قصص زكريا تامر تشارك في الثورة السورية
أحمد جاسم الحسين
لا يمكن لأيّ باحث في القصة القصيرة العربية، أو مؤرخ أن يمرّ بها، دون أن يُخصص محطّة مهمّة لتجربة زكريا تامر؛ ليس لأنّه أخلص لهذا الفن، أو لأنه بقي يكتبه أكثر من ستين عاماً، بل لأنّ بصمته الفنية في القصة القصيرة، من الصعب أن تجدها عند كاتب عربي آخر، حيث تمكّن من إضافة “تكنيكات” استثنائية إلى القصّ العربي، غدت أقرب ما تكون إلى “ماركة مسجّلة” باسمه، من مثل العجائبية المدهشة، وكسر بديهيات السرد، والترميز المذهل، وصناعة عجينة سردية غير قابلة للتقليد، ودمج الأزمنة والأمكنة، والتنبّؤ بحتمية مواجهة القمع بالسرد، بحيث جاءت ثورة عام 2011 كحتمية قصصية، يفرضها هذا الغباء المتراكم للنظام الرسمي العربي….
توصيف تجربة زكريا تامر، بما ورد أعلاه، ليس ناجماً عن لحظة “فخر” سوري عابرة، بل جاء بعد قراءة الإنتاج القصصي السوري كاملاً، ومعظم الإنتاج القصصي العربي، حيث تقول لك تلك التجربة: قف، أنا لستُ قاصاً عابراً، أو كتب القصّة على هامش حياته، أو تجربته!
في محاولة من بشار الأسد؛ لاستثمار نجاحات زكريا تامر عربياً ودولياً، وتبييض صفحة أبيه السوداء، تجاه زكريا تامر، حيث هرب الرجل من سوريا؛ خوفاً على نفسه من الاعتقال، وجنون النظام قبل سنوات عدّة، تمّ منحه وسام الاستحقاق السوري عام 2002، وكان من الطبيعي أن تقوم كلّ من وزارة الثقافة، واتحاد الكتاب بمحاولة التقرّب أكثر وأكثر من زكريا تامر؛ لعلّه يُحدث تحولاً في مساره القصصي، غير أن الرجل بقي يفضّل “تمشاية” طويلة في دمشق القديمة، على لقاء أيّ مسؤول، والجلوس طويلاً في بيته بضاحية قدسيا أقرب إليه من المشاركة في نشاطات مصنّعة.
وكان من الطبيعي أنه بعد عودته إلى سوريا، وتلاشي غضب النظام “مرحلياً” عنه، أن تتمّ إعادة نصوصه القصصية إلى المناهج الدراسية، وأن تغدو نصوصه أحد مواضيع رسائل الماجستير والدكتوراه في الجامعات السورية.
بعيداً عن الحراك المظاهراتي لثورة عام 2011، والتحدّي المباشر للنظام في سوريا، فإن هناك ألواناً من الحراك، والوقوف في وجه النظام السوري لم يعرّج عليها توثيق الثورة، أو نظر إليها نظرة استخفاف، أو كان بريقها أضعف من الرغبة الجارفة بكسر كلّ شيء.
وقد تمثّلت هذه الألوان من الحراكات، عبر مظاهر عدّة، منها الانسحاب من العمل الوظيفي، أو الابتعاد عن المناصب الحكومية، أو الانسحاب عن العمل الإعلامي، أو رفض المشاركة كضيف إعلامي للتطبيل للنظام، أو نشر نصوص عبر وسائل التواصل الاجتماعي ذات طابع تحريضي، وتشير كلّ تلك الألوان من النشاط الاحتجاجي إلى أن الجو العام في سوريا كان جواً احتجاجياً ثورياً؛ مما جعل من ثورة عام 2011 ثورة شعبية، شارك فيها معظم السوريين، مستفيدين من الفسحة والجو العام للربيع العربي… تلك ألوان من الاحتجاج السالب، الذي لا يقوم بالفعل المباشر، بل بالفعل غير المباشر، والتحريض على الفعل بشكل خفي، وهذا النوع من الاحتجاجات من الصعب تأريخه؛ لأنه نوع من التاريخ السردي، كل سوري في مرحلة عامي 2011 -2012، بل إنّ كلّ بيت سوري باتت لديه سرديته الثورية، من خلال رسومات الأطفال، أو الحواجز التي يصنعونها في المنازل اعتراضاً طفولياً على حواجز النظام، أو احتجاجاتهم على الجنود الذين يصعدون لتفتيش باصات الأطفال الصغار الذاهبين إلى مدارسهم، وبات لدى معظم الأمهات السوريات حكاية مع الخوف على أطفالها.
