"فَلّس بنك إنترا؟": مثل شعبي يحكي قصة انهيار أشهر بنك عربي والعنصرية اللبنانية متهمة!
العربي القديم – خاص:
عبارة تحولت إلى مثل شعبي يتداوله الناس في سورية ولبنان، وخصوصاً عندما يمتنع شخص ما عن الدفع، أو سداد ما عليه، أو حتى تقديم المال لزوجته، أو أولاده. عندها يكون الرد: “شو ما معك يعني… فلّس بنك إنترا؟!”.
ولكن ما قصة بنك (إنترا) الذي أسس في لبنان، وكانت له فروع في سوريا والأردن والعراق ودول عديدة أخرى، وصار مضرب المثل في الإفلاس؟! وما قصة مؤسسه الفلسطيني الأصل يوسف بَيْدَس الذي شغل إفلاسه الصحافة والإعلام وأحاديث الناس، ورويت عنه القصص والروايات ونظريات المؤامرة، وما تزال تروى حتى اليوم، لدرجة أن البروفيسور والمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد صاحب كتاب (الاستشراق) اعتبر في مذكراته صعود وانهيار يوسف بيدس “نذير النزاعات اللبنانية- الفلسطينية الرهيبة التي سوف تنفجر في السبعينيات”.
(العربي القديم) تروي تعود إلى التاريخ لتروي لكم الوقائع والتفاصيل، في واحدة من أغرب قصص الاقتصاد والمال، وتاريخ صراعاتها في الوطن العربي!
من شركة صرافة إلى السيطرة على الاقتصاد
بطل قصة بنك إنترا هو يوسف بيدس المولود في القدس عام 1912 لعائلة مسيحية أرثوذكسية، وهو ابن الأديب والمترجم الرائد للأدب الروسي إلى العربية خليل بيدس. بدأ حياته في عالم الاقتصاد، بتأسيس شركة للصرافة في بيروت عام 1948 برأسمال قدره أربعة آلاف دولار أمريكي فقط، وبفضل ذكائه وموهبته نجح في جذب رؤوس الأموال الفلسطينية الهاربة من الجحيم الإسرائيلي، كما استطاع بعد ذلك جذب رؤوس أموال سورية وخليجية، وبدأ يتوسع، ويقفز من نجاح إلى آخر، حتى تمكّن بعد عامين فقط من تأسيس بنك (إنترا) الذي انطلق في بيروت عام 1950 برأسمال قدره (12) مليون ليرة لبنانية، لكن سرعان ما نما وتوسع، ليغدو واحداً من أضخم البنوك في لبنان، والشرق الأوسط، وليصبح رأسماله عام 1965 (250) مليون ليرة لبنانية، حين كان سعر صرف الدولار أمام الليرة البنانية لا يتجاوز الليرتين ونصف الليرة.
وهكذا، وخلال أقل من 15 عاماً من عمره غدا بنك إنترا مسيطراً على:
- 50% في المئة من الودائع في لبنان.
- شركة طيران الشرق الأوسط
- كازينو لبنان
- جمعية فنادق لبنان الكبرى (التي كانت تدير فندق فينيسيا).
- امتلك أسهماً في الشركة التي حصلت على امتياز لمدة ٣٠ عاماً، لتشغيل مرفأ بيروت.
- شركات عدة في قطاع الترفيه، وقطاع المرئي والمسموع، وأبرزها ستوديو بعلبك.
