ؛ واثناء انغماسه في وظيفته كانت أذنه تلتقط موسيقى الموشحات الدينية وحلقات الذكر الخاصة بالطريقة المكاشفية القادرية  ونوبتهم والتي كانت تقام مرتين في الاسبوع وبدأ ينجذب نحوها تدريجيا ثم صار يسأل عنهم ويريد تفسيرات أكبر عنهم.

وانتظم في حضور حلقات الذكر وازدادت اسئلته بحثا عن الحقيقة والخلاص الذي سيريح عقله المتأرجح، حتى دقت اللحظة الفارقة حين التقى بالشيخ عبدالباقي المكاشفي مؤسس الطريقة القادرية المكاشفية  الذي ناداه منذ اللحظة الأولى بـ”عبد القادر”.

للإنصاف برع الكاتب عبد الرحيم كمال في وصف الشخصية وهذا متوقع بحكم خلفيته الصوفية الطاغية على اغلب اعماله حيث ينطبق كلام المقربين منه على الشخصية التي جسدها الفنان باقتدار”إبراهيم فرح” من حيث التفاصيل الدقيقة سواء في نوعية ملابسه التي يرفض ان تكون فيها جيوب ويغضب حينما يُعطَى مالاً إذ يقذفه خلفه لجيرانه الذين يجمعونه من أجل مصاريف المسجد.

“الشكنبية” وميلاد “الخواجة عبد القادر”

قادت الخطوات “جوليوس” نحو منطقة “الشكينيبة” ليصعق حين رأى الشيخ ذاته التي يطارده في الحلم ويصر أهل السودان أن من “كرامات” الشيخ عبد الباقي مخاطبة زواره الأجانب بلغتهم، وأهل السودان بلهجاتهم المحلية مثل الدينكا والنوبة وغيرهما؛ وذلك ما حدث مع الخواجة الذي تحدث معه بلغته النمساوية وأطلق عليه اسم “عبد القادر” منذ الوهلة الأولى.

ومن أكثر المصادر موضوعية في سيرة “الخواجة عبد القادر” نجد حواره اليتيم مع الصحفي السوداني محجوب كرار والذي نشره في صحيفة (الأضواء)  في 11 ماي سنة 1969 لصاحبها الراحل محمد الحسن أحمد، حيث نقلت شخصيات عديدة منها الصحفي السوداني صلاح عمر الشيخ الذي كشف أن عمه “أحمد الشيخ” كان صديقا شخصيا للخواجة وهو من كان ينقل تفاصيل الحوار بينه وبين كرار لأن الخواجة حينها كان في خلوة للعبادة، وهي حسب المتصوفة من أصعب وسائل العبادة حيث ينقطع المتعبد لأربعين يوما داخل غرفة مقفلة لا يقابل أحدا، إلا شخصاً يحضر له الطعام والشراب؛ لذلك ظل عمه مكلفا بنقل الأسئلة ورد الأجوبة حتى جمعها الصحفي السوداني في حوار كامل منشور بالتاريخ السالف الذكر.

تغيرت حياة “عبد القادر” الذي وضع حدا مع اسم “جوليوس” وأعلن إسلامه في صلاة عصر اليوم نفسه الذي التقى فيه الشيخ عبدالباقي وخصص له الأخير خلوة خاصة ولازمه لمدة 14 شهرا بعد أن استقال من منصبه وتفرغ للعبادة.

وبعد ذلك أرسله الشيخ المكاشفي للحج ثم للدراسة في الأزهر الشريف بمصر وزوده بالمال وكل ما يلزمه. ويذكر أحد أحفاد الشيخ أن الخواجة تم حجزه في جدة السعودية مع بعض الأجانب المسلمين قبل أن يسمح له الملك عبدالعزيز بعد برقية عاجلة من المكاشفي.

تعلق عبد القادر بالشيخ عبدالباقي امتد حتى ليشمل أوراقه الثبوتية الجديدة، حيث أطلق على نفسه “عبدالقادر عبدالباقي عمر المكاشفي” ويصفه بوالده وظل مواظبا على زيارة “الشكينيبة” حتى بعد وفاة معلمه وظل بمصر 25 سنة ومنح جنسيتها تقديرا لخدماته في الهندسة واشرافه على العديد من المشاريع الهامة للبلد.

وعن ذلك قال في الحوار السالف الذكر: “أحببت مصر، وقد عملت بها خمسًا وعشرين عاماً، ومُنحت الجنسية المصرية الفخرية تقديرًا لخدماتي، وإن كنت لا أزال احتفظ بجنسيتي الأصلية إلا أنني لن أفكر في ترك القاهرة، لأن بها ضريحَي الحسين وسيدتنا زينب سبطي النبي عليه أفضل الصلاة والسلام، ولو جاءت بك الظروف هناك فستجدني بأي “صلاة صبح” بجامع الحسين، وكما أحببت مصر احتلت الشكينيبة المكان الثاني بعد مسقط رأسي، وقد أحببت كل ناسها الذين استطاعوا رغم بساطتهم أن يغيروا بسلوكهم ومعاملاتهم مفاهيمي السابقة عن النبل والشجاعة وحلاوة الإخاء”.

