أرشيف المجلة الشهرية

رياض الترك وحزب الشعب والأسدية

بقلم: غسان المفلح
منذ سنوات طويلة، ورياض الترك يتعرض لهجوم، وانتقاد ومحاولة محو الرجل من تاريخ سورية. بدأ هذا الهجوم العلني على رياض الترك، منذ رسالة خالد بكداش الشهيرة في 3 أبريل 1972 يصف فيها معارضيه، بـأنهم “الكتلة التحريفية الانتهازية المغامرة التي يقودها رياض الترك”*. هذا أول هجوم علني على رياض الترك، من قبل الحركة الشيوعية واليسارية عموماً في سورية.
بداية طرحت على الصديق والقيادي في حزب الشعب الديمقراطي الأستاذ جورج صبرا سؤالين:
الأول: لماذا الهجوم على رياض الترك، من قبل العلمانيين واليساريين؟ وإلى أي حد تفسر دوافع هذا الهجوم برأيك، ومن موقعك الحزبي، أو الشخصي كما تحب؟

كان جوابه الأول:
منهم البكداشيون، والشيوعيون التقليديون الذين خرّب عليهم مناخ الطمأنينة، والولاء ونظام الطاعة، وتقديس” الرفاق الكبار “، في وقت كان الانتفاع من السوفييت، عبر البعثات على قدم وساق. والطريق الذي شقه بالاستقلالية والتمرد على نظام الطاعة كان صعباً ومتعباً، خاصة وأن نهج الترك كان مغامراً ومتعباً، وفيه من التجريبية الشيء الكثير. وقد تجرأ الرجل على هدم الكنسية السياسية، وأيديولوجيتها وسياساتها الدولية، وخاصة مع النظام السوري، فتجرّأ على إدانة الاحتلال السوفييتي لأفغانستان، والاحتلال الفيتنامي لكمبوديا، وكان مازال يعمل تحت اسم الشيوعية.

الجواب الثاني:
كان من شباب حزب العمل من زمن حركة العمل الشيوعي، وأنت أدرى مني بهذا الأمر. كانت الثقة بين الطرفين معدومة؛ نتيجة الأستذة للماركسيين الشباب الجدد، والاتهامات والشكوك المتبادلة، والتي كان فيها من التراشق والتسرع أكثر من التدقيق والجدية. القضية التي جمعت القسمين بمعارضة رياض الترك، والتهجم عليه وعلى خطه، كانت في اعتماده السياسة كحصيلة لميزان القوى، قبل الشعارات والنظريات. فلا تحقيق للأهداف، دون مراكمة فعل وطني لتجميع المتضررين من نهج النظام وأساليبه، وبالتالي بناء قوة فعل شعبية تعمل على تحقيق المطلوب، ودور النخب يتحدد نجاحه بتحقيق قوة الفعل؛ لذلك كان همه جمع القوى المتوفرة بوجه التسلط، والاستبداد والقهر والاستغلال. أعطي مثالاً: شعار رابطة العمل الشيوعي في السبعينات: (دحر الديكتاتورية)، في وقت كان فيه نظام الأسد يجمع تأييد الشرق والغرب، والدول العربية، ويستند إلى قوة حقيقية بالداخل، فمن سيدحر الديكتاتورية، وبمن؟ شارك بإنجاز التجمع الوطني الديمقراطي ١٩٧٩، وفي إعلان دمشق ٢٠٠٥ الذي شهد انفتاحه على الإخوان المسلمين، وقبولهم بتحالف وطني، ثم في تأسيس المجلس الوطني السوري ٢٠١١، في إطار الثورة، دون أن يكون في حسابه بالمشاركة القسمان اللذان ناصباه العداء. رياض الترك لم يبقَ نهجه شخصياً، بل صار نهجاً لحزب سياسي، وامتد لفضاءات سياسية قومية ويسارية أخرى.

في الحقيقة حاولت طرح السؤالين على أحد الرفاق القياديين من تجربة حزب العمل الشيوعي، لكني وجدت الكثير من المواد التي كتبها أصدقاء، وخصوم سياسيون أيضاً من هذه التجربة عن تجربة رياض الترك. وفي الحقيقة أيضاً وجدت ما يجمع كل هذه المواد في نقدها لرياض الترك أمران:
الأول: إن رياض الترك كان طائفياً.

