إطلالة سريعة على قضايا نقاشية مزمنة
بقلم: خالد نعمة
عندما كاتبني الأخ والصديق (محمد منصور) رئيس تحرير (العربي القديم)؛ من أجل المشاركة في ملف عن الراحل (رياض الترك)، ضمن إصدار خاص بهذه الشخصية العامة الإشكالية، فإنه وضعني أمام تحدٍّ جِدّي، يتطلب مني النكش في الماضي البعيد نسبياً، والإضاءة على قضايا لا تعرفها العامة، وعلم بها أساساً قلة من الخواص وعلى أضيق نطاق.
ولأن المادة المطلوبة للملف مقيدة الحجم مبدئياً، فإن الاستفاضة فيها لن تكون ممكنة، ولا الإحاطة كذلك بمختلف جوانب الراحل رياض ومواقفه، ناهيك عن مناقشتها من مختلف نواحيها وتداعياتها حزبياً وسياسياً، وعلى نطاق البلد بأكمله.
في مادتي هذه، سأتناول أول الأمر محضراً من ثمانين صفحة، مدوَّناً بخط (دانيال نعمة)، لاجتماع لجنة الحزب الشيوعي السوري المركزية المنعقد، على مدى ثلاثة أيام بتاريخ 20-22 كانون الثاني من عام 1972، وذلك قبيل حدوث الانقسام الأول الشاقولي في حزب الشيوعيين السوريين؛ نتيجة لإصدار (خالد بكداش) وجماعته آنذاك بيانهم التقسيمي، بتاريخ الثالث من نيسان في ذلك العام، الذي كان مدمراً بكل معنى الكلمة، ليس فقط على صعيد هذا الحزب اليساري، بل عموماً بالنسبة لمجمل الحياة السياسية في سورية.
تضمّن جدول عمل الاجتماع المذكور ثلاث قضايا، وهي:
– انتخاب الإدارة المحلية، وقد ألقى (يوسف الفيصل) تقريراً بهذا الخصوص، وجرت مناقشة هذه المسألة في اليوم الأول من الاجتماع، وقد ناقش أعضاء المركزية هذا التقرير، وأعطَوا آراءهم بهذه التجربة الجديدة التي سيخوض السوريون غمارها، وكان بين الذين أعطَوا رأياً (أبو هشام)، وهو اللقب الذي كان يُنادى به رياض داخل حزبه، وقد لخّص دانيال رأي أبي هشام في محضره على النحو الآتي:
(ملاحظة – ستشكل الدولة لجنة؛ لتسمية المرشحين، ويمكن لهذه اللجنة أن تلعب أما دوراً سلبياً، أو دوراً إيجابياً، لذلك سيكون مفيداً أن يتمثل أصدقاؤنا، أو رفاقنا في هذه اللجنة.
القضية الرئيسة هي: كيف سيكون سلوك البعث، خلال قيادته لهذه المعركة الانتخابية، وأنا موافق على مبدأ التحريك من فوق ومن تحت؛ لأنه إذا اقتصر الأمر على التحريك من تحت فقط، فإنه يمكن ألا يكون مفهوماً.
التقرير طرح الخط العام، لكنه لم يستطع أن يستقرئ ما سوف يكون في المستقبل.
الانتخابات ينبغي أن تساعد على تقوية نفوذنا، وحتى على تحسين تركيبة حزبنا الطبقية بتقديم العمال وغيرهم، ولا أقصد إهمال الكفاءات.
ومن المفيد أن تصدر رسالة عن المركزية في هذا الموضوع، بالإضافة إلى البيان).
ثم تداخل رياض مرة ثانية حول هذا الموضوع، وقال:
(لست موافقاً على الفكرة التي وضعها أبو خلدون في العلاقات مع القوى الأخرى، فالوضع في الحزب هو الذي أملى مثل هذه السياسة.
الرجعية ستخوض المعركة الانتخابية، فهل ستكون مستترة بالقوى الموجودة، وليس فقط بالبعث، أم إنها ستنزل بوجهها المستقل؟ عندي شك في ذلك، ومن الضروري الإشارة إلى هذا).
جرت هذه الانتخابات، عشية الفترة التي كان يجري فيها حوار بين الأحزاب المحسوبة على اليسار السوري آنذاك؛ لتشكيل جبهة وطنية تقدمية، وكما يرى القارئ، فإن رياضاً بادئ ذي بدء لم يكن ضد فكرة هذه الجبهة، ولا ضد قيادة البعث لها، وإنما كان أحد محاور اهتمامه هو كيف يمكن تقوية نفوذ الشيوعيين، من خلال التحرك على مستوى القيادات والقواعد، وكذلك كيف ستناور الرجعية السورية انتخابياً.
– اللقاء العربي وصياغة الخط السياسي، كان هذا موضوع اليوم الثاني من الاجتماع لصياغة مداخلة الحزب في اللقاء، وكان المُقرِّر لهذا اليوم (ظهير عبد الصمد)، وكان لرياض أيضاً مداخلة على هذا الموضوع، وقد جاء فيها:
(إنه لا بد من إبراز أهمية اللقاء في هذه الظروف، والتأكيد على أهمية هذه اللقاءات، خصوصاً أنه تتوطد الآن العلاقات بين الحركة الشيوعية والقوى التقدمية، لكن هناك قضية هامة، وهي ظاهرة الانشقاق داخل القومية، وعدواها التي تسري إلى الحركة الشيوعية.