عدد كبير من الأساتذة الجامعيين في الجامعات السورية شاركوا في حراك عام 2011 في سوريا في أشكال عدّة، منها أنهم نتيجة حوارات غير معلنة، وصلوا إلى النتيجة التالية: بحكم عملنا بالدولة، وشخصيات تخضع لرقابة مباشرة من سلطات النظام، من ضمن مراقبته للعمل الجامعي، فإننا لن نستطيع أن نخرج في المظاهرات؛ لأن الاعتقال والتنكيل، وقطع مورد الرزق سيكون بانتظارنا.
غير أننا يمكن أن نشارك بالثورة، عبر ما يلي: إخبار الطلاب بوجود مداهمة أمنية، في حال تمّ العلم بها مسبقاً، من خلال إخبار ممّن نثق بهم، وكذلك ترك أبواب الكليات المخصصة للأساتذة مفتوحة، لمن يريد أن يهرب من الطلبة، عدم التركيز على الحضور والغياب في الدروس العملية، في حال كان الطالب من المناطق الثائرة، والأهم كان الاتفاق مع عدد من الأساتذة على فكرة تحريض الطلبة، من خلال تدريسهم نصوصاً أدبية تحريضية، نقول فيها كلّ ما نريد، دون أن يستطيع أحد أن يديننا، وفي الوقت نفسه نزيد من جذوة الرغبة بالتغيير، لدى جيل الشباب والشابات، وأن النصوص يمكن أن تمتدّ من نصوص عنترة، والتمرّد، وصولاً إلى المتنبي الذي لن يرضى الظلم، لنتوقف عند نصوص أمل دنقل، وعبد الرحمن منيف، وزكريا تامر.
كانت نصوص زكريا تامر منقذاً لي، وعامل توازن، يجعلني أشعر بأنني أؤدّي جانباً من “أضعف الإيمان”، ولعل نص “النمور في اليوم العاشر” أحد أبرز هذه النصوص، حيث كنت أوزّعه مطبوعاً على الطلبة، ونبدأ بقراءته، وتحليل شخصياته، وكيف أن القفص ليس قدَراً، وأن زكريا تامر ذاته سيغير مصائر شخصياته اليوم، الذين يمكن أن يكونوا في مشهد جديد في حياتهم، ألا وهو عدم مشابهة المصير الوارد في النص، وكنت أقول حرفياً: زكريا تامر، لو كتب القصة اليوم، لوجد أن النمور يمكن ألّا تتروّض إلى الأبد، أو يمكنها أن تتفينق ثانية، وتتخلى عن قدرها، ومصيرها لتولد من جديد، وتهجم على سجّانيها، وكانت الفسحة التأويلية تلك تسمح بها نصوص زكريا تامر التي بدت مثل “الزبدية الصيني” من أيّ جهة تفسّرها، أو تؤوّلها ترنّ اعتراضاً واحتجاجاً، خاصة أن الجو السوري العام كان جواً مشحوناً ومرحباً بأي حالة مقاومة للاستبداد، وهذا الحسّ الوجداني العام الذي شاع في سوريا عامي 2011 و2012 خاصة من الصعب أن يتكرّر، أو يدركه كثيرون، كانوا يظنون، (أو مازالوا) أن الثورة السورية كانت ثورة مليون أو مليونين؛ لأن الجوّ الثوري في سوريا كان حالة وجدانية سورية عامة، حتى عند نفر كبير من الموالين الذين لاحقاً حتى شعروا أن هذا التغيير قد يهدد مصالحهم، وبدؤوا ينكفئون عن المشاركة حتى في النقاشات.