الثاني: رياض الترك كان حليفاً للإسلاميين من جهة، ودعا إلى تدخل خارجي؛ للمساعدة في إسقاط الأسدية. هنالك قطاع ثالث في الحقيقة محدود التأثير، وشكّل حالات انشقاق عن حزب الشعب، تحت عنوان عريض: إن رياض الترك كان ديكتاتوراً، ومنهم ما أسموا أنفسهم “الهيئة القيادية المؤقتة – حزب الشعب الديمقراطي”.
إذاً هذه الانتقادات المركزية التي وجهت للترك، من قبل بعض العلمانيين واليساريين: طائفياً ديكتاتوراً في حزبه، وحليفاً للإسلام السياسي، والإخوان المسلمين، سواء في انتفاضة حماة نهاية سبعينيات، وبداية ثمانينيات القرن الماضي، ثم تشكيل المجلس الوطني السوري، بعد الثورة السورية آذار 2011.
اللافت للنظر في الحقيقة وجدت أن الرفاق في حزب الشعب، قلما دافعوا عن رياض الترك، أو على الأقل وفق معرفتي المتواضعة؛ لهذا في الحقيقة فاجأني الصديق جورج صبرا، عندما أجاب عن أسئلتي مشكوراً.
الملاحظة الثانية أنني لم أعثر على وثيقة لحزب الشعب ينتقد فيها نفسه، كما لم أعثر على وثيقة لحزب العمل ينتقد فيها نفسه.
بما يخص تحالف حزب الشعب، أو المكتب السياسي سابقاً مع الإخوان، والذي بدأت نواته في موقف الحزب في ثمانينيات القرن الماضي.
مفاد الموقفين يمكن تكثيفه بالتالي:
حزب الشعب: نضع البارودة على كتف الإخوان، ونطلق على الأسدية.
حزب العمل: نضع البارودة على كتف النظام، ونطلق على الإخوان وحلفائهم، وجاءت تسمية الحزب تحت عنوان “الحلف الرجعي الأسود”.
إذاً حزب العمل الشيوعي، والمكتب السياسي حزب الشعب حالياً، منذ نهاية السبعينيات، وهم على طرفي نقيض، وكان بلحظة يمكن أن يطلقوا النار على بعضهم كتيارات يسارية.
في العمق، ربما نجد أن الإشكالية الطائفية هي مقدمة ضمنية لموقف الفصيلين من ذاك الصراع، ومن الصراع في سورية عموماً. لم أجد مبررات أخرى مقنعة لهذا التفارق الحربي!
كل قيادات اليسار السوري، إلا من رحم ربي، كانت ديكتاتورية. فرادة حزب العمل في أنه اشتق طريقاً، رفض وجود زعيم للحزب، وكانت خطوة جيدة، لكنها لم تخلص الحزب من ديكتاتورية المكتب السياسي الذي يقود الحزب!
إسقاط الأسدية لا يمكن أن تتم، دون تحالف شعبي وسياسي واسع، لهذا كان حزب الشعب أقرب لهذا الفهم، وهذا كان فهم رياض الترك، الذي تحدث عنه الصديق جورج أعلاه. وكما ذكرت في مادة سابقة على هذا الموقع، أنني أعتبر هذه النقطة من أهم اجتهادات رياض الترك، وحزب الشعب، بغض النظر عن المآل؛ لأن المآل في الحقيقة كان بيد، ونتيجة لمواقف دول كبرى، وعلى رأسها أمريكا، لكن هذا لا يجعل موقف رياض الترك، وحزب الشعب خاطئاً.

