محمد منصور يفكك رواية مجزرة حماة: (ضمير المتكلم) عمق في التحليل ونظرات كاشفة في النص الروائي
العربي القديم – إياس اليوسف
يكاد يكون كتاب (ضمير المتكلم) للناقد السوري محمد منصور الصادر عن دار “موزاييك” بإستنبول عام 2022 من الكتب المتفردة في دراسة ونقد رواية واحدة، رغم أن الكثير من النقاد ألفوا كتبا في نقد الرواية، لكنهم كانوا يدرسون العوالم الروائية بمجملها لروائيين كبار كنجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف وحنا مينة وغسان كنفاني وغيرهم، ولم تقتصر كتبهم على رواية واحدة كما فعل الناقد منصور.
تأتي هذه الدراسة النقدية المعمقة المعنونة أيضاً بـ (المواجهة الطائفية في رواية السوريون الأعداء لفواز حداد) لتكون عملا موازيا لرواية حداد من خلال تفكيك بنيتها الفنية، ما يشكل: “جهدا تحليليا وبحثيا يضيف إلى متعة القراءة متعة الإبحار عميقا في عوالمها الثرية والقصية في آن معا… ومقاربة تستهدف إثراء وجدان القارئ وتعميق إحساسه بطروحات الرواية في إطار منهج تحليلي يقرأ بنية الخطاب، ويدرس عناصره وسماته، وقيمه الموضوعية وجمالياته اﻹبداعية” كما ذكر منصور في مقدمة دراسته.
يبدأ الناقد كتابه بالوقوف عند الإهداء الذي صدر به فواز حداد روايته: “هذا كتابي عن الضمير… تلك هي المسألة”، فيصف الكاتب بأنه كان وفيا لمقتضيات الإهداء: “وكأن الضمير هو الراوي وهو السارد، وهو الرائي الذي يصنع الرؤية التي ستشكل اختراقا حقيقياً في الأدب السوري خلال نصف القرن الأخيرة…”.
مستويات المواجهة!
بهذا يكون منصور قد أراح القارئ من عناء البحث عن تفسير وتأويل لعنوان كتابه الرئيس (ضمير المتكلم) تاركا له حرية الإبحار في عالم هذه الدراسة ليكتشف بنفسه دلالة عنوانها الفرعي وهو (المواجهة الطائفية في رواية السوريون الأعداء) والذي يبدو واضحا للقارئ ولا يحتاج منه سوى البدء في معرفة مستويات هذه المواجهة التي تطالعنا في الرواية من خلال شخصياتها التي يرسمها لنا بحرفية تاركا لمحمد منصور مهمة تفكيكها وإعادتها إلى مصادرها الحقيقية وبنيتها الأولية، وليقف في النهاية على أس خراب سوريا وأسباب توحش وإجرام نظامها الطائفي تجاه الشعب السوري ما بعد انقلاب الثامن من آذار 1963، وهو قمع النظام للأدب واﻷدباء والذي لايزال يكبلهما في الداخل حتى اللحظة.
“إن ما يفعله حداد على مدار نحو خمسمئة صفحة، وهو حجم الرواية الملحمية الطويلة، أنه سيرمي بكل المبررات والذرائع التي تمنحه الثقافة كي يكون صادقا فيما يكتب حادا وجارحا ومتألما ومكلوما ويائسا وآملا ومتشائلا، لكنه لن ينساق إلى أن يكون مبررا أو مداهنا أو متعاميا، متقيدا باﻹهداء الذي صدر به روايته: هذا كتابي عن الضمير… تلك هي المسألة. ويفي بمقتضيات الإهداء حتى الصفحة الأخيرة من الرواية”.
يتوقف محمد منصور كثيرا عند شخصية سليم الراجي القاضي النزيه في القصر العدلي بدمشق الذي يطلع على الأحداث ويرصد واقع العدالة، ليس في القصر العدلي فقط، بل في سوريا، إنه عين الكاميرا التي تسجل وتصور الظلم والفساد في البلد ممثلا بمجموعة من الفاسدين المتوحشين الذين يحملون حقدا وكراهية طائفية، ضباط من الجيش والمخابرات، مثل النقيب سليمان أنموذج مهندس الكراهية، الذي برع حداد في رسم شخصيته للقارئ، يقودهم جميعا الرئيس حافظ الأسد القابع في القصر الجمهوري.
وقد أتفق مع الناقد حين وصف سرد سليم الراجي للأحداث بأنه كان صوت السوريين… ولكن أضيف أننا يمكن أن نقول عنه بعبارة أخرى: إنه كان عين وصوت العدالة التي ترى وتوثق للسوريين، بل للعالم أجمع إجرام ووحشية النظام السوري الطائفي. بحيث يمكن اعتبار سليم الراجي هو ملف القضية السورية الذي يضم كل صغيرة وكبيرة ارتكبها قتلة ومجرمو هذا النظام.
