أرشيف المجلة الشهرية

حماة.. ما الذي يربطنا بها؟

العربي القديم – أحمد فاخوري

لطالما حاولت دحض الفكرة التي  تقدّس مسقط الرأس، وتلبسه الثوب الرومنسي المعروف في الأشعار والروايات، وقصص الأدباء. فأحاول دائماً أن أضع الأمر في سياقه، فهو ليس أكثر من مصادفة جغرافية جعلتك تنشأ في بقعة من الأرض، أو تنتمي إليها بغير إرادتك. 

ولدتُ في مدينة حماة السورية، لعائلة متجذرة تاريخياً في أحد أحيائها القديمة / سوق الشجرة / لم أرَ بيت جدي، ولا المسجد الذي كان بجواره، فالحي تم تدميره بالقصف المدفعي في أحداث عام ١٩٨٢.. ولم يبق منه الكثير، مع ذلك كان والدي، كلّما مر بالحي، يشير لنا إلى مكان البيت الذي ولد، ونشأ فيه، وإلى المسجد الذي كان بجواره، وإلى دكان جدي الذي مازال قائماً حينها  .. والدي كان يحرص على اتصالنا بالجذور، يحرص على ربطنا بالمكان، حتى ولو بالخيال. يريد لنا أن ننتمي إلى الناس الذين يعيشون في تلك البقعة من البلاد!

لكن لماذا ؟ ما الذي يربطنا كأبناء مدينة ببعضنا.. هل صحيح ما قاله الدكتور وجيه البارودي: 

“فنحن من نبعة في الأصل واحدة.. ظلت تميزنا عن سائر المدنِ”، ما الذي يميزنا عن سائر المدن؟ 

فطعامنا هو المطبخ الشامي، والحلبي المعروف، لهجتنا تختلف من حارة لأخرى، وبين الحاضر، والسوق، هل نحن الوحيدون الذين نشرب ماء العاصي؟ لا، طبعاً. فمقاتلو حزب الله في لبنان يشربونه من نبعه الهرمل، قبل أن يصل إلينا .

لم يكن العاصي ذلك النهر العظيم كنهر النيل، أو الدانوب، وقد شهدته بفيضانه، وجفافه، وتلوثه، ورائحته، ولم يكن يوماً في أحسن حالاته في مدينتي.

أم تراها النواعير؟ هل هي الرابط بيننا، أهي التحفة الجمالية الفريدة الإتقان، وتصدر هذا الصوت المزعج؟ لماذا نحن مغرَمون بها؟ 

كنا نجتمع في مقهىً تاريخي معروف، عند ناعورة (الجسرية), اسمه نادي المدينة، وكان يسمّى مقصف الغزالة، في خمسينيات القرن الماضي، ويجتمع فيه كبار شخصيات المدينة، من تجار، وأدباء، ومثقفين يومياً في المساء؛ ليستمعوا إلى إذاعة لندن بي بي سي، وحفلة أم كلثوم يوم الخميس، وكان مكان جدي المفضل. 

وفي أيامي هو مكان المثقفين، وكبار الأساتذة المهتمين بالشعر، والأدب والقصة.. لشرب الشاي، والقهوة والأركيلة بأسعار معقولة جداً.

كنت في العشرين من عمري، مع أصدقاء المدرسة، وكان يجلس معنا شخص مسن عجوز متقاعد هو الأستاذ أبو عبدو، وهو أستاذ لغة عربية، وأديب، وكان مدير إحدى أكبر الثانويات في المدينة، كهل سبعيني ذو حضور جذاب، وصوت رخيم، وحديث متوازن، وشخصية قوية.  في أثناء حديثه نظر إلى الناعورة التي كانت متوقفة، ثم سكت فجأة، أخذ نفساً من الشيشة ونفخه، ثم نادى حفيده، وكان يلعب في الحديقة. وقال له: الله يرضى عليك يا جدو نط دورلنا هالناعورة كم دورة خلينا ننطرب، يالله يا نمر…!

 كيف يمكن لطفل أن يفعل هذا؟! الأمر مرعب.

فقفز الصبي راكضاً، نحو الناعورة المخيفة، وبدأ بتدويرها، ووصل صوت أنينها المعروف. نظرت إلى الأستاذ أبو عبدو، فإذا به قد أغمض عينيه، وعلى وجهه علامات السعادة والرضى، وصمت لمدة دقيقتين،

ثم فتح عينيه، وطلب منا أن ننادي على الصبي الذي خاطر بسلامته؛ من أجل هذه الدقيقتين.

بعد عشر سنوات من الهجرة القسرية من بلدي، ومدينتي الجميلة. أصبحت أتلقف كل شيء عن مدينتي بحنين شديد. وأجمل هدية وصلتني في سنوات غربتي كانت مجموعة من الكتب من تأليف صديق والدي الكاتب، والباحث، والشاعر، والمؤرخ الحموي الأستاذ محمد عدنان قيطاز رحمه الله. وكلها من أجمل ما قرأت عن تاريخ هذه المدينة الرائعة، وعن تراثها وشخصياتها ونضالها وعراقتها.. ومع الكتب ناعورة خشبية صغيرة وضعتها في بيتي في لندن.

أعود بكم للسؤال الأول: ما الذي يربطنا ببعضنا كحمويين؟

إنها القصة.. كلنا لدينا قصة مشتركة نعرفها جيداً، نراها في مناماتنا، نتداولها في مجالسنا، تسكن في وجداننا، ونقرؤها في وجوه بعضنا، بأننا ننتمي إلى هذه المدينة التي يستحق أهلها حياة أفضل، من التي عاشوها، وما زالوا يعيشونها، تحت سلطة هذه الجماعة الحاكمة لبلادنا.

_____________________________________________

 من مقالات العدد الثامن من مجلة (العربي القديم) شباط/ فبراير 2024

زر الذهاب إلى الأعلى