الرأي العام

مقامات أمريكية | ارفع راسك فوق

عندما نتابع الأخبار العامة ونتصفح السوشيال ميديا، نظن أن الفوضى سائدة، والأمن غائب، والتجاوزات منتشرة، والسلع مفقودة، والحوادث ليست فردية

يكتبها: د. حسام عتال

في دراسة أجراها قسم العلوم الاجتماعية في إحدى الجامعات الأمريكية، استُفْتيَ مجموعة من المواطنين عن حال النظام التعليمي (ما قبل الجامعي) في الولايات المتحدة.  أجمع المُشاركون  أن النظام التعليمي سيئ  جداً: أولادنا متخلفون بأشواط عن بقية العالم، لقد سبقنا الصينيون واليابانيون والأوروبيون في كل النواحي من الرياضيات حتى اللغات، ومن الجغرافيا حتى الفنون. إنها كارثة حقيقية، وضعنا مزري، ولن نستطيع البقاء كقوة عظمى مع نظام تعليمي كهذا. 

 ثم استُفْتيَت نفس المجموعة عن النظام التعليمي في ولايتهم التي يقطنون فيها، فاختلاف الجواب قليلاً، أصبح أقل سلبية: ولايتنا أفضل من غيرها، فنحن أفضل من بقية الولايات في مجال التعليم، ولكن نعاني من بعض الهفوات والنقائص.

 وعندما استُفْتيَت نفس المجموعة مرة ثالثة عن نظام التعليم في في المقاطعة (أو المدينة) الخاصة بهم، مالت الأجوبة نحو الإيجابية: في الواقع مقاطعتنا/ مدينتنا تقوم بعمل جيد في مجال التعليم، هناك جهد واضح من المسؤولين، وهم في مسار سليم. هناك مجال للتطوير، لكننا نحن أساساً اخترنا العيش في هذه المقاطعة بسبب سمعة مدارسها الجيدة.  

أخيراً، عندما استُفْتيَت نفس المجموعة مرة أخيرة عن نظام التعليم في المدرسة التي يرتادها أولادهم، كانت أجوبتهم إيجابية، دون تردد: مدرستنا ممتازة  جداً، الإدارة فعالة ومستجيبة، والمدرسون متمكنون من موادهم ويعطون الطلاب جل اهتمامهم، أولادنا يتعلمون تعليماً ممتازاً وينافسون غيرهم بجدارة ونجاح عندما يذهبون للخارج في مسابقات أو ندوات.

‏وبنفس الشكل نرى ترتيب صور الوضع في سوريا. فعندما نتابع الأخبار العامة ونتصفح السوشيال ميديا، نظن أن الفوضى سائدة، والأمن غائب، والتجاوزات منتشرة، والسلع مفقودة، والحوادث ليست فردية بل تصيب القاصي والداني، والرصاص ينهمر على كل ماشٍ على الرصيف. لكننا إذا استخبرنا عن مدينة أو بلدة ما، نجد أن فيها بدايات أنشطة مدنية ملحوظة لم نعهدها سابقاً: نجدها في نوادي الرياضة، وأفواج الكشافة، والمنتديات الأدبية، والمشافي الخيرية، والمقاهي، وغيرها من مؤسسات المجتمع.

وإذا دققنا في الصوة بعدسة أكبر، نجد تفاعلاً حقيقياً يتمثل في عودة التعاون بين الجيران بعد نضوب، واستئناف في العلاقات الأسرية بعد انقطاع، ومتابعة جديدة للصداقات قديمة بعد جفاء، وانفتاح في النقاشات وتبادل حر في الأفكار بعد استكانة وانكسار وخوف (أسعدني مثلاً إنشاء مجموعة واتساپ من طلاب دفعتنا في كلية الطب، وهي تقوم بعمل رائع في إعادة التواصل بين زملاء لم نسمع عنهم منذ سنين). وعندما نتصل بأشخاص معينين ونسألهم عن أحوالهم الخاصة، وعن حياتهم اليومية، وقتها نسمع نغمة جديدة في أصواتهم فرحة وبهجة، ونلمس لديهم انفتاحاً وإشراقاً غاب عن خيالنا حتى ظننا أننا نسيناه: يقولون لنا أن أحوالهم جيدة بالعموم، أو على الأقل أنها أفضل بكثير مما قبل، وأنهم يشعرون بحرية وأمان (حتى أن البعض يترك أخته تخرج من البيت في بعد منتصف الليل دون أن يخشى عليها… تخيلوا!). هؤلاء نفسهم الذين لم نكن نسمع منهم سابقاً، اللهم إلا مشاركة خجولة على فيسبوك بصورة لباقة ورد هنا، أو كفين ارتفعا بدعاء قنوت هناك، أو عبارة محايدة تبدي عن الريبة والشك والتستر أكثر مما تنبئ عن مشاعر كاتبها الحقيقية.

‏لذلك من المهم في هذه الفترة الانتقالية الحفاظ على منظور واقعي لما يحدث ويحصل، قائم على الاتصال المباشر الشخصي، ليس فقط بمن نحبهم ونهتم بهم، ولكن غيرهم أيضاً ممكن اختلفنا معهم وعارضناهم في السابق. علينا التحري عن أخبارهم، والسؤال عن أحوالهم، وسماع قصصهم اليومية الكبيرة منها والصغيرة: أين يذهبون مساءً، ماذا يأكلون ويشربون، من تزوج ومن طلّق، ومن ولدت له بنتاً جميلة (الصورة هنا تعبر ألف مرة أكثر من الكلمات)، من نجح في البكالوريا، ومن دخل الجامعة؟ من تخاصم مع من (نميمة المساء كما يقول صديقنا ميخائيل سعد)، ولماذا؟ وهل هناك من يحاول الصلح بينهما؟ وأن لم يكن هناك من يصلح، يجب أن نتبرع أن نكون ذلك الشخص المحايد، فاعل الخير، ولو من بعد.

هذا أفضل بكثير من المتابعة العُصابية على الشاشات لفيديو بعد آخر، الله وحده يعلم من وضعه ولماذا.  كلها، إلا ما رحم ربي، مُصممة لإثارة أدنى الغرائز فينا، وتجييش عواطفنا، وخلق نعرات طائفية مقيتة بيننا.  وهذا أجدى، بل وأصدق، من سماع تحليلات وتفسيرات وتوقعات ما يسمى بالخبراء عن الأوضاع في البلد، تحليلات ما أنزل الله بها من سلطان، لا ندري ماهي دوافع أو غايات من أتحفنا بها.  وإن لم نعمل ذلك فعلينا ألا نلوم سوى أنفسنا لأننا نكون قد سلّمنا فكرنا وخواطرنا وهواجسنا لمن لا يريد مصلحة لنا، وأعطيناهم الفرصة أن يكتبوا عن أحلامنا ويرووا قصصنا بما هو مخالف لما نؤمن به ونحبه ونعتز به… أولئك الذين لا يحتملون سماع صوت شعارنا القديم/الجديد: ارفع راسك فوق، أنت سوري حر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى