الرأي العام

تفاصيل سورية | كيف شوه البعث سمعة النخب التاريخية السورية

يكتبها: غسان المفلح

  لو تركنا ملف السجن الأسدي العام في سورية، وحاولنا الدخول إلى بضعة تفاصيل تخص تاريخ سورية المعاصر، سنجد الكثير من المغالطات. منها تصوير النخب السورية من قبل اليسار السوري عموما واليسار القومي البعثي خصوصا، قبيل استلامه السلطة بانقلاب آذار 1963، على أنها نخب إقطاعية وبرجوازية، ويجب تأميمها. هذا تسويق للانقلاب البعثي الناصري على مسيرة الديمقراطية الهشة في سورية.

بالتأكيد في هذا التوصيف ما هو حق، لكن يراد به باطل. تراوحت التسمية بين برجوازية كولونيالية من جهة، وعادت القصة أيضا من خلال اتهام هذه الطبقة بأنها كانت حلفة للإخوان المسلمين في احداث بداية الثمانينيات والصراع مع الاسدية. في حلف رجعي اسود كما سماها حزب العمل الشيوعي مثلا.
دمشق وحلب وبقية المدن السورية كانت تقاد أهليا من قبل طبقة اعيان. لست هنا بصدد الدخول في تاريخ تفصيلي حول هذه المسألة. لكن ما أود الإشارة إليه حتى في الأرياف السورية، كان هنالك اعيان ووجهاء عشائر يقودون بشكل شبه طوعي المجتمعات الأهلية بالريف السوري. الاعيان ودون الدخول في التسميات العائلية والعشائرية والفردية، لأن هذه مهمة المؤرخ. أريد القول إن هؤلاء الاعيان رغم الانقلابات العسكرية في العقد الأول من الاستقلال 1946-1954، لم تستطع السلطات الانقلابية تجاوز أعيان المدن على الأقل. الأعيان كان كلا منهم مركز قوة. كان هنالك ما يشبه توزيع للسلطة ضمني ونسبي بينهم. مراكز القوى هذه ذات بعد تاريخي في الواقع. يمكننا ان نسميه” تراكم الثروة والنفوذ” منذ أيام الاحتلال العثماني ومنهم من قبل هذا الاحتلال. كانت امتداداتهم في المجتمعات الاهلية، تجعل منهم سلطة بحدود ما. الأهالي عندما يتعرضون لمشكلة يذهبون لهؤلاء الأعيان. خاصة بعد تشكيل مؤسسة المبعوثيان من قبل الاحتلال التركي، والتي تعادل مجلس الشعب. لم يكن الأهالي في الأرياف يلجؤون للسلطات. أمثلة كثيرة في حوران سهل وجبل منها آل الحريري آل الزعبي آل عامر وفيما بعد آل الأطرش. يمكن الحديث عن شكل إقطاعي ما في السويداء، لكن سهل حوران لم يعرف الأقطاع. أعيانه كانوا أعيان عشائريين وليسوا إقطاعيين.  في دمشق التي كان أعيانها الكتلة الأهم داخل الحزب الوطني، الذي تأسس من قبل رموز ما كان يسمى الكتلة الوطنية التي ساهمت في مقارعة الاستعمار الفرنسي سياسيا، ومنها من ساهم في النضال بوجه الاحتلال العثماني*. أيضا اعيان حلب كانوا الكتلة الأهم في حزب الشعب**. كثير من هؤلاء الأعيان كانوا أحيانا يجلبون بعض الحقوق الطارئة للناس من الدولة. بحكم موقعهم هذا. بطريقة أهلية بمحلية أيضا.

كانت سورية حتى مجيء البعث تعيش توزعاً خاصاً للسلطة فيها، يتناسب مع تطور المجتمع السوري. إبان الاحتلالين العثماني والفرنسي، نلاحظ أن هذا التوزع وهذا التطور أتى مزيجا من تأثير هذين الاحتلالين. هذا المزيج كان يمنع بعد الاستقلال تشكل مركز قوى ديكتاتوري واحد، لولا أن فتحت الإمبرياليات الغربية ملف الجيش ليكون بديلا جاهز لأية سلطة تخالفها من جهة، أو أية سلطة تتحالف مع إمبريالية في خلاف سياسي أو اقتصادي مع إمبريالية أخرى.

ساعد الاحتلال العثماني في الحقيقة على تعزيز سلطة الوجهاء أو الأعيان، ليتأثروا لاحقا ثقافيا وسياسيا مع تأثيرات الاحتلال الفرنسي ذات البعد الليبرالي. بالمناسبة حتى على الصعيد الكردي والآشوري- السرياني كان هنالك أعيان مشاركين بدرجة ما في هذا التوزع للسلطة الأهلية والثروة. في جبال الساحل أيضا، لم يكن الاقطاع وتحالفهم مع مشايخ العلوية من السنة بل معظمهم من العلويين أنفسهم. لكن محمد إبراهيم العلي روائي الجيش الشعبي بوصفه قائدا أيضا له في زمن الأسد الاب، جعل كل الإقطاع سنة -ما علينا- لهذا بحث آخر!

