مقامات أمريكية | لماذا فقدنا حس الفكاهة؟
الفكاهة نوع خاص من الذكاء الاجتماعي نحتاجه جميعاً في هذا الوقت العصيب الذي تمر به سوريا.

د. حسام عتال – العربي القديم
عندما فتحْتُ ملف السيرة الذاتية للطبيب المتخرج حديثاً، والذي يرغب في الالتحاق ببرنامج الإقامة بجامعتنا في شيكاغو، قرأتُ في قسم تعريف الشخصية” “أملك حساً فكاهياً جيداً I have a good sense of humor.”.
كنت وقتها رئيس المقيمين للتدريب في المشفى، وسألت نفسي: “يا عيني، ما كان ناقصا إلا كراكوز وعِواظ بغرفة المقيمين؟” لكن بعد انضمام هذا الطبيب للفريق، غيّر هذا الطبيب المقيم جوّ الغرفة من صمت وجدية وانشغال دائم، إلى غرفة بضجيج محبب ممزوج بالمزح اللطيف والمقاطع الترفيهية. هذا التغيير لم يُنْقص من فعّالية الأطباء أو من إنتاجهم العملي؛ بل ساهم في زيادتها.
الفكاهة ليست أمراً عارضاً مؤقتاً، إنها شعور يمس كل جانب من جوانب حياتنا، كما قال مارك توين: “الفكاهة شيء عظيم، هي التي تريحنا في النهاية. في اللحظة التي تظهر فيها الفكاهة، تتلاشى كل قسوتنا وتذمراتنا واستيائنا، وتحل محلها روح مشرقة”.
بعد خمس وثلاثين سنة، وفي دمشق، ركبت تكسي من شارع بغداد، وتجاذبت أطراف الحديث مع سائقه أبو عمران. كان السائق يضحك على السائقين المتوترين حوله، يتدافعون ويطلقون أبواقهم وجوههم مكفهرة يلوحون بأيديهم، يقول لهم: “لك دير بالك ما ينزل لك شي فتاق، لك أتفضل روح، روح، شكلك مستعجل”. عندما عرفت أنه من داريا سألته إن كان لديه الوقت لزيارة المكان. “والله من وقت ما طلعت ع السيارة قلت لحالي هادا شكله مجنون، لك شو آخذك لهنيك، لك ما بقي حجر على حجر.” قال لي ونحن نتفق على الأجرة، ثم أخذني في جولة لمدة خمسة ساعات في داريا، ومخيمات فلسطين واليرموك، ومناطق القدم، والحجر. كان محقاً في وصفه فالفرقة الرابعة لم تبقِ حجراً على حجر في معظم المكان، لم تكن هناك سوى أبنية قليلة قائمة، وتلك كانت معطوبة بشدة مليئة بثقوب الرصاص والقنابل كأنها إسفنجة، الأبنية كانت قد “ضمّنت” لمستثمري الأنقاض الذين، بعد تعفيش البيوت من ممتلكاتها، لم يتركوا فيها بلاطة أو قطعة سيراميك أو سلك نحاسي أو قضيب حديدي. لكن خلال كل هذا الدمار ظل أبو عمران يلقي النكات ويمزح معي، ومع نفسه، ومع القلة من الناس الذين كانوا يمرون بالمكان، يحاولون التعرف ضمن الأنقاض على بيوتهم القديمة، أو مدارسهم، أو أماكن لعبهم. وعندما كنت اسألهم بعض الأسئلة للتعرف على أحوالهم وسبب عودتهم، كان أبو عمران، بعد عودتنا السيارة، يتمسخر عليّ مقلداً صوت الصحفيّ المخضرم: “وهكذا أخبرنا المواطن ‘فلان’ بلهجته التي تبدو فلسطينية، أنه قد عاد إلى بيته المهدم جزئياً، وأنه يحمل غالون الماء للشرب لمسافة كيلومتر كل يوم، ودفع ثمانية عشرة ألفاً من الليرات السورية ثمناً له.”
وصلنا إلى بيت أبي عمران، والذي كان في بناء مدمر جزئياً له مدخل طويل جانبي ملئ بالحجارة وقطع الزجاج. داخل البيت، صمت أبو عمران لبرهة وصفن مُطيلاً النظر إلى غرفة نوم أطفاله، ثم بسرعة عاد الحبور إلى وجهه وبدأ يشرح لي عنه، كيف اشتراه، واختار رخام مطبخه، وخشب رفوفه، وأبوابه وخزنه، وكأنه يتكلم عن شيء لا علاقة له به. عن الفجوات الكبيرة في الحيطان قال إنها خُرقت لسرعة حركة المقاتلين في البيت وسهولة انتقالهم من غرفة لأخرى، أو بيت لبيت مجاور. ثم قفز عبر الفجوات ممثلاً عميلة الهروب، وتعثر بسبب بقايا الركام والزجاج على الأرض، نفض يديه وضحك ثم قال: “المقاتلون كانوا أقل وزناً مني، وأخف حركة.”
ودّعت أبا عمران وبقيت أفكر: كشخص واجه واقع الحرب يوميًا وخسر كل ما يملكه، كيف استطاع التماسك، وألا يفقد عقله، كيف تمكن من الاحتفاظ ببعض الفكاهة في خلفية ما حدث من وقائع فظيعة، كيف وجد مُسَكِنّاً لألمه ومصابه، كيف فرض التفاؤل على موقف من أغرب المواقف وأكثرها مأساوية، فيما الكثير من الناس حوله يسيرون وهم يتحدثون إلى أنفسهم، يصرخون على كل شيء وأي شيء يقابلونه، وقد فقدوا رشدهم وملكاتهم؟
إنه تأثير حس الفكاهة الذي يقوم على نظرية التنافر، فهو ينشأ عندما تمزج فكرتين متناقضتين ومختلفتين: الظلم والإحسان، العذاب والراحة، الخراب والتعمير، والموت والحياة وهو يتعارض مع المنطق لأنه نتيجة انقلاب غير متوقع في وجهة النظر التقليدية، يرينا العالم بطريقة مغايرة. عندما تركت أبا عمران، شعرت بغصة في الحلق وضيق في الصدر، وأردت البكاء. لكني تأملت في الدرس الذي أعطانيه عن مناعة العقل العجيبة، وعن طرائق مقاربة الحياة وسبل التعامل مع أقسى لحظاتها، وعن وسائل ترشيح عواطفها كي نعطي للأمور السلبية مغزى آخر. وعن محاولة النظر إلى الجانب المضحك في الحياة… المحاولة التي لن تضر، فأسوأ السيناريوهات هو أننا سنضحك قليلًا.
الفكاهة لغة نوع خاص من الذكاء الاجتماعي يتقنه أناس مثل أبو معروف، ونحتاجه جميعاً في هذا الوقت العصيب الذي تمر به سوريا. إنها التسليم بأن التخلي عن الصرامة والحدّة لا يعني النقص في الجدّة والعزم، إنها هي نفسها الإدراك السليم common sense لكنه مُقدّم بطريقة مبتكرة. وليم جيمس لخّص هذه الفكرة جيداً عندما قال: “الإدراك السليم وحس الفكاهة هما نفس الشيء، لكنهما يتحركان بسرعتين مختلفتين. حس الفكاهة هو مجرد الإدراك السليم، وهو يرقص”.