دلالات وقضايا | حَمِير الطَّواحين وكلابها وتراث طوبرستان
بقلم: مهنا بلال الرشيد
قصَّة قصيرة من العصر الإخساريِّ وتُراث طوبزستان
في البداية؛ قصَّة حمار الطَّواحين أو حميرها وكلابها قصَّة شهيرة من تُراث طوبزتو ستان، تشبه قصَّة جُحا وحميره العشرة في التُّراث العربيِّ ظاهريًّا، وتختلف عنها كثيرًا في المضمون؛ لذلك يبدو إسقاط بعض شخصيَّاتها من الحمير الأنيقة على بعض الشَّخصيَّات الواقعيَّة الَّتي تصنع ذاكرتنا السُّوريَّة مغامرةً خطيرة مثل مغامرة نضال الصَّالح الثَّانية قبل موته. وحمار قصَّتنا الأوَّل جميل ورشيق برغم سُمنته ومتعدِّد المواهب مثل صاحبه، الَّذي يظهر كثيرًا معه رغبةً منه بالانتهازيَّة وحبًّا بالنِّفاق واللَّفِّ والدَّوران وتمسيح الجوخ، ويمكن القول عنهما: إنَّهما اثنان بواحد، أو اِسْتَان في سروال واحد، وكلمة صاحبه هنا تدلُّ على بشَّار بن برد، وتعود الهاء على حماره، الَّذي يحفظ شعر الإخوان والإخوانيَّات، وينظمه، ويرويه، وينقده، ويقدِّم لجمهوره التَّعيس بودكاسته مع مسِّيحة الجوخ في المهرجانات الإخساريَّة وحانات الخمرة الصُّوفيَّة، ويظهر علينا بين حينٍ وآخر في البثِّ المباشر على التّيك توك؛ أي في حانات العصر الإخساريّ،ِ (والإخساريِّ ههنا: كلمة منحوتة من كلمتي: الأخوان واليسار معًا، والأخوان تدلُّ على الأخوة الأشقَّاء أو الأخوة في رضاعة الذُّلِّ والمهانة، ولا تدلُّ على شيء آخر).
هذا الحمار الأوَّل فيه سُمنةٌ لا تخفى على تاجر من تُجَّار الإعلام والمازوت والحمير؛ إنَّه حمار يصلح لصناعة الأيديولوجيا، كما يصلح لحمل المازوت وتهريبه أيَّام الشِّتاء في الجبال بين سوريا ولبنان، ولكنِّني أخشى عليه لسمنته أن يذبحوه إذا جاعوا، وفي هذه الأيَّام صرنا نسمع كثيرًا عن بعض المسالخ والمطاعم، الَّتي تقدِّم لحم الحمير. وإن لم تُحرَّم لحوم الحُمُر الأهليَّة على المسلمين حتَّى وقت طويل نسبيًّا بعد الهجرة، فأنا لا أرغب أن يذبحوا هذا الحمار برغم ترفيسه؛ لأنَّه حِمارٌ أصليٌّ، يصلح مع صاحبه لأن يكونا نموذجين عن الحمير في حديقة الحيوان، وهو كذلك حمار أنيق برغم سُمنته؛ أي أنَّه يحمل على ظهره أسفارًا في نقد الشِّعر العربيِّ، يحاول أن يقرأ فيها دون أن يعيها؛ لأنَّها بعيدة عن متناول اختصاصه وعن باب الصَّيدلانيِّ؛ حيث عشق أتانه أو حمارته أو أوَّل حبٍّ في حياته هناك؛ لذلك نحن نعذره في الاثنتين؛ نعذره على العشق، حيث لا سلطان للحمار على قلبه، ونعذره على عدم الفهم أيضًا؛ فالحمير لا تفهم-وإن حاولت-في نقد الشِّعر وشُربِ العصير.