- ثلث أعضاء البرلمان اللبناني كانت لديهم حسابات في إنترا
أمّا خارج لبنان، فكان لإنترا فروع في سوريا، والعراق والأردن، وإمارات الخليج التي لم يكن معظمها قد استقل بعد، والبرازيل، وليبيريا ونيجيريا، وامتلك عقارات في جنيف، وباريس، واشترى ناطحة سحاب في مركز روكفلر في الجادة الخامسة في مدينة نيويورك، ورفع العلم اللبناني، وأطلق عليها اسم بيت لبنان، آملاً بأن تصبح مركزاً يستقطب التجارة، والتبادل التجاري إلى لبنان. كما كان لدى إنترا استثمارات أجنبية ضخمة، من بينها الشركة التي تدير ثاني أكبر حوض سفن في مرسيليا بفرنسا، والأهم أنه كان من بين دائنيه حكومات الكويت، وقطر والولايات المتحدة (ممثلة بمؤسسة ائتمان السلع التابعة للحكومة الأمريكية، التي قدمت قرضاً للبنك، لشراء القمح لإهراءات مرفأ بيروت).
كيف أفلس البنك؟
تتعدد الروايات حول عملية إفلاس البنك، وتقول إحدى الروايات:
” أثناء وجود يوسف بيدس في أوروبا، انتشرت شائعات عن إفلاس البنك، وهرب مؤسسه، ورئيس مجلس إدارته خارج لبنان، فتدافع صغار المُودِعين، للحصول على أموالهم، وتجمعوا في طوابير طويلة، فأمر بيدس إدارته في بيروت، بدفع أموال المودعين، دون أي تأخير، وبعد نفاد الأوراق النقدية من البنك، رفض البنك المركزي اللبناني إمداده بالأوراق النقدية، لدفع الودائع لأصحابها، رغم أنه قدم مقابل ذلك كفالات عينية عبارة عن أملاك، وشركات يمتلكها البنك حول العالم، وأهمها شركة صناعة المراكب الكبرى في مرسيليا. ووضعت الدولة اللبنانية يدها على البنك، وعندما قدم بيدس للمحاكمة، ثبت تجاوز ممتلكات البنك عن مستحقاته، ولكن “المؤامرة الصهيونية”، ضد البنك الذي كان أشبه بوزارة مالية للثورة الفلسطينية التي كانت قد أطلقت العمل الفدائي عام 1965 كانت قد أحكمت خيوطها”.
وبعيداً عن نظرية المؤامرة، ومدى صحة الرواية، يمكننا أن نقرأ ما كتبه اثنان من الكتاب المعروفين، هذا العام عن قضية بنك إنترا التي لم تزل بعد أكثر من 55 سنة، تحظى باهتمام الصحافة، والقراء، والباحثين على حد سواء.
فقد كتب الروائي اللبناني إلياس خوري في (القدس العربي) في التاسع والعشرين من أيار/مايو الماضي، في مقال له بعنوان (انتقام يوسف بيدس)، كتب يقول مشيراً إلى عنصرية اللبنانيين، ضد مؤسس البنك الفلسطيني:
“تهاوى بنك إنترا، كنتيجة مباشرة، لرفع أسعار الفائدة الأمريكية والأوروبية، ما أدى إلى سحوبات هائلة في ودائع البترو دولار. الطغمة السياسية اللبنانية التي لم يكن في مقدورها تحمّل وجود مصرف لبناني بحجم إنترا، له امتدادات في العالم بأسره، انقضّت على البنك، بهدف الانتقام بفجاجة ودونية من يوسف بيدس المقدسي الذي لجأ إلى بيروت بعد النكبة، وأسس أهم مصرف في تاريخ لبنان. تعالوا نتخيل المشهد: شاب متوقد الذكاء، بنى إمبراطوريته من مكتب صغير برأسمال أربعة آلاف دولار أمريكي، وبدأ يقفز إلى الأعلى، ولم يتوقف، أو يرتدع، أو يخاف. رأسماله الأكبر كان جنون الذكاء الذي جعله يبني إمبراطورية لا سابق لها، ولم يستطع أن يرثها أحد، عمل في إطار الفوضى الاقتصادية اللبنانية في الخمسينيات، وهو إطار مريح لكنه مخادع، لكن مشكلته أنه لم يكن لصاً كغيره، ولم يستطع التأقلم مع أجواء المافيات اللبنانية المتشبعة بالطائفية، وبعنصرية فجة، ولم يندمج في مناخات جمهورية التجار والإقطاعيين الذين أصيبوا بالرعب، أمام ذكاء برّي لم يستطع أحد تدجينه، فقرروا استغلال أزمة إنترا المستجدة، من أجل الإطاحة بالرجل، ووضع الاقتصاد اللبناني بأسره أمام الهاوية”.