اللقاء مناسبة لتوطيد صفوف الحركة الشيوعية، ورصها وإبراز دورها.
التوجيه بأهمية مؤتمر الحزب الشيوعي اللبناني، والتركيز خصوصاً على النداء الصادر عن مؤتمر الأحزاب والقوى، وأن يكون هذا نقطة في جدول العمل.
هناك أشياء لا بد من التطرق إليها، مثلاً موضوع الأنصار، فقد تصدر بعض الأصوات بالدعوة إلى حلها، ولأسباب مختلفة من المفيد أن نتمسك بموقف ضد الحل، ويمكن أن يجري التوجه إلى طلب المساعدة من المعسكر الاشتراكي كبضائع… ربما تطلب أحزاب المغرب تفصيلات.
التقرير لم يقف عند عمل الفدائيين، وهذا نقطة ضعف، فمن المهم أن يبرز العمل الفدائي.
هناك محاولات تتكرر في أماكن أخرى، والحلقة الرئيسية هي إيجاد الصيغ لوحدتها… يجب وضع رأينا في المسألة، ويجب الوقوف عند ضرورة رفع القدرة القتالية.
ومع الانتقادات لمواقف السادات التي اتجهت خلال هذه الفترة، فإنه ينبغي إبرازها على أنها صراع داخلي في مصر.
ويمكن التطرق إلى وضع السودان، إذ ربما يجري الحديث عن موقفهم، ووفدنا برأيي ينبغي ألا يأخذ موقفاً، إلا إذا تحدثوا هم عن مواقفهم.
في الوضع الداخلي، فإننا إذا استعرضنا وضعنا مع البعث، فسنرى أنه انتقل من الهجوم إلى سلبي وإيجابي، ثم إلى إيجابي فقط. لم نوفق إلى الآن في التوفيق بين الأسس الثلاثة: وجه الحزب المستقل، والتعاون، والدفاع عن مطالب الناس.
نحن غير جريئين، ربما… وربما تُفسّر بأننا غير راغبين في التعاون.
أنا أقول هناك عبادة فرد… للأسد… يريدون فرضها… هل نحن معها؟ ينبغي انتقادها.
موضوع الهجمة معالجته ضعيفة.
هناك قرار برسالة سياسية لم تُنفَذ.
يمكن استخلاص رسالة من هذا النقاش.
في العادة كان الرفاق يتحدثون عن المناطق).
وكما يرى القارئ أيضاً، ففي مداخلة أبي هاشم، خلال اليوم الثاني من الاجتماع المذكور، هناك قضيتان هامتان للغاية ينبغي التوقف عندهما، وهما: مسألة العمل الفدائي في (منظمة الأنصار) التي كان دانيال نعمة، ومعه رياض الترك المسؤولين السوريين عنها، من طرف الحزب الشيوعي السوري، مع غيرهما من مسؤوليها الشيوعيين العرب، وهو هنا كان واضحاً في معارضته لمحاولات تصفيتها وحلها، بل كان يطالب بتعزيزها، ورفع مقدرتها القتالية؛ عن طريق طلب المساعدات لها من منظومة الدول الاشتراكية. والمسألة الثانية التي تُحسَب في ميزان مواقفه المتقدمة، هي تنبهه المبكر إلى (ظاهرة عبادة الفرد) في شخص (حافظ الأسد)، ومحاولات فرضها على المجتمع السوري، وهو ما حصل في وقت لاحق، دون أن يتخذ حزب الشيوعيين السوريين ما ينبغي سياسياً، وتنظيمياً وجماهيرياً للتصدي لها، ومقاومتها وصولاً إلى دحرها.
– توصيات المجلس الوطني، كانت هي موضوع نقاشات اليوم الثالث، وكان المجلس قد انعقد نهاية عام 1971؛ لبحث الأزمة التنظيمية، والسياسية العاصفة بالحزب الشيوعي آنذاك، والمنذرة بما لا تُحمَد عقباه. وقد داخل أبو هشام أكثر من مرة حول هذه المسألة، وقد جاء في ثانيتها الآتي:
(بعض الملاحظات على مناقشات المكتب السياسي:
أولاً- ينبغي إرسال رسالة تؤكد أن اللجنة المركزية قد أقرت بالإجماع توصيات المجلس الوطني، وذلك لتوطيد الالتزام، وينبغي أخذ القرار ككل وتطبيق جميع بنوده…
النقطة الثانية واضحة، وهي حل التكتلات وشجبها والالتزام بذلك دون شروط.
ينبغي خلق جو مناسب لمتابعة النقاش، إذ يوجد رفاق خارج التنظيم، ولا يوجد أي مبرر لبقائهم خارجه…
الخلاف فكري وسياسي وتنظيمي، والفكري جرت مناقشات واسعة بشأنه، أما في التنظيم، فلم يجرِ شيء، وأقترح أن يُحدَد موعدٌ لعقد اجتماع للأمور التنظيمية).