يقول الناقد منصور: “يفكك فواز حداد في ( السوريون الأعداء) المحرك الذي يقود حركة الحياة في سورية الأسد ويرسم صراعاتها وأبرزها: الصراع الطائفي، إذ يؤسس حجر الزاوية لكل الصراعات في الرواية، والحدث الأكثر اختزالا لهذا الصراع هو مجزرة حماة (1982) فقد نقلت هذه المجزرة الصراع في سوريا إلى مستويات غير مسبوقة، وأسقطت كل الشعارات والثوابت الوطنية التي كان يظن الكثير من السوريين أن هناك حدا أدنى من اﻹيمان بها لدى السلطة”.
حماة- تدمر- دمشق
كما يتوقف منصور عند المكان في الرواية، ويرى أن هناك ثلاثة أمكنة، كانت بؤرة للصراع المتوتر والعنيف. قدم حداد في كل منها وجها من الوجوه المتعددة لهذه التراجيديا الدامية.
المكان الأول: حماة
المكان الثاني: سجن تدمر
المكان الثالث: دمشق.
إذ “ما بين قلق الخارج والتفنن في صناعة الموت في الداخل، تبدو حماة دراميا بؤرة لمواجهة طائفية البنية، تريد تحويل المدينة إلى مقبرة جماعية لقسم كبير من أبنائها وأهلها”.
أما عن سجن تدمر: “لقد تمكن نظام الأسد عبر عقود عدة وبدأب وانحطاط لامثيل لهما من تحويل سجن تدمر بالذات إلى عالم لا يشبه العالم الذي يعرفه السجين إلى عالم لا يشبه أي شيء في حياته التي كانت قبل دخوله إليه”، ويرى الناقد أن حداد يلح على مدار الرواية على إثارة الشك الفلسفي بانتماء سجاني تدمر إلى البشر: “هذا ليس عالم البشر، الذين خارج هذا الباب كانوا بشرا وأصبحوا سجانين… والذين يحكموننا كانوا بشرا وأصبحوا طغاة مجرمين… فكف عن دعوته عالم البشر”.
بينما يحضر اسم دمشق، المكان في الرواية بصيغ عدة فهي الفضاء الذي يرسم حضور السلطة المركزية والأجهزة والقصر الرئاسي باعتبارها العاصمة، وهي الجغرافيا التي تبدو مرآة رهيفة لفصول الطبيعة ولأمزجة البشر، كما يصفها لنا القاضي الحموي سليم الراجي، تبدو في نظرته لشوارعها ومظاهر الحياة فيها انعكاسا لعالمه الداخلي وحالته المزاجية وهي الانتماء الاجتماعي الفارق… “ففي مرآة دمشق ومركبات النقص تجاه دمشق تتبلور الرؤية الطائفية في أجلى صورها ليس على شكل مجازر وإعدامات كالذي جرى في حماة، بل على شكل علاقات اجتماعية متعددة الأبعاد متداخلة المستويات حتى تصبح دمشق هدفا لسليمان “إذ هي في الرواية: العالم والحياة، أما القرية فليست عالما ولا حياة، وسيكره الدمشقيين، ويخطر له التخلص منهم، ولم تكن الفكرة غريبة، فقد كان الحزبيون الريفيون يعتقدون أن الثورة هدفها غزو دمشق بالاستناد إلى أن البرجوازيين الإقطاعيين في زمن ما اضطهدوا القرويين وسخروا منهم ولاسيما الحوارنة والعلويون”.
القصر الرئاسي وشخصية حافظ الأسد الروائية
تظهر شخصيات على مسرح الأحداث في القصر الرئاسي هي:
الرئيس حافظ ثم وريثه بشار
العم صبحي الموظف في السكرتاريا.
سكرتير الرئيس أبو حسين.
النقيب سليمان الملقب بالمهندس كما أطلق عليه الرئيس وهو العنصر الأكثر إثارة الذي يخرق سكون القصر الوظيفي.
يعتبر القصر فضاء للوشايات والدسائس، وفضاء للديكتاتور الأوحد، وهو المكان الذي ترسم فيه مصائر بلد وشعب بأكمله، فتصدر عنه المراسيم والقرارات، فالثقل الأساسي للمكان ينحصر في شخص الرئيس، وبهذا المعنى يبدو القصر الرئاسي فضاء الشخص الواحد والديكتاتور الأوحد. إنه فضاء فرد لا مؤسسة، رغم أنه يمتلك ظاهريا كل مقومات المؤسسة.
هنا يحاك كل شيء ويحسم كل شيء، الوزارات والتصفيات والاغتيالات والاقتحامات والمداهمات، عقود السلاح، طلعات الطيران، قواعد الصواريخ، الحرب والسلام، والهجنة والاستنزاف، والخوض في المستنقع اللبناني… في هذا الخفاء المسكون بالسكون، تصنع مصائر الجمهورية والشعب، تُلغي مؤسسة الرئاسة كل مؤسسات الدولة الأخرى، فلا حكومة ولا برلمان ولا وزارات اختصاصية ولا قرارات سيادية، يمكن أن تنافس أو تنوب عن سلطة القصر، كما يلغي شخص الرئيس مؤسسة الرئاسة بدورها، فيغدو هو بمفرده الرئاسة والمؤسسة، وهو البلد والمصلحة الوطنية، ولا حضور لقضايا حقيقية تمس الشعب ومشكلاته، الشعب لا وجود له في فضاء الديكتاتور بشكل مقنع”.
في فضاء مكاني كهذا لابد أن يبحث المهندس الوافد إلى القصر عن الدور الأنسب الذي يمكن أن يلعبه وعن القيمة التي يمكن أن يضيفها إلى سلطة المكان…
لم يجد المهندس ما يضيفه للرئيس الديكتاتور مالك القصر ومن فيه، وضابط حركة إيقاعه وسكونه حتى قبل أن يتكلم، فقرر أن يرنو إلى السماء وأن يبحث له عن مكان فيها… في منظور آخر ترتبط فكرة الألوهية بالاستعداد العام لدى طائفة الرئيس لعبادته، فضعف حالة الوازع الديني المتعلق بمفهوم الله المجرد تجعل لديها استعدادا لقبول كون هذا المنقذ الذي نقل الطائفة من حال إلى حال إلهاً، وتمثل فكرة الألوهية إذن شكلا من أشكال المواجهة الطائفية مع باقي مكونات الشعب السوري، وإن ألبست لباسا سياسيا شموليا هو الولاء المطلق وتأييد القائد.
ويرى منصور إضافة إلى ما ذكره، أن شخصية حافظ الأسد الروائية هي الاختبار الفني والموضوعي الحقيقي لتعامل الكاتب مع شخوصه ولاستقلالية الراوي الموضوعي في أداء مهمته، بعيدا عن المؤثرات المباشرة لقناعات الكاتب السياسية، إذ قدم شخصية حافظ بوجوه متعددة، لم يكن يعنيه أن يكون خارق الذكاء، بل ركز على قسوته الناجمة عن الجمود، وميز بين الذكاء والمكر: “حنكته تدل على المكر ولا ترتقي به إلى شخص استثنائي، المكر لا يصنع رجلا خارقا…”
أبطال متعبون ودولة متوحشة
يصف منصور أبطال الرواية بأنهم متعبون ومهزومون، مهما بلغوا من قوة، ومهما تدرجوا في الرتب والمناصب، ويرى أنها سمة الرواية المعاصرة عموما… فلم يعد دور الشخصية الروائية أن تقدم أفعالا بالمعنى البطولي المرتبط بالقوة والقدرة على الفعل وإثارة إعجاب المتلقي، وإنما هم أبطال بالمعنى الدرامي فقط، وإن البطولة موزعة بين أربع شخصيات أساسية هي:
النقيب سليمان، القاضي سليم الراجي، الطبيب عدنان الراجي، لميس الفتاة التي تدرس طب الأسنان.
وتعد شخصية النقيب سليمان مهندس الكراهية أغنى شخصيات الرواية وأكثرها إثارة على الإطلاق فهي تختزل مشاعر الكراهية حتى تصبح الحامل الأساسي لكل طموح الصعود ومغامرات الارتقاء في سلم المجتمع والسلطة، الذي يدرك امتيازه الطائفي، ويجعل من كراهيته عنوانا لهندسة مغامرات حياته، ولاستيقاظ شعور الضحية في داخله حتى تجاه الرئيس نفسه بعد موته.
تعلمنا رواية “السوريون الأعداء” معنى الدولة المتوحشة التي تحدث عنها الباحث الفرنسي ميشيل سورا في كتابه الفضيحة والفجيعة (سوريا الدولة المتوحشة). إنها الوجع السوري التاريخي الذي دفع السوريون ثمنه سنوات أعمارهم ومستقبل أولادهم والكثير من مستقبل وطنهم..
لقد أبدع فواز حداد في نصه الروائي في رسم الواقع السوري المعاصر حين فكك بنيته، ثم جاء الناقد محمد منصور ليزيد تفكيك الواقع من خلال تحليل بنية الرواية الفنية، وليكون كتابه نصا موازيا لنصها وإضافة فنية زادتها جمالية ومتعة ومعرفة للقارئ السوري خاصة ولعموم القراء في العالم.
_____________________________________________
من مقالات العدد الثامن من مجلة (العربي القديم) شباط/ فبراير 2024