كان تحليل نصوص زكريا تامر للطلبة الجامعيين، يفسح مجالاً كبيراً للشباب والصبايا؛ كي يقولوا رأيهم ورؤيتهم، مستفيدين من الجو العام، وقد كنّا نسوّغ ذلك في اجتماعات قسم اللغة العربية الرسمية، أنه من الأفضل أن يعبّر الطلبة عن أنفسهم في قاعات الدرس، وكان المسؤولون الجامعيون يحاولون أن يقنعوا أنفسهم بذلك! غير أنه لا حلّ آخر أمامهم، فالموجة الثورية السورية أكبر من الجميع، وإن لم تشارك بها ستجرفك وربما ستغرقك! ولأول مرة راحت قصص زكريا تامر عن السواد الذي يعمّ دمشق ترميزاً للاستبداد والوحشة في الشوارع، تأخذ طريقها إلى قاعات الدرس، مع فسحة كبيرة في التحليل والتأويل وإبداء الرأي، وفي حال جاءك طالب بعد المحاضرة يقول لك ليوقعك: كأنك يا أستاذ تقصد شيئاً محدداً، نقوم بتجاهله بالقول: هذا شأنك، أنت فهمت ذلك، زكريا تامر كاتب سوري، وهو ابن هذا البلد، وحاصل على وسام رئيس الجمهورية!
مع بداية الثورة السورية كانت جامعة دمشق في نوع من الاستجابة للحراك؛ ظناً منها أنه جزء من التخفيف من الضغوطات على النظام السياسي، قد قرّرت أن تغيّر في المناهج الدراسية مع فسحة كبيرة للأساتذة، بعيداً عن الرقابة المسبقة، وقد مرت مرحلة وجدت فيها القيادات أن كثرة النفخ لن تزيد الشارع إلّا حراكاً، وجزء من هذه المناهج كان مناهج الترجمة في التعليم المفتوح، وقد كانت برفقتي في تأليف أحد الكتب زميلة “شبّيحة” طُردت لاحقاً من الجامعة؛ لأسباب أخلاقية، حيث يقتضي التأليف الجامعي أن يتشارك زميلان؛ من أجل أن يستفيدا من الكتاب كجزء من الترقية الجامعية الإجبارية.
تتسم تلك الزميلة بغباء شديد جداً، وقد أقنعتها أنه من المهم أن نحذف من الكتاب الجامعي الجديد خُطب رئيس الجمهورية؛ لأن هذه الفترة ليست مرحلة خطابات، وأنه من الأفضل للنظام السياسي أن نفعل ذلك. ترددت الزميلة في قبول الفكرة، وكانت تتوقّف عن الكلام؛ لتنظر في عينَيْ، إن كانت تستطيع أن تقرأ فيهما شيئاً آخر غير ما أقول، ولكي أقنعها بأنني لا أضمر غير ما أقول، اخترت نص “الاستغاثة” لزكريا تامر الذي يستحضر يوسف العظمة، وحالة دمشق، وهو نص مدهش يمور بالدلالات، غير أن أستاذاً جامعياً شبّيحاً، لن يرى فيه إلا أنه مقاومة للمستعمر الفرنسي، وأذكر أنني كنت أستشهد لها بأول مقطع منه؛ لتقتنع أنه كذلك:
“أقبلت الاستغاثة ليلاً إلى دمشق النائمة طفلة مقطوعة الرأس واليدين، وتراباً يحترق، وطيوراً تودع أجنحتها السماء والأشجار، غير أن أهل دمشق كانوا نياماً، فلم يسمع الاستغاثة سوى تمثال من نحاس لرجل يشهر سيفاً، ويقف فوق قاعدة من حجر مطلاً شامخ الرأس على حديقة مبنى. واجتاحت الاستغاثة تمثال النحاس مرة ضارعة، ففقد صلابته شيئاً فشيئاً، ثم تحول إلى رجل يمشي ويتكلم ويغضب ويصرخ.