ويبقى لحمارنا الحقيقيِّ صوته الأجشُّ؛ لينهق به في كلِّ محفل عند أبواب الدَّكاترة والأطبَّاء والصَّيادلة والنُّقَّاد والإعلاميِّين وصانعي المحتوى ومقدِّمي البرامج برفقة صديقه مسِّيح الجوخ وباقي الأخوان، الَّذين يحبُّهم، وينظم لهم شعر الإخوانيَّات، وينتقد لهم العلمانيَّة أيضًا، ولكنَّه-مع ذلك-يرقص، ويهزُّ مع صاحبه لشيخ العلمانيِّين على رنينِ السِّينتات والدُّولارات، ويغنِّي، وينهق، ويسجِّل لهم نهيقه تماشيًا مع غريزة الحمير؛ هذا هو حمار بشَّار بن برد، الَّذي مات حبًّا، ثمَّ عاد برغم موته مع أخوانه لحضن وليِّ نعمتهم، الَّذي يُنفق عليهم وعلى باقي الحمير، وقد نقل لنا بشَّار بن برد قصَّة حماره بعد موته في بودكاست عبَّاسيٍّ شهير عن عشْقِ الحمير وحبِّها؛ فقد قال بشَّار في عبثه يومًا: مات حماري منذ يومين، وقد رأيتُه فيما يراه النَّائم ليلة أمس؛ فقلتُ له: ويلكَ، ألم تمت البارحة؟! فقال: ألا تذكر أنَّك ركبتني في يوم كذا؟ ومررنا على باب الصَّيدلانيِّ؛ فرأيتُ أتانًا؛ فعشقتُها، ومتُّ عشقًا، وكتبتُ لها شعرًا في العشق، وقدَّمتُ لها بودكاستًا عن الحبِّ، وقلتُ:
هام قلبي بأتانِ عند باب الصَّيدلانيِّ
تيَّمتني يوم رُحنا بثناياها الحسانِ
وبِغُنْجٍ في دلالٍ سَلَّ جسمي وبراني
ولها خدٌّ أسيلٌ مثلَ خدِّ الشَّيقرانِ
فقال رجلٌ: ما الشَّيقران يا أبا مُعااااااااااااذ؟ فقال: هذا من غريب لُغة الحمير؛ فإذا لقيتم حمارًا فاسألوه!
حمير مسيلمة الكذَّاب الَّذي يحبُّ السُّوريِّين ويحفظ لهم ذاكرتهم
برغم شُهرة حمار بشَّار العاشق في ذاكرتنا السُّوريَّة وتراثنا العربيِّ، إلَّا أنَّ مجموعة من حمير مسيلمة الكذَّاب بدأت تتفوَّق عليه، بالتفافها حول مسيلمة، وترويجها كذبه حول حبِّ السُّوريِّين، ودجله حول رغبته بحفظ ذاكرتهم، لا تصديقًا له، وإنَّما طمعًا بعلفه ودريهماته وشعير الأمراء عنده، وقد خلَّدت لنا ذاكرتنا العربيَّة السُّوريَّة الأصيلة الَّتي لم تعبث بها الأموال قصَّةً تراثيَّة جميلة عن حمير مسيلمة، وخَلَدَتْ هذه القصَّة بعيدًا عن حمير مسيلمة وكلابه ومثقَّفيه الطَّامعين بدريهماته، بل خَلَدَتْ برغم تغييبها عن الذَّاكرة السُّوريَّة الحقَّة، أو برغم محاولة طمسها أيضًا، وتروي الأخبار أنَّ مسيلمة الكذَّاب وسِجاح اليمينيَّة اجتمعا مع بعض أتباعهما من حمير البشر بعد أن ادَّعى النُّبوَّةَ كلٌّ من سجاح ومسيلمة؛ وفي لحظة رومانسيَّة خالدة عند الغروب، وعلى مرأى الحمير ومسمعهم؛ أحبَّ مسيلمة أن يخلتي بسجاح داخل مخدعها؛ فاستخدم موهبته الشِّعريَّة (لتطبيقها)؛ وراح يُنشد لها، ويقول:
ألا قومي إلى المخدع فقد هُيِّي لكِ المضجع
فإن شئتِ فَمُلْقَاةٍ وإن شئتِ على أربع
فقالت سجاح: لا، بل على أربع؛ فإنَّه للرَّحِم والودِّ أجمع! فقالت لهم جوقة الحمير حولهم: نبيُّ الله يتزوَّج نبيَّته دون مهر أو صُداق؟! فقال لهم مسيلمة: اذهبوا، وخلُّوا بيني وبينها؛ فقد أسقطتُ عنكم صلاتي الفجر والعشاء صُداقًا لها!
كلب الطَّاحون والحمار الأخير
حمار الطَّاحون هو الحمار الَّذي يحمل الرَّجلُ على ظهره مع كيس القمح أو شَقْلَةَ القمح من البيت إلى الطَّاحون، والشَّقْلَةُ مصطلح إيبلاويٌّ قديم، يعرفه أهل إدلب جيِّدًا، ويدلُّ على كيس من القمح، يستطيع الرَّجل بمفرده أن يحمله، ويضعه على ظهر الحمار، إذا سقط عن ظهره خلال الرِّحلة الطَّويلة بين البيت وطاحون القمح الحجريِّ، وتزن الشَّقلة الإبلاويَّة حوالي مئة كيلو غرام من القمح، ومن كلمة شَقْلَةْ اشتقَّ الإيبلاويُّون مصطلح (شِيقِل بمعنى شِيكِل؛ عملة إسرائيل الَّتي سرقتها من تراثنا الإيبلاويِّ)، ويعادل الشِّقيل الإيبلاويُّ كيسًا من القمح، يُعطى أجرًا للعامل بعد عمله المأجور مدَّة من الزَّمن.
قدَّر الأيبلاويُّون القدماء جهودَ حمار الطَّاحون، وعلفوه جيِّدًا؛ ليحافظ على قوَّته البدنيَّة في حمل الشَّقْلَة ذهابًا وإيابًا بين البيت والطَّاحون، مثلما قدَّر مهرِّبو المازوت بين جبال سوريا ولبنان حميرهم أيضًا، وبسياسة العصا والجزرة مع قليل من التِّبن والشَّعير درَّبوا حميرهم على رَفْسِ كلِّ مَن ينصحها، أو يقف في دربها، أو ينتقد غريزة الجَحْشَنة عندها، وبمثل هذه الطَّريقة حدَّثنا زكريَّا تامر عن ترويض النُّمور في اليوم العاشر، وبالطِّريقة نفسها روَّض مسيلمة حميره، وبشيء يشبه هذا وذاك يروي لنا تُراث طوبزتو ستان كيف تحرَّش الأرنب باللَّبوة على مرأى من الأسد مرَّات عدَّة دون أن تتحرَّك نخوة أسد السِّيرك المروَّض، حتَّى اغتاظت اللَّبوة، ولاحقت الأرنب، الَّذي خدعها، ودخل من طرف جذع الشَّجرة الفارغ، ثمَّ اغتصبها عندما أدخلت رأسَها وحبسته في الجذع خلال البحث عن الأرنب، وبعد الاغتصاب بقليل رجعت إلى بعلها الأسد؛ فاستيقظت (الذَّاكرة الأسديَّة)؛ وقال لها: سألتُكِ بالله! ألم يأخذكِ إلى الجذع الفارغ؟!
بالدُّريهمات مرَّة، وبجذع الشَّجرة الفارغ مرَّة أخرى روَّضوا بعض الحمير، وعلى رنين الدَّراهم أو صوت قَضمِ الشَّعير نَهَقَ كثير من أفراد القطيع! وفي الظِّلِّ الوارف لسياسة العصا والجزرة أكملت بقيَّة الحمير المشغوفة بالظُّهور حياتها، وبهذا العرض الموجز اكتملت قصَّة مسيلمة وحميره العشرة المشهورة في تراث طوبزتو ستان، وبقي أن نشير في ختامها إلى كلب الطَّاحون؛ إنَّه الكلب الَّذي يستيقظ منذ الصَّباح الباكر، ويمشي خلف الرَّجل والشَّقْلَة على ظهر الحمار دون فائدة في الذَّهاب والإياب، وفي الطَّريق ينبح دون جدوى على كلِّ من ينتقد صاحب الطَّاحون أو وليَّ نعمته مسيلمة الكذَّاب؛ ينبح على النَّاس مع أنَّه يذهب، ويرجع، ويمضي طريقه لُهاثًا دون الحصول على شربة ماء؛ فمسيلمة مشغول بترويج أكاذيبه، والرَّجل مشغول بالشَّقْلَة وحمار الطَّاحون وباقي حمير الحقول والتَّهريب هنا وهناك؛ ولذلك يستحقُّ مَن ينبحْ علينا إذا انتقدنا مُسيلمة أن نقول له: رحلة الكلب إلى الطَّاحون! وإن لم يفهمها سنبسِّطها له، ونقول: عَنْوَةُ الكلب إلى الطَّاحون، وسنعزِّزها -لعلَّه يرعوي أو يفهم-بمثل آخر يحمل المعنى ذاته؛ ونوقل له: اصمتْ، واحفظ جهدك وعناءك؛ لأنَّه دون جدوى، مثل: عَنْوَة بَرْغَش على حارم!