رواية (غربان طائرة): مأساة الكردي في مواجهة أشباح الدولة العميقة وشرطة السوسيال
بالاتّكاء على استخدام تقنيّة الراوي الأوّل كَـ (ساردٍ للحكاية)، وبلغةٍ شفيفةٍ تتسلّل إلى قلب القارئ وعقله، تتسلّل عذبةّ رقراقةّ كترنيمةٍ كرديّةٍ عتيقةٍ يغزل (كاميران حرسان) خيوط روايته (غربان طائرة) الصادرة عن: (منشورات رامينا) هذا العام ٢٠٢٣.
استعارات مدروسة
لا شكّ أنّ لغة السرد في الرواية تنسكب بسلاسةٍ وتجنح إلى البساطة، إلّا أنّها تضجّ بالاستعارات المدروسة، والموظّفة بعنايةِ حكّاءٍ محترفٍ يجيد تطعيم نصّه بالاستعارة / المجاز، من دون أن يثقل كاهل الحكاية، أو أن يضحّي بتوهّج الفكرة لتتشكّل اللوحة الروائيّة متوازنة الشكل والمضمون.
منذ السطور الأولى يمسك الكاتب بتلابيب فضول القارئ ليضعه في قلب المشهد / الحدث:
“لم أكن مستعدّاً لزيارة الشرطة المفاجئة إلى منزلنا القابع في ضاحية خارج أسوار المدينة، فوق رابيةٍ تحتضنها بيوتٌ خشبيّةٌ تناثرت بين أشجارٍ كثيفة، رافعاً هامته فوق الحيّ المنعزلة عن جيرانه، بسبب الطوق الذي فرضته الغابة حوله ليبدو كجزيرة حمراء تتناهض من لجج بحرٍ أخضر” (ص 7) من الرواية
ثمّ تتواتر لغة السرد بما يتناسب مع سياق المرويّات.
يفتتح الكاتب روايته بمشهد السوسيال (إدارة الخدمات الاجتماعيّة في السويد) وهم يقتحمون منزل جاندار (بطل الرواية) – بطريقةٍ فظّةٍ – لينتزعوا منه إبنه (ديلار)، “بينما كانت الزوجة غائبة عن البيت مع طفليهما – التوأمين – الآخرين في المدرسة” (ص 7) من الرواية
غير أنّه ببراعة السارد الذي لا تغفل ذائقته ولا أدواته عن أبسط تفصيلٍ يردف الجملة بكلمتين إضافيّتين:
– “كما توهّمت” (ص 7) من الرواية
عبر هاتين المفردتين، يلجأ الكاتب إلى زعزعة ثقة القارئ بأنّه يتلقّى حكايةً مباشرة، فاتحاً باب التأويل على مصراعيه ليتساءل القارئ / المتلقّي:
– ما الذي توهّمه بطل الرواية؟!
هل كان المشهد برمّته وهماً، أم أنّ الوهم تجلّى في تفصيلٍ محدّد؟
ثم يعمد الكاتب إلى تحييد الحدث (ليؤجّج عنصر التشويق عند القارئ) واصفاً (على لسان جاندار بطل الرواية) التفّاح في البداية، عاقداً مقارنةً ـ بعد ذلك ـ بين تفاح المتاجر “الذي يتحسّس منه الجسد معبّراً عن ذلك بحكّة في العينين والحلق، وسيلانٍ لا يتوقّف في الأنف” (ص 10) من الرواية
ثمّ مرتجلاً انزياحاً بارعاً صوب قصّة آدم وحواء والأفعى والتفّاحة ليبقي القارئ في حالة ترقّبٍ شغوفٍ لما سيحدث لاحقاً بخصوص (جاندار) وابنه (ديلار).
تفاصيل جوهرية وشخصية جذابة
يعود الكاتب بالقارئ ثانيةً إلى الحدث عن طريق ابتكار مقاربةٍ فذّةٍ لا تقلّ عن الانزياح الآنف الذكر جمالاً: بين نساء (السوسيال) ونساء (الڤايكينغ) من جهة، وبين رجال (السوسيال) ورجال (الفايكنغ) من جهة أخرى، ممرّراً نقداً لاذعاً لما يدعى بِ (الدولة العميقة).
نقداً يتسرّب بنعومةٍ بعيداّ عن المباشرة والجمل الإنشائيّة
إلى أن يصل إلى الصفحة (١٥) من الرواية ليكشف عن توهّمه بجملةٍ جامعةٍ مانعة:
– ” الآن فهمت. بدأتُ أعي ما يدور حولي، لقد انكشفت خيوط اللعبة، إنّها شريكتهم في التدبير، فالمشاجرة المرتَجَلَة قبل خروجها إلى مدرسة الطفلين تشي بتفسيرٍ منطقيّْ لكلّ ما جرى” (ص 15 من الرواية)
وبعد أن يكسو الكاتب أرض روايته بالتفاصيل الجوهريّة، يعمد إلى ابتكار شخصيّة جذّابة الخصوصيّة وإن كان حضورها في الرواية نادراً إلى حد ما:
شخصيّة (كارل) المسنّ الذي ينضح حكمةً ليصوغ على لسانه جملةً بليغةً الشكل والمضمون:
– “القراءة العميقة لنصٍّ عميقٍ تجعل من القارئ السطحي غريقاً، والغوص في نصٍّ سطحيٍّ يصدم رأسه بالأرض” (ص 20 من الرواية)
من خلال هذه الجملة عرض الكاتب وجهة نظره في قالب أدبيّ صرف من دون تقريريّة أو نبرٍ خطابيّ.. كما أنّه قدّم من خلالها إحدى أهم مقولات النصّ، بل إنّه – أكثر من ذلك – رسم مأساة (جاندار) المتمثّلة في الفخّين اللذين سمح لنفسه بأن يقع فيهما.. هذين الفخّين اللذين كانا قد نسجا الحبكة الرئيسية في الرواية:
١- انتقاله من (الشمال المزيّف) الذي يمثّله مسقط رأسه الخاضع للسلطة الأمنية، إلى (الشمال الأكثر زيفاً) الذي يعاني المنفيّون إليه من انتهاكات (السوسيال) ومن يقف وراءهم ويدعمهم ويموّلهم من خفافيش (الدولة العميقة).
هذا الانتقال كان بمثابة قراءة عميقة لنص سطحي
٢- وقوعه في غرام (لقاء) التي التقى بها في (السويد) كان بمثابة قراءة سطحيّة لنص عميق.
السوسيال وأشباح الدولة العميقة
ثمّة أسلوب حصيف لجأ إليه الكاتب في خلق أفكار الرواية ذات المحتوى النقدي، وهو معالجته لمفهوم (الدولة العميقة) بعيداً عن الأدلجة وافتعال المفردات الخطابيّة المنبريّة والمواقف المسيّسة، معالجتها بطريقة النقد الأدبيّ الاجتماعي، إذ إنّه رصد انتهاكات (السوسيال) المدعومة من أشباح (الدولة العميقة) عن طريق تشريح البنية الاجتماعية للعلاقات الإنسانية التي ولدت في بلاد الغربة (الأرض الموعودة للبشر الذين لفظتهم حكوماتهم) فلاذوا بالهجرة حالمين بواقعٍ أفضل، فقد استطاع الكاتب أن يشرّح كيفيّة تشكّل علاقاتٍ محكومةٍ سلفاً بأن لا تكون طبيعيّة تحت ضغط (مطرقة) الأنظمة الشموليّة من جهة، و(سندان) أشباح (الدولة العميقة) وأدواتها (السوسيال) في البلاد التي تدّعي الحضارة من جهة أخرى.
ثمّة تقنيّة أخرى لجأ إليها الكاتب بمهارة لتضيف قيمة جماليّة متفرّدة للنصّ:
ـ تقنيّة الفصول القصيرة (القصاصات):
هذه التقنيّة لعبت دوراً حيويّاً في إضافةِ لمسةٍ خاصّةٍ لها فرادتها إلى السرد والحكاية؛ إذ أن الكاتب أجاد توظيفها لتكون ذات لغةٍ رشيقةٍ شاعرّةٍ مشبعة بالعذوبة من جهة، وفي ربط الأحداث، والانتقال بالحكاية إلى مرحلةٍ جديدةٍ، من جهةٍ أخرى،
كما أنّ هذا الربط يمكّن القارئ / المتلقّي من استمزاج شفافيّة استثائيّةٍ ليكمل ترحاله خلال العوالم الداخليّة لشخصيّات الرواية، والفضاءات والأمداء الباذخة للمسرود الحكائي واللغوي في النصّ بشغف وامتلاء.
ثمّة مفهومٌ آخرٌ صاغه الكاتب في نصّه بطريقةٍ فذّه / مبتكرة، (مفهوم الشمال المزيّف):
للوهلة الأولى، يبدو كما لو أنّ الكاتب يرمي إلى الشمال السوريّ، مسقط رأس (جاندار)، الذي هو مسقط رأس الكاتب نفسه (ممّا يجعلني لا أستبعد أنّ الكاتب ـ ربّما ـ كان يستلهم سيرته الذاتيّة أو على الأقلّ يستلهم مشاهد منها).
هذا (الشمال) الذي أورث أبناءه وبناته البؤس والشقاء الناجمان عن مكابدة شظف العيش وضيق ذات اليد من جهة، وتغوّل السلطة من جهة أخرى، هذا الشمال الذي باتت أقصى أحلام قاطنيه وغاية مرادهم الهجرة إلى (شمالٍ أكثر رحمةً).
غير أنّ لعنة (الشمال) بقيت تطارد (جاندار) في (السويد)، البلد الذي يلبس قشرة الحضارة، لعنة تمثّلت بممارسات (السوسيال) الوحشيّة من جهة، وخيبة أمله في الحبّ بعد فشل زواجه ب(لقاء) التي تعرّف إليها في (الشمال الأكثر زيفاً) من جهةٍ أخرى.
ورغم أن الكاتب لم يشر حرفيّاً إلى (شمالٍ أكثر زيفاً) خلال كامل سياق الرواية، وهذه ـ عندي ـ براعة من قبل الكاتب، إلّا أنّه قدّم للقارئ / المتلقّي المفاتيح الكافية ليلتقط هذه الإشارة، إذ أنّ وظيفة الكتابة ـ كما أرى ـ لا تكمن في أن يفكّر الكاتب عوضاً عن القارئ ويقدّم له إجابات كاملة، بل تكمن في الإيحاء والترميز المجازيّ / الاستعاريّ للقارئ ليبحث عن أجوبة تخصّه وحده، وإيجاد الحلول التي تتفق مع ذائقة التلقّي التي يمتلكها، يكفي الكاتب أن يقدّم للقارئ الأدوات التي تفتح ذهنه على فضاء التأويل، واستخلاص النتائج من المقدّمات.
من شمالٍ إلى شمال، تتكرّر مأساه الكرديّ بصيغ مختلفة شكلاً، متشابهة مضموناً،
(جاندار) الذي فقد أخويه وأمه في حادثة الجليد، الجليد الذي أبى إلّا أن ينخسف بأسرته ويبقيه حيّاً يصارع مأساته، هو ذاته (جاندار) الذي شتّت (السوسيال) شمل أسرته، وبعثر ما تبقّى لديه من أملٍ ليتحوّل من كائنٍ مسالمٍ ينشد الجمال ويناور اللاجدوى بكتاباته وشهاداته العلميّة، ويحلم بتأسيس بيتٍ دافئ وأسرة تنعم بالسلام، إلى مشعل حرائق ونزيل مستشفى للأمراض العقلية، ثمّ إلى منتحرٍ في نهاية المطاف، لقد ألقى بنفسه في الماء ليلتحق بأمّه وأخويه.
قرّر أن يعود إلى رحم الأسرة ولو على هيئة جثّةٍ بعد أن تبدّدت أحلامه بتكوين أسرةٍ حيّة.
أمّا (ديلار)، فلم تترك له الحياة خياراً سوى أن يرث أحلام أبيه وخيباته ومآسيه؛
أحلام الكرديّ ذاتها، وخيباته ذاتها، ومآسيه ذاتها، ولو كان لي خيار في انتقاء عنوانٍ رديفٍ لهذه الرواية، لعنونتها (التغريبة الكرديّة).
تغريبة الغربان الطائرة من بلاد الجوع والأحلام (الموءودة على صخور الواقع القاسية)، إلى بلاد المنافي المشبعة بالعزلة والجليد
لقد استطاع (كاميران حرسان) أن يكتب رواية متكاملة العناصر، مسبوكة بإحكام
متلاعباً بالزمن تلاعباً شعوريّاً له نكهة إبداعيّة متميّزة، وموظّفاً عناصر الحداثة الجادّة في السرد والحكاية والحبكة والشخوص والشكل البنائي، لذا أعتقد أنّ هذه الرواية جديرة بالقراءة سواءً أكان قارئها متطلّباً أم متذوقاً فقط.