كرامات الخواجة عبد القادر:

رسم المسلسل صورة مبالغا فيها حملت الشخصية صفات غير طبيعية فهو ينقذ الناس في اخر لحظة ويعلم ما سيحدث وتفاصيل أخرى خارقة ما جعل صورة “الخواجة عبد القادر” يكتنفها الغموض ويتملك الفضول الناس حولها لمعرفة حقيقته؛ وفي منطقة “دارو” قرية بمبان المصرية  مثلا التي استقر بها لأنها شبيهة بمدن السودان وقراها حيث بنى خلوة على شاطئ النيل ليتعبد فيها ونظرا لهيئته الجميلة ومظهره المترف ظن اهالي المنطقة ان له كرامات في جلب المال والحصول على كنوز الفراعنة رغم أنه في الأصل لم يكن يخرج من خلوته التي يرابط فيها للعبادة فاعتبروه رجلا صالحا وليا سخرت له كنوز الدنيا.

وبالمناسبة مازالت هذه الخلوة موجودة ليومنا هذا رغم أنها آيلة للسقوط، وهناك تضارب كبير في ما يخص المقام الذي ركز المسلسل عليه أحداثه؛ لأن الخواجة دفن في قرية “ود أبو آمنة” في السودان، وهي بلد الشيخ عبدالباقي الأصلي بالقرب من “الشيكنيبة”.

قصة عبد القادر وزينب:

لفتت قصة الحب بين الخواجة وزينب التي جسدت دورها الفنانة السورية سلافة معمار الأنظار، وكانت حافلة بالمشاهد المميزة، لكن البعض تساءل إذا ما كانت حقيقية بالفعل؟ وأغلب المصادر ظلت متناقضة في هذا الصدد حيث إن هناك من أكد زواج عبد القادر من سيدة  أجنبية في الخرطوم بحري ورزق منها بفتاة، ثم انفصل عنها وحفيده حاليا موجود في السودان، ويعمل في إحدى أكبر الشركات السودانية، وقد زار قبر جده وتحصل على بعض مقتنياته أيضاً.

فيما رجحت أخرى أنه تزوج من سيدة مصرية رغم المعارضة الشديدة من اهلها واهل المنطقة وهو الرأي الذي اعتمد صناع المسلسل على ما يبدو.

وفاة الخواجة عبد القادر:

من العادات اليومية للخواجة انه يظل طوال الليل يتعبد ويقرأ القران بعربيته المكسرة. وفي إحدى زياراته للسودان كان يشعر بأنها ستكون المرة الأخيرة حيث أسرَّ لمرافقيه أن يُدفن في “ود أبو آمنة” المكان نفسه الذي اشهر فيه إسلامه، حيث ذكر أحد المقربين منه انه دخل الخلوة التي أسلم فيها وأقفل على نفسه وحين فتح الباب صباحا وجد عبد القادر ميتا وبجانبه قبره مفتوحا وجاهزا.

غادر الخواجة عبد القادر وظلت الأسئلة تطارده وتلاحقه، ونسجت حوله الروايات والقصص؛ لكنه خلف سيرة مثيرة للانتباه من قرية في ضواحي فيينا تاركا الجاه والأملاك نحو المجهول بالسودان ومصر لكنه عثر على الأجوبة التي ظلت تؤرق باله وشعر بالراحة التي ظل ينشدها حتى وسط أهله.

اتهامات بمحاباة التيار الإسلامي

حين عرض المسلسل سنة 2012 اتهم صناعه بالمحاباة للتيار الإسلامي، لاسيما أن المحروسة حينها انعتقت من حكم مبارك وحاشيته وكانت الآمال الكبيرة بعد ثورة 25 يناير؛ لكن الملفت في المسألة اليوم أن كاتب العمل نفسه تلقى في الآونة الأخيرة دعما لا محدودا من لدن الرئيس المصري الحالي الذي خاطبه خصيصا  في مداخلة تلفزيونية بالقول “جهز اللي انت عايزه وأنا معاك، قضايانا كتير” لترى مسلسلات من قبيل “القاهرة كابول” و”جزيرة غمام” و”الحشاشين” النور، بدعم مطلق من السيسي حامل لواء “تجديد الخطاب الديني”؛ فأي مفارقة هذه؟!

 المصادر:

_ حوار الصحفي السوداني محجوب كرار مع الخواجة عبد القادر نشر يوم 11 ماي سنة 1969 في صحيفة (الأضواء).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى