أرشيف المجلة الشهرية

كتاب "تاريخ معرّة النعمان": سرد موسوعي يتقصى الحضارة والعمران وبصمات أبي العلاء

د. فطيم دناور- العربي القديم  

إبّان ما تتعرض له حضارتنا السورية من طمس أو تغيير، وما تتعرض له حواضرنا من تشويه للهوية طال الزرع والنسل والحجر، يصبح من الواجب على أبنائها التصدي لذلك، وتثبيت أوتاد هذه الحضارة بالكلمة والفعل، فمن عجز عن التأريخ والتوثيق يشير لمن قام بذلك، وهو ما دفعني إلى كتابة هذه السطور، ولا شك أن المدينة التي تُوهَب من يخلد اسمها عبر التاريخ هي حاضرة محظوظة، وقد ابتسم الحظ لمعرّة النعمان مرات ومرات بعلمائها وأدبائها رجالاً ونساءً، ومنهم محمد سليم الجنديّ المولود فيها 28-رمضان-1298، والذي وثق تاريخها بتفاصيل تحتاج إلى مؤسسة لجمعها، درس ابن المعرّة البار علوم العربية على أيدي معلمين في السوق، أو في مسجدها الكبير، حتى إذا اشتد عوده عمل في وظائف عدة على امتداد الحكم العثماني والانتداب الفرنسي والحكومة السورية المستقلة.

مدينة يعشقها أبناؤها، ويبرونها

ألّف الجنديّ كتباً ورسائل في العروض، والنحو والأخبار والتراجم… لعل أشهرها كتابنا “تاريخ معرّة النعمان” وهو كتاب موسوعي امتد على ثلاثة أجزاء، خصص الأول منه إلى كتابة تاريخ مدينة المعرّة المدينة قديمه وحديثه، فيما اختص الجزء الثاني بعادات أهالي المدينة، وما يخص منطقة ريفها من زراعة وتعليم وإدارة، وما يضمه من قرى ونواح، ثم تراجم أُسر المعرّة ورجالها، التي لم يتسع لها هذا الجزء، فأتمها المؤلف في جزء ثالث ليكون تراجم خالصة.

وتصدرت الجزء الأول مقدمة للمحقق عمر رضا كحالة، ومقدمة للمؤلف، أعقبها فصل، شرح فيه معنى المعرّة لغةً، ونسبتها إلى النّعمان، والآراء المختلفة في (النّعمان) المقصود، ورأى أن المدينة كانت موجودة قبل الإسلام بعهد بعيد، بل قبل أن ينزلها التنوخيون. وهي مدينة يعشقها أبناؤها، ويبرونها، فيكثرون من ذكرها في أشعارهم، وعلى رأسهم أبو العلاء الذي ذكرها في شعره ونثره.

وبما أنها جزء غائر في قلب الخارطة السورية، دأب الكاتب على تقصّي تاريخ سورية عامة، ثم يقتطع من كل فترة من الفترات ما أسعفته المراجع من أخبار هذه المدينة، بدءاً بفترة ما بعد طوفان “نوح” عليه السلام، حتى كتابة مؤلفه هذا. فاستعرض الأمم التي استولت على سورية وجيوشهم ومعتقداتهم، ووثّق بالأرقام مساحة المدينة وأبوابها وقلعتها، وما تعاقب عليها من الحوادث والنكبات، وبيّن كيف كانت أيادي الغالبين والمتناحرين تتجاذبها، وما تعرضت له من سحق على أيدي المتناحرين على السلطة والطامعين بتوسيع ولاياتهم من ولاة حلب، وحماة، وحمص، بعد ضعف الدولة العباسية واستئثار أمراء المناطق بالحكم، في عهد الدول المتتابعة: الحمدانية والأيوبية والمملوكية…ثم كادت تمحى من الوجود على أيدي الصليبيين، فوقع عليها ما وقع على باقي الحواضر الإسلامية من نهب وقتل وتدمير.

 وعرض الكاتب لدور أبي العلاء المعريّ في حماية مدينته وأهلها، كما في قصة خروجه؛ لتخليصها من حصار صالح بن مرداس صاحب حلب، الذي حاصرها حصاراً كاد يودي بحياة من فيها، حتى خرج إليه أبو العلاء فسرّ الأمير بلقائه، واستنشده بعضاً من شعره، فأنشده المعريّ شعراً طابت به نفسه، وفك الحصار عن المدينة، ووهبها وأهلها لأبي العلاء.

يضاف إلى ذلك ما أصابها من خراب نتيجة الزلازل المتتالية، منها زلزال عام 551هـ الذي توالى على موجات مدمرة للحواضر الشامية كافة، وهي إن نجت من طاعون يعمّ الشام، فإنّها لا تنجو من عسف وظلم أشد من الطاعون.

المعرة في العهد العثماني  

وتدخُل المعرّة كغيرها تحت سلطة العثمانيين، فيعرض المؤلف لهذه الفترة بإدارتها ومنشآتها وحروبها وكوراثها، ويكتب عن عسف الولاة والمتنفذين، وفرضهم من الضرائب ما لا طاقة لأهل المعرّة محدودي الدخل على دفعه، فالمعرّة -بحسب الكاتب- من أكثر البلاد الشامية مصائب ونوائب من الغزاة والمتغلبين والمناهبين، والطبيعة القاسية، وهي أكثرها صبراً على البلاء، وأشدها محاسنة للزمن الجائر، ولما استولت عليها الدولة العثمانية كانت تبيعها بيع السلع للموالين من قبل الحكومة، أو تُعطى لقاء فريضة مقطوعة لمتغلّب.

وأما الحياة العقلية فكانت -كما شهد المؤلف نفسه- أسوأ ما كانت عليه في عصر من العصور، فالحكومة أحدثت مكتباً (رشدياً) يدرّس باللغة التركية، فما تخرج منه أحد بغير الخط -وهو رديء على أية حال- أما كتابة الإنشاء في تلك الحقبة فهي كثيرة اللحن، بعيدة عن اللغة الفصحى الصحيحة، وامتازت الخاصة من العامة بالسجع المتكلّف الطافح باللحن والتحريف. أما مذهبياً فقد ألزمت الدولة قضاة المدينة الإفتاء على مذهب أبي حنيفة، مع أنهم على مذهب الشافعي، وتكثر عندهم طرق الصوفية، تحدث عنها المؤلف بإسهاب.

ويجمع أهل المعرّة بين البدو والحضر في الأخلاق والعادات؛ لتماسهم بالبيئتين، ويمتهنون بعض الصناعات البسيطة التي لم تتطور؛ نتيجة اعتماد أهلها على صناعات حلب وحماة. أما أسلوب أهلها في العمل فهو  موسميّ، يعملون شهوراً محددة، ويجلسون بلا عمل باقي السنة، ما أدى إلى كثرة اجتماع العاطلين، وما يصاحب ذلك من نقد للآخرين، فتعشش الضغينة، وينمو الحسد، ويطمع كلّ في أخذ مكان غيره؛ ولذلك “أصبحت المدينة في أخريات المدن، كما أصبح أهلها في أخريات الناس، من حيث العمران والحضارة والتجارة والصناعة” (1/282)، وبمثل هذه الروح، يذم الكاتب  أهل مدينته ذماً شديداً جرياً وراء منهج أبي العلاء في جلد الناس وفضح مساوئهم، وقد أشار الكاتب إلى أن ما قاله المعريّ في ذم أخلاق الناس يعيد نفسه في هذا العصر (عصر الكاتب).

المعرة تحت الانتداب الفرنسي

ولم يكن وضع المعريّين أفضل مع الغزاة الفرنسيين، وخصوصاً  أن الفرنسيين عرفوا قبل وصولهم المعرّة مدى رفض المعريّين وكرههم لهم، ثم مؤازرتهم للحمويين في المقاومة، أو التمرد على المحتل الجديد، فلما بسط الفرنسيون سلطتهم ساموا المعريّين كباقي السوريين سوء العذاب، من نهب وتقتيل وتشريد.

وقدم المؤلف إحصاءات علمية دقيقة، ثانيةً، عن تخطيط المدينة وشوارعها وأحيائها وبيوتها ومساجدها وأضرحتها، وخاناتها، وتكاياها، وحماماتها، ومقاهيها، وعيونها وأوديتها وكلّ تضاريسها وشؤونها.

مهرجان أبي العلاء في الأربعينات

 كما وقف على مهرجان أبي العلاء المعريّ الذي أقيم في عام 1944م، وشمل دمشق والمعرّة وحلب واللاذقية، وشارك فيه شخصيات سياسية وأدبية من مختلف الأقطار العربية وسورية، بمن فيهم المؤلف نفسه.

واللافت أن المؤلف أشار غير مرة إلى كثرة العميان الذين كانوا يعلمون الصبيان في المكاتب أو الكتاتيب، بل إن أكثر المعلمين كانوا من العميان، لأنهم فقراء ولا رزق لديهم غير هذا الباب، ولعل هذا أيضاً من بصمات أبي العلاء على مدينته، إذ سن للمكفوفين مهنة شريفة من بعده.

أما الجزء الثاني فخصصه للعادات والمواضعات والمواسم، تناولها بكثير من التفصيل، وغير قليل من السخرية اللاذعة، فمثلاً  يصف أوضاع نساء الميت في استقبال المعزيات، فيقول: “فإذا جاءت امرأة أو نسوة، قمن على أقدامهن تكرماً لها أو لهن، ثم يجلسن جميعاً، كأنّما على رؤوسهن الطير، فلا تتكلم واحدة، ولا تسعل، ولا تتنحنح، بل كأنّهن خشبٌ منصوبة، فإذا خرجن من غرفة التعزية، استقبلن طائفةً أخرى من أقرباء الميت، فيرحبن بهن، ويدخلن غرفة يسقين فيها الدخان والقهوة، وتدور بينهن أحاديث فيها من كل وادٍ عصا” (2/18) وعلى هذا المنوال يسير الوصف جنباً إلى جنب مع النقد الساخر.

ثم ينتقل في هذا الجزء إلى إحصاء السكان في القرى والبلدات التابعة للمعرّة إناثاً وذكوراً وجمعاً، ويجوب أراضيها الزراعية بقلم المساح الطبوغرافي، فيسجل المساحات المسقيّة والبعليّة، وكميّات الإنتاج لكل نوع من المزروعات بالأرقام الدقيقة، وخص “أفاميا” بحديث مفصل عن تاريخها العريق.

ثم تناول الأسر المشهورة، متتبعاً نسب كلّ منها، وصولاً إلى جدها الأول، وكيف وصل أفراد منها إلى المعرّة قبل الإسلام أو بعده، مثل قحطان وقضاعة وتنوخ… كلّ ذلك بالاعتماد على ما أثبته المؤرخون والشعراء، وعلماء الآثار، وبمثل ذلك تناول رجالها من ذوي الفضل والعلم مرتبين ترتيباً ألف بائياً، على طريقة كتب التراجم، وحرص على نسبة الاسم إلى قبيلته أو مدينته، مع ذكر لقبه أو كنيته التي اشتهر بها، يعقبه ترجمة مختصرة عن مولده ووفاته، والميدان الذي برع فيه، مع ذكر شيء من أقواله أو أشعاره وهكذا… فيبسط لبعضهم ويجزل لآخرين، بحسب مكانة الشخص، وما وقف عليه الكاتب من إنتاجه العلمي، حتى نهاية الجزء الثاني.

تراجم الرجال وهند بنت النعمان

ويبدو أن الجزء الثاني لم يكفِ رجالات المعرّة، فخصص لهم جزءاً ثالثاً سماه “تتمة تراجم الرجال”، بدأه بحرف الشين حتى الياء، ومنهم هند بنت النعمان التي وقف على شيء من قصتها مع الحجاج، وزواجها بالخليفة عبد الملك بن مروان (3/233).

ولا ينسى الكاتب أنه يؤرخ لمدينته؛ فيشير بين الفينة والأخرى للواقع الحضاري والاجتماعي الذي اتسمت به هذه الفترة، أو تلك في سياق حديثه عن نشأة شخصية يتناولها: كما في  حديثه مثلاً عن الشيخ عثمان زكي اليوسفي المولود سنة 1292هـ، إذ يستطرد إلى الحديث عن أحوال المعرّة في ذلك العهد، فيرى أنها كانت من القرن الثالث إلى السابع تعجّ بالفقهاء، والقرّاء، والمحدّثين، والمؤرّخين، والشّعراء، وغيرهم من رجال العلم في العلوم المختلفة، ثم أخذ هذا العلم يتراجع، ويضمحل في أخريات القرن الثالث عشر، وأوائل الرابع عشر، إبّان الحكم العثمانيّ، حتى انتهى الأمر بأهلها إلى الفقه والنحو، وقليل من المنطق، فإذا وُفق رجل من أهلها لشيء من هذه العلوم، سُمي عالماً، وقبّل الناس يدَه، حتى إذا جاء القرن الرابع عشر الهجري، وليس في المدينة كلّها من يستطيع أن يقرأ سطرين بغير لحن، ما عدا مفتيها، وأمين فتواها.. (3/ 64-65) بهذه الروح التشاؤمية يصف ما آلت إليه أحوال العلم والعلماء في المدينة في تلك الحقبة من تاريخها.

ويلاحظ أن الأسماء طغت عليها نسب “التنوخي المعريّ” ومنهم أبو محمد عبد الله بن سليمان بن محمد بن سليمان بن أحمد بن سليمان التنوخي المعريّ، والد أبي العلاء وغيره كثر، ما يدل على أصالة أهلها وامتداد نسبهم. ويُختم هذا الجزء بقائمة قضاة المعرّة ثم ولاتها.

مآخذ تاريخ معرّة النعمان

ودأب المؤلف على توثيق كلامه بالمراجع التاريخية التي تناولت هذه المنطقة، وسجل لها ثبتاً في نهاية الجزء الثالث، تحت عنوان “مآخذ تاريخ معرّة النعمان”، وكان يؤرخ للأحداث بالسنة الهجرية، وقد يثبت الشهر واليوم، حتى إذا دخل في القرن العشرين راح يؤرخ بالتقويم الميلادي، ولا يفوت القارئ أنه اعتمد اعتماداً كبيراً على الشعر، وما ورد فيه من تاريخ هذه المدينة.

وطبيعي أن ينعكس طابع ذلك العصر في كتابته، من حيث استعمال المصطلحات التي فيها إبدال لبعض الحروف، أو تخفيف بعضها الآخر، أما أسلوبه فهو أقرب إلى السرد منه إلى التأريخ، فكثيراً ما يقطع حديثه عن منطقة، ويبدأ بالحديث عن منطقة جرت فيها  أحداث أثرت على المنطقة الأولى، كما كان يفعل الحكواتيون في ذلك الزمان، ولكن بأسلوب علمي موثق.

ويمكن استخلاص تأثير أبي العلاء على المعرّة وعلمائها من ثلاثة وجوه: الأول إضافتها إليه حتى باتت تعرف به، كما ينسب لها، فيقال: بلد أبي العلاء المعريّ، والثاني: النقمة على الأزمان والنقد اللاذع المصحوب بشحنة تشاؤمية، وأما ثالثها: فهو تصدي مكفوفيها؛ لتعليم  النشء، وتثقيفهم، كما لم تفعل مدينة أخرى.

__________________________________________

من مواد العدد العاشر من (العربي القديم) الخاص بإدلب، نيسان / أبريل 2024

زر الذهاب إلى الأعلى