شهادة من ذاكرة فضولية: أصداء مجزرة حماة في ذاكرة الريف الحموي
العربي القديم – فاديا دندش
كان الشتاء فصل الرّاحة من أعمال الزراعة، تمرّ لياليه رتيبةً، لا يخترق هدوءها إلّا صوت المزراب المتدفق في البرميل، ونباح كلبنا، عندما يشبك مع أبو الحصين أو الذئاب التي كانت تقترب مجموعة منها من حظيرة الأغنام، فتدور بينها وبين الكلب والأغنام معركة صوتية ينهيها صوت طلقة من بارودة أبي يطلقها في الهواء، فتنصرف، ويعود المنزل لصمته الحاني.
يقع بيتنا الريفيّ البسيط في بستان جدي بعيدًا عن القرية، تحيط به البساتين على امتداد البصر، لكنها خاوية فلا أحد يترك القرية ويسكن في البساتين إلا من لا يملك بيتا فيها مثلنا. في ذلك البيت، ما إن يحلّ الظّلام حتى نتكوّر جميعنا حول المدفئة، تحت ضوء المصباح الزيتيّ الخافت، وقد ينام أغلبنا بعد العشاء..
ننام… كيف ننام هذه اللّيالي وأصوات الانفجارات تخلع القلوب!
كنت في السادسة، فتاةً فضوليةً ثرثارة، لا تقنع بالإجابات المبطّنة، بل أطلب إجابات واضحة ومقنعة؛ كي أصدقها، فالكبار يكذبون علينا لأنهم يظنون أننا لا نفهم.
“لا تقلقوا أنا أفهم، أنا كبيرة فقط اشرحوا لي” كنت أردد بإلحاح.
كيف سيشرح الأهل لطفلة أن جيش بلدها هو من يقصف المدينة؟!
كيف سيشرحون لها أنّ تلك المدينة المليئة بالبنايات العالية والشوارع النظيفة والمطاعم الشهية، تدمّر على رؤوس ساكنيها، كيف سيصرح لها أبوها أن رئيسهم وجّه قواته لتسحق المدينة التي طالما حلمت بزيارتها، وربما تسكنها يومًا إذا اجتهدت وأتمّت تعليمها، كيف سيقول لها إنّ الجيش يذبح الأطفال في عمرها قبل الكبار، حتى يقتلع نسل من قالوا: “لا”، كيف سيقول لها كلماتٍ كهذه، وماذا إنْ باحتْ بها أمام أحدهم والحيطان لها آذان!
في عتمة الليل اصطحبني حاملاً مصباحه القديم “اللكس” إلى أعلى تلّة شاهقة، ليريني رأي العين ما كان يحصل، كان (الساروت) يمين التلة ومدينة حماة مقابلها على مدى منظور، صعدنا أعلاها.. أطفأ المصباح.. ووقفنا نرقب القيامة، في بقعة على مرمى البصر كتلة من اللهيب تصل الأرض بالسماء، تصحبها أصوات الأسلحة وانفجارات لا تتمايز.
أذكر أنني كنت أفكر بحيوانات “حديقة أم الحسن” الطواويس التي تفرد ذيولها الملونة بأجمل الألوان الطبيعية، والغزلان الرشيقة المبرقعة، والطيور النادرة ذات الأصوات الشجية.
“وماذا عن الغزلان والطواويس في حديقة أمّ الحسن هل سيقتلونها؟” سألت أبي بهلع؛ فقد كانت زيارة تلك الحديقة حلمًا يداعب خيالي، فأتخيل كيف سأرى الطاووس والغزلان إذا زرت حماة، سأراها بعيني لا على التلفاز؟
كانت تنعكس اضواء النيران البعيدة على وجه أبي فيظهر تقطّب حاجبيه واكفهرار وجهه، لا يجيب، ينظر فقط، ويترك سؤالي معلقًا، ومخيلتي مفتوحةً على أكثر الاحتمالات سوداويةً.
“خلينا نرجع على الدار” قلت بعد أن وقفنا لفترة طويلة.
“نستنى بلكي حدي هارب بهذا الليل”
“وكيف يصل لنا ويفصل بيننا وبينهم العاصي؟”
“مو مشكلة يقطع العاصي”
انتظرنا مدةً حسبتها طويلة، ثم عدنا أدراجنا، دون أن نحظى بروح ننقذها من الهلاك.
مرّت بنا فترة من الخوف والترقّب لا أذكر كم امتدت، حتى أن بقية الأسرة: أعمامي وأسرهم تركوا القرية وقدموا للسكن معنا في بيت المزرعة تحسبًا لأي عملياتِ اعتقال أو اجتياح قد تطال القرى، وذات مساء تحسسنا ضوء سيارة صاعدة نحو الدار قادمة من القرية، فهرع أبي وأعمامي للاختباء بين دوالي الكرم، ظنًا أنها سيارة الجيش، وتكورنا نحن الصغار حول أمهاتنا ننتظر طوارق الليل. ولحسن الحظ أنها كانت سيارة أحد أقاربنا. ولم الخوف فأبي وأعمامي غير متعلمين، والأمن لا يعتقل إلا المتعلمين، فالأمية في بلدنا نعمة.
هدأت أصوات المدفعية، وانتهت المهمة، وذهبنا إلى المدينة، المدينة التي طالما داعب وصفها خيالي، باتت أبنيتها تلال ركامية على جانبي الطريق، أما الأسواق المكتظة لم يبقى فيها إلا بعض الباعة، الذين ينادون على بضاعتهم بعيون متوجسة كسيرة، لا مارين، إلا من مجموعات من أهالي القرى قدموا إما لتفقد معارفهم، أو لمراجعة دائرة ربما غدت في خبر كان.
والناعورة توقفت عن (العنين). متوقّفة! كيف تتوقّف الناعورة، وقد قيل لي إنها حيّة تشعر وتحنّ، وإنها لا تتوقف حتى تقوم القيامة، هل من المعقول أن القيامة قامت في حماة فقط؟!
لم نزر حديقة أم الحسن فقد قيل لنا إن الحيوانات هربت.
وعندما رجعت إلى قريتي حلفايا، شاهدت الغزلان وقد تجمعن في بيوت لجأن إليها بعد أن نجون من آلة الموت أرامل ويتيمات وثكالى، أما الطواويس فقد سحقتها دبابات (حماة الديار).
فضولية
_____________________________________________
من مقالات العدد الثامن من مجلة (العربي القديم) شباط/ فبراير 2024