 في الواقع سورية لم تعرف الإقطاع بمعناه المتعارف عليه سوى في منطقة الساحل وبعض قرى قليلة لملاك آشوريين أو كرد إضافة لقسم من ريف حلب. ما أردته من هذه المقدمة السريعة، هو أن الانقلابات الأولى في سورية خلال العقد الأول من الاستقلال، لم تقرب من مراكز القوى هذه إلا أنها أضعفتها قليلا. حتى جاء انقلاب البعث 1963 وما تبعه حتى وصلنا إلى إنقلاب الأسد 1970 الذي جعل الجيش السلطة المطلقة في البلاد. ثم استبدل الجيش بشخصه. في هذا الانقلاب كانت مراكز القوى الاهلية قد أصابها شبه تلاشي. والتي بقيت في بعض الريف السوري، قد وأكمل عليها الأسد في المدن. لتقاد سورية برمتها من ديكتاتور واحد مركز قوى واحد وشخصي. كما أنه وضع من تبقى من مراكز قوى أهلية تحت تصرفه بالقمع والرشوة. صار الوجهاء رويدا رويدا أعضاء في حزب البعث ما عدا قليل منهم. بذلك يمكننا القول ببساطة أن الجيش في كثير من بلدان العالم الثالث قد صار لاعبا أساسيا في السياسة والحكم. هذه الورقة وضعتها تطورات الحالة التي أطلق عليها ظاهرة” الاستعمار الجديد” لإعادة تفعيل السيطرة والهيمنة على تلك البلدان.
ليس بالضرورة أن يكون هؤلاء الأعيان، لو أخذنا كل فرد فيهم على حِدى، فهم أناس جيدون لا بالمعاني الطبقية ولا حتى الأخلاقية أحيانا. لكنهم كانوا يتوزعون السلطة بحيث من الصعب قيام ديكتاتورية ما من قبلهم. الديكتاتورية حلت في بلدان العالم الثالث آنذاك لأن الدول المستعمرة سابقا، قد وضعت ملف الجيش على طاولة السياسة. في هذا الصدد يتم تداول مقولة في شتم جمال عبد الناصر والناصريين، أنه هو السبب في انتشار الانقلابات العسكرية والحكم الديكتاتوري في المنطقة وهذا محض افتراء. في الحقيقة الانقلابات العسكرية افتتحوها جنرالات سورية قبل عبد الناصر..

يتبع

هوامش:

* في عام 1928 اجتمع السياسيون السوريون وأغلبهم يوصف «بالمستقل» والبعض الآخر من أنصار الشهبندر وأعلنوا رسميًا ميلاد «الكتلة الوطنية» قبيل موعد انتخابات الجمعية التأسيسية؛ أغلب قادة الكتلة كانوا من الذين قاوموا في السابق الدولة العثمانية خلال حقبة الحرب العالمية الأولى وطالبوا باستقلال سوريا عنها، أيضًا فإن أغلب قادة الكتلة كانوا من العائلات الإقطاعية التي كانت تملك مساحات واسعة من الأراضي الزراعية السورية فضلاً عن قرى برمتها، وهي إحدى السلبيات التي وصف بها الحكم في سوريا خلال عهد الجمهورية الأولى بأنه حكم «الطبقة الأرستقراطية». اختير هاشم الأتاسي رئيسًا للكتلة عند تأسيسها عام 1928 وحتى انتخابه رئيسًا عام 1936؛ من قيادات الكتلة البارزة الأخرى كانت جميل مردم بيك وسعد الله الجابري ومحمد الرفاعي ونسيب البكري وإبراهيم هنانو وفخري الباردوي وفارس الخوري ومحمد الأشمر وأحمد الكيالي ولطفي الحفار وشكري القوتلي.



** ظهر انشقاق واضح وبرز تياران في الكتلة الوطنية: التيار الراديكالي الموالي لبريطانيا والهاشميين بقيادة عبد الرحمن الشهبندر، والتيار الليبرالي الذي سعى إلى أن تكون سوريا أكثر استقلالية بقيادة شكري القوتلي. وبعد حادثة اغتيال عبد الرحمن الشهبندر التي اتهمت الكتلة الوطنية بها رغم تبرئتها لاحقًا، قام أنصار كل تيار بإنشاء حزب فكان حزب الشعب بقيادة رشدي كيخيا و‌ناظم القدسي والحزب الوطني بقيادة شكري القوتلي.

زر الذهاب إلى الأعلى