ويضيف إلياس خوري في موضع آخر:
” قيل الكثير عن مغامرات بيدس، وعن رعب جمهورية التجار، من استيلاء إنترا على مفاتيح اقتصاد الخدمات اللبناني: شركة طيران الشرق الأوسط، كازينو لبنان، فندق فينيسيا، ستوديو بعلبك، راديو أوريان، شركة مرفأ بيروت، وإلى آخره، غير أن إسقاط إنترا بخبث وتشفٍ لم يكن يدل، سوى على انحطاط طبقة اللصوص، التي سيتخذ انحطاطها بعداً يفوق الخيال، في زمن إفلاس كل شيء اليوم”.
أما الكاتب حمزة العليان، فيكتب في صحيفة (الجريدة) الكويتية، بتاريخ السابع والعشرين من أيلول الجاري، قائلاً:
” صورة المودعين أمام “بنك إنترا” عام 1966 لا تغيب عن عينيّ، فقد شاهدتها، ووقفت أتطلع مذهولاً، وأنا أسأل بعض المارة، ماذا حصل؟ استطاع بيدس أن يحول “إنترا” إلى بنك عالمي، واستقطب أموالاً خليجية هائلة، وتوسعت استثماراته في لبنان والعالم (…) وتحول إلى قطب دولي في عالم المال، وامتلك سلطة مطلقة، باتخاذ القرارات الكبرى، دون الرجوع إلى أحد، ودون العودة إلى مجلس الإدارة، وكانت هذه الخطوة أول الأخطاء المميتة، وبداية الانهيار، حتى قيل إن بيدس هو “إنترا” و “إنترا” هو بيدس، فهو مغامر إلى حد التهور، بل كان أشبه بفرقة تعمل على يد رجل واحد، يأمر فتُنفذ أوامره، وكان بإمكانه إغواء أي شخصية مهما علا شأنها، وجلب لنفسه النقمة والحسد، وتعرض إلى حروب، بسبب أصوله الفلسطينية، بالرغم من نيله الجنسية اللبنانية، وتضخم حجم بنك إنترا، وكان يعمل لديه 30 ألف موظف، و15 ألف متعاقد خارج لبنان. ثاني الأخطاء المميتة التي ارتكبها تقديم قروض بملايين الدولارات إلى أعضاء في مجلس الإدارة وأصدقائه، دون ضمانات فعلية، وكان يتبجح بسطوته ونفوذه على الطبقة السياسية، لدرجة أن السياسة اللبنانية صارت تدور في فلك إنترا”.
رحل يوسف بيدس وحيداً، بعد أقل من عامين على إفلاس بنك إنترا، في الثامن والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1968، وهو لم يتجاوز السادسة والخمسين عاما، ودفن في قبر مجهول في مقبرة جنيف في سويسرا حاملاً معه الكثير من الأسرار التي لم يبح بها، وتاركاً الاقتصاد اللبناني يخطو أولى خطواته، نحو الهاوية، حسب رأي النائب والوزير اللبناني السابق، نجيب علم الدين أول رئيس لمجلس إدارة “شركة طيران الشرق الأوسط” الذي قال: “أنا متأكد من أن سقوط بنك إنترا كان بداية انهيار لبنان ونظامه السياسي. لقد حكمت لبنان حكومات فاسدة، بدون أخلاق أصابت لبنان بداء قاتل منذ الاستقلال، وأخيراً رمت البلاد في أتون حرب أهلية عام1975، أدت إلى خسارة وجودها كدولة مستقلة”.