أيضاً سلوك جماعة الإخوان المسلمين السيئ، منذ انطلاق الثورة، والذي كان من الممكن مواجهته، من داخل هذه التحالفات، لا يجعل من هذا الموقف الأساسي خاطئاً. عدم المعالجة هذه في الحقيقة واجهته في بداية تشكيل المجلس الوطني، وعلى صفحته الداخلية. كانت أغلبية الأعضاء والمساهمين يعتقدون بأن سقوط الأسد وشيك، كنت أرد عليهم: لا يوجد قرار أمريكي إسرائيلي بإسقاط الأسد، مهما كلّف الشعب السوري من ثمن، ولا يمكن إسقاط الأسد بالتظاهرات السلمية. لهذا بقيت طيلة فترة المجلس معارضاً لكل ما قام به من خطوات، بدءاً من تشكيل حكومة مؤقتة، وانتهاء بالانضمام للائتلاف، مروراً بالانغماس بالملف الإغاثي، إغاثي لمؤسسة سياسية مؤقتة غايتها إسقاط الأسد!
لهذا أجد أن الهجوم على ابن العم هو هجوم ظالم، ويحمل في طياته، نقطتين: الأولى أنه هجوم له أس طائفي غالباً.

الثاني: معرفة هذه الأطراف أن الأسدية لن تسقط، إلا بتحالف شعبي كالذي سعى إليه رياض الترك، وحزب الشعب. وهؤلاء تعاملوا في نقدهم هذا على مبدأ المثل الشعبي: “صحيح لا تقسم، ومقسوم لا تأكل، وكلْ حتى تشبع”.
الأس الطائفي لا ينبع من أن كلا الطرفين طائفيان، بل ينبع من عجز الطرفين، (بغض النظر عن هذه) عن تقديم فهم يساري لهذه الإشكالية، التي بناها وأسسها النظام الأسدي القاتل في مسيرتهما النضالية، ولم يعيراها أهمية معرفية وأيديولوجية ونضالية تذكر، بغض النظر عن أنه يمكن أن يوجد أفراد طائفيون هنا وهناك.
حزب العمل الشيوعي في أدبياته التأسيسية، والأولى قال: إنه نظام ديكتاتوري، ذو سمات طائفية، أي منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي، وحتى اللحظات لم يطرأ أي تعديل على هذه السمات. وحزب الشعب أيضاً لم أقرأ له موقفاً نظرياً، حول هذه المسألة في سورية. بقي موقفه ضبابياً في الواقع، رغم أنه في الممارسة كان يرى النظام طائفياً.
لابد لي من تسجيل ملاحظة سريعة تتعلق بحالة الإعلام، لدى الأصدقاء في حزب الشعب بصراحة هي حالة مزرية، بمعنى أن هذه التجربة المستمرة حتى اللحظة، بحاجة لجهاز إعلامي يشرح، ويدافع عن الحزب وأطروحاته، وعن مؤسسيه، وعلى رأسهم ابن العم. أعيد وأقول وفقاً لمتابعتي الشخصية يأتي تقييمي:
يستحق رياض الترك كمناضل وطني عنيد، أن تتابع تجربته، عبر حزب الشعب، وإنتاج يسار ديمقراطي حقيقي. رياض الترك كان نموذجاً نضالياً يحتذى. هذا لا يعني أن الذي يُحتذى لا يرتكب الأخطاء السياسية والأيديولوجية، بل لأنه كذلك يخطئ أحياناً.
____________________

* بعد هذه الرسالة اتضح أن الحزب الشيوعي السوري صار حزبين، وأصدر رياض الترك رسالة له مضادة في 27 سبتمبر 197، تخلى إثرها عدد من حلفائه الهامين عنه، وهم: دانيال نعمة، وزهير عبد الصمد، وإبراهيم بكري الذين أعلنوا عودتهم للجناح البكداشي. وهكذا عقد جناح رياض الترك “المؤتمر الرابع” في ديسمبر 1973 كحزب مستقل، وانشقاق مكتمل عن حزب بكداش الأم، وأصبح اسمه الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي، وتعريفه بالمكتب السياسي يحيل إلى أن قادته كانوا غالبية المكتب السياسي لحزب بكداش الذي تحول لاحقاً إلى حزب الشعب الديمقراطي في المؤتمر السادس لحزب المكتب السياسي في نيسان / أبريل 2005.

________________________

 من مقالات العدد التاسع من مجلة (العربي القديم) الصادر عن شهر آذار/ مارس 2024

زر الذهاب إلى الأعلى