ولقد مشى ذلك الرجل في الشوارع الخاوية المتروكة لظلمة الليل، ولكنه كفّ عن السير لما اعترض طريقه حارس ليلي، وقال له بصرامة: “قف.. ماذا تحمل؟”.
قال الرجل: “احمل سيفاً”.
“- ولمن السيف؟”.
“- السيف سيفي”.
“- وهل السيف تفاحة أو برتقالة؟ ألا تعلم أن السيف سلاح؟”.
“- أعلم طبعاً”.
“- ألا تعلم أيضاً أن القانون يحظر حمل السلاح؟”.
“- يحق لي حمل السلاح فالسلاح جزء من مهنتي”.
“- وما مهنتك؟ تاجر أسلحة؟”.
“- أنا وزير.. وزير الحربية”.
***
تقرأ سرديّات التامريّ، فتتمنَّى أن تصبح إحدى شخصيّات حارته، ربّما حارة السعدي مثلاً؛ لأنّك واجد أنّ شخصيّاته أليفة، ربّما مررت بها، التقيتها في مقهى، أمام شبّاك مخبز، عندَ فوّال دمشقي، ربّما يتحدّث عنكَ أنت! فحالك مثل حال العصفورين اللذين حطَّا على غصن شجرة محاذية لأحد شوارع دمشق، ولم يغرّدا ترحيباً بشمس الصباح، إنَّما تبادلا النظرات الوجلة الحائرة، كانا يتساءلان معك: أين نطير؟
“سماؤنا احتلَّتها الطائرات!” سنستغيث معه، وقدوتنا في “الاستغاثة” يوسف العظمة، يوم صرخ تمثاله في سماء دمشق يدين الفساد، فكان مصيره مشفى المجانين. أغمض العظمة عينيه، وأحسّ أنّ شرايينه تمتلك آلاف الأجنحة التوَّاقة إلى فضاء رحب، فأطلق استغاثة، التقتْ بالاستغاثة الآتية من أرض يحتلّها الأعداء، وامتزجتا في صراخ مديد تبدّد في ظلمة الليل المهيّمن على دمشق النائمة!
مخيّلة زكريا تامر، رغم قسوتها، وشخصيّاتها العنيفة، لكنها، في لحظة ما، ترفض القتل، فقد “باع الشنفرى سيفه قبل سنين، دون أن يلطّخ سيفه بدماء رجل”.
تنبَّه زكريا للتطرّف منذ زمان طويل: التطرّف الدينيّ والسياسي والمكاني والجغرافيّ والإيديولوجيّ، فنبَّه قرَّاءه إلى سوْءاته، لكنَّ أصحابَ القرار في شامِنا لا يقرؤون، وإنْ قرؤوا لا يريدون أن يفهموا، بل إنَّهم يُمعنون في الحفر بأعماق التطرّف، وتغذيتِه بطرقهم، ربَّما قرؤوه، ووجدوا أنَّه أحد طُرق إطالة بقائهم!
تنبَّأ زكريا لدمشق، منذ زمان طويل، بطاغية من نوع خاص، نادراً ما يتكرّر في التاريخ، لكنّنا ظنّنا أنّ الأمر لا يتجاوز حكاية تُروى للأطفال قبل نومِهم تشبه ذبح الحمام، أو ربّما قصة تُقرأ في كتاب، ويبدو أنَّه لن يرحل في يوم لا بدّ من مقدمه، قبل أن يترك خلفه شامنا مكتظة “بالجيف المتحركة”!
وعلى الرغم من ذلك؛ إلَّا أنّ الشارع، والمقهى، والزنزانة، والغرفة الموحشة، والقبو المظلم، والسينما، والخمّارة، والمعمل، والمطعم، والبستان والنهر، تحتاج إلى كائنات تؤثّثُها بالعشق والحياة، فدمشق “كانت في قديم الزمان سيفاً أُرْغم على العيش سجيناً في غمده، وكانت طفلةً تثقل الأصفاد خطوتَها. وكان ياسمينها ينبت خفية في المقابر، مرتدياً أكثر الثياب حلكة، فلمَّا علمَ أعداؤها بأحوالها سارت إليها جيوشهم، وبنت حول أسوارها سوراً من قتلة”.