وفي ثالث مداخلاته لذلك اليوم، قال:
(ما أعطيناه للصحف اللبنانية يكتظ بروح الرد على الحياة…
نشاط الصحافة اللبنانية سيستمر، ولذلك، فقضية أخذ موقف حازم ضد الصحافة اللبنانية ضروري جداً، إذ ليس صعباً على الصحافة اللبنانية أن تحصل على معلومات وافية، وأنا موافق على تكذيب هذه الصحف).
وهنا ينبغي الوقوف ملياً عند نقطته الثانية، أي حل التكتلات وشجبها، فما أعلنه رياض بهذا الخصوص لم يلتزم به في ما بعد، بل مضى في تكوين كتلته الخاصة، في إطار ما سُمي آنذاك (جناح المكتب السياسي)، وضرب عرض الحائط باتفاقية إعادة توحيد جناحَي الحزب، وعقد مؤتمره الرابع المنفصل في خريف العام 1973، وحتى بمعزل عن مجموعة وازنة من رفاقه في هذا الجناح من الذين كانوا يعملون بروح مبدئية؛ لإعادة اللُّحمة إلى صفوف حزبهم الممزقة.
والشيء الآخر الواجب الإشارة إليه، هو صحة ما تطرق إليه، من أن القضية التنظيمية التي كانت في أس خلاف الشيوعيين لم يجرِ بحثها، لا بتفصيل، ولا دونه، لا في الحزب غير المنقسم، ولا في الأجنحة المنبثقة عنه في ما بعد.
والقضية الثالثة اللافتة للانتباه في مداخلته الأخيرة لذلك اليوم، هي موقفه السلبي من الصحافة، واستعداده لتكذيبها، حتى لو كان ما تورده حقيقة، فهو يقر بنفسه، أنه بمقدورها الحصول على معلومات وافية متى شاءت، فالحزب لم تعد فيه حصون تمنع تسرب ما هو معدود بين الأسرار.
أمام رياض الترك، تلك الشخصية السياسية التي اكتسبت سمعتها من ظروف صراع سياسية، حزبية داخلية معقدة، ومن ظروف أشد صعوبة في التعامل، مع نظام ديكتاتوري دموي الممارسة، فاشي النزعة، حتى لو كان يتغطّى بشعارات الحرية، والاشتراكية والوحدة والتقدم، ظروف لم يُحسن التعامل معها، ولم يستطع خلالها أن يجد الطريق الأنسب للخروج من الأزمة العاصفة، والصدام الحتمي بأقل الخسائر الممكنة، فإنه لا بد أن ينحني له؛ تقديراً لصموده البطولي، أمام آلة القهر السلطوية، حتى صار نموذجاً يُضرَب به المثل، وفي هذا المجال، فإنني سأستشهد بمقطع من رسالته الموجهة إلى الأمين العام لمنظمة العفو الدولية، بتاريخ العاشر من تموز لعام 1998، إثر إطلاق سراحه، وبعد أن أمضى أكثر من سبعة عشر عاماً متصلة في سجن انفرادي في عهد الأسد الأب، وهو المقطع الذي يُظهر ما الذي صنع مادة صموده، إذ كتب:
(رغم العزلة التي فرضت عليَّ، ووحشة السجن الانفرادي، والمعاناة النفسية والصحية التي تعرضت لها، ورغم انقطاعي القسري الطويل عن الأهل والأصدقاء، وعن العالم الخارجي، فإن اليأس لم يتسرّب إلى نفسي، لأنني كنت أدرك أن هناك قوى وأحزاباً ديمقراطية سورية، ومؤسسات إنسانية عالمية ستتولى الدفاع عن حريات السوريين العامة والشخصية، وحريات معتقلي الرأي والضمير في سورية، وما الإفراجات الأخيرة عن السجناء غير ثمرة طيبة من ثمار جهود هذه القوى والمؤسسات).
نعم، أصاب رياض في هذه، فأن يشعر المرء بأن قوى مجتمعية داخلية وخارجية خيّرة تقف وراءه، وتسنده، وتدافع عنه، ولا تنساه مهما طالت مدة تغييبه، هي أكبر معين على الصمود في ظل أبشع ظروف الاعتقال، والاضطهاد والقمع والتنكيل.
غاب رياض الترك جسداً، وبقيت سيرته ليتناقلها الناس، وليخوضوا فيها بحثاً وتنقيباً، ذماً وتقريظاً، وليلقوا الضوء على ما فيها من إيجابي الجانب وسلبيه، سيرة تمتد بين مولده ووفاته، وما رافقها من ثمين الفعل السياسي وغثّه، ومن محاولات وعثرات، وأخطاء حزبية وشخصية. ليس للإنسان إلا ما سعى، وليس له من السمعة إلا ما كان.
________________________
من مقالات العدد التاسع من مجلة (العربي القديم) الصادر عن شهر آذار/